تمهيد……..
.في الواقع إن لابن تيمية أقولا ثلاثة في إثبات لفظ الجهة لله تبارك تعالى:الأول: أن إطلاق لفظ الجهة على الله نفيا أو إثباتا هو أمر مبتدع، وهذا قاله في إحدى جلسات محاكمته أو مناظرته للقضاة، وقد حكى هو عن نفسه في الفتاوى الكبرى (6/ 325) قوله: أما قول القائل: ” الذي نطلب منه أن يعتقده أن ينفي الجهة عن الله والتحيز ” فليس في كلامي إثبات لهذا اللفظ؛ لأن إطلاق هذا اللفظ نفيا وإثباتا بدعة، وأنا لا أقول إلا ما جاء به الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة.اهـوالثاني: أن لفظ الجهة لفظ مجمل، يحتمل حقا وباطلا، فلا ينبغي أن تنفى الجهة عن الله مطلقا، ولا تثبت له مطلقا حتى يُستفصل مُطلِقها، وفي ذلك يقول وهو يتحدث عن الجهة في منهاج السنة النبوية (2/ 188):والمتبعون للسلف لا يطلقون نفيها ولا إثباتها إلا إذا تبين أن ما أثبت بها فهو ثابت وما نفى بها فهو منفى لأن المتأخرين قد صار لفظ الجهة في اصطلاحهم فيه إجمال وإبهام كغيرها من ألفاظهم الإصطلاحية فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي ولهذا كان النفاة ينفون بها حقا وباطلا ويذكرون عن مثبتيها ما لا يقولون به وبعض المثبتين لها يدخل فيها معنى باطلا مخالفا لقول السلف ولما دل عليه الكتاب والميزان…اهـثم ينتهي ابن تيمية من هذا القول الثاني إلى إثبات ما سماه بالجهة العدمية لله، فهو يقول بعد كلامه السابق مباشرة: “وذلك أن لفظ الجهة قد يراد به ما هو موجود وقد يراد به ما هو معدوم ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله كان مخلوقا والله تعالى لا يحصره ولا يحيط به شيء من المخلوقات فإنه بائن من المخلوقات وإن أريد بالجهة أمر عدمى وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله وحده فإذا قيل إنه في جهة إن كان معنى الكلام أنه هناك فوق العالم حيث انتهت المخلوقات فهو فوق الجميع عال عليه”اهـالقول الثالث: إثبات الجهة الحسية لله مطلقا، بل ادعى ابن تيمية أن هذا القول هو ما عليه الكتاب والسنة والإجماع وهو ما يقتضه العقل الصريح والفطرة السليمة؛ وهذا القول الثالث هو ما سار عليه ابن تيمية في معظم كتبه ومناظراته وردوده وهو الذي نصب فيه النزاع، فهو مثلا يقول في بيان تلبيس الجهمية (2/ 409): الوجه الثالث ان كون الرؤية مستلزمة لأن يكون الله بجهة من الرائي امر ثبت بالنصوص المتواترة….. ويقول بعد ذلك ص415 : الوجه الرابع ان كون الله يرى بجهة من الرائي ثبت باجماع السلف والأئمة …..اهـويصرح في موضع آخر بأن الجهة المنسوبة التي يقصدها الجهة المخلوقة لله لا العدمية فحسب كما قد يظن بعض أتباعه، ففي معرض الرد على من يقول يلزم من ذلك افتقار كمال الله إلى جهة العلو وشرفها، يقول ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل (7/ 21): “فالمقصود أنه خلق المكان وعلاه وبقوته صار عالياً والشرف الذي حصل لذلك المكان العالي منه ومن فعله وقدرته ومشيئته فإذا كان هو عالياً على ذلك وهو الخالق له، وذلك مفتقر إليه من كل وجه، وهو مستغن عنه من كل وجه فكيف يكون قد استفاد العلو منه، ويكون ذلك المكان أشرف منه؟”.اهـقال وليد: وعلى الرغم مما في هذه الأقوال الثلاثة من اضطراب، فإنه يبدو للناظر أن ابن تيمية تدرج في إثبات لفظ الجهة لله تعالى على ثلاثة مراحل وهي بالترتيب: المرحلة الأولى: لم يثبتها ولم ينفها، لما قاله من “أن إطلاق هذا اللفظ نفيا وإثباتا بدعة، وأنا لا أقول إلا ما جاء به الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة” كما سبق.المرحلة الثانية: إثباته الجهة على معنى معين وهو الجهة العدمية، ونفيه للجهة المخلوقة عن الله؛ وهذا الموقف يخالف قطعا موقفه الأول، لأنه إذا تهيب في الأول من إطلاق الجهة على الله إثباتا أو نفيه بحجة أن ذلك بدعة لم يأت في الكتاب أو السنة أو إجماع السلف؛ فكان الأجدر بابن تيمية أن يتورع عن إثبات الجهة العدمية لله من باب أولى، لأن الجهة العدمية هي من بدع ابن تيمية واختراعاته التي لم يقل بها أحد من العقلاء فضلا عن تأتي في الكتاب أو السنة أو السلف. ثم إنه من المعلوم أنه إذا انتفى الأعم انتفى الأخص من باب أولى ، فالجهة أعم من الجهة العدمية أو الوجودية ـ على حد تقسيم ابن تيمية ـ فإذا كان ابن تيمية ينفي أن يكون ورد في الكتاب أو السنة أو كلام السلف إثبات مُطلَق لفظ الجهة لله كما في قوله الأول، فمن باب أولى أن ينتفي في الكتاب والسنة وكلام السلف ثبوت الجهة العدمية التي هي أصلا من كيس ابن تيمية.المرحلة الثالثة: وهو إثبات ابن تيمية للجهة الحسية المخلوقة لله كما سبق بيانه، وقوله هذا هو مخالف لكلا القولين في كلا المرحلتين السابقتين، إلا أن الثالث أشد مخالفة للأول من الثاني، فالأول والثالث قولان متضادان إن لم نقل متناقضين، والثاني وسط بين الأول والثالث من قولي ابن تيمية؛ فهو في قوله الأول جعل إطلاق الجهة على الله بدعة لم ترد في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام السلف، وأما في القول الثالث فجعل ثبوت الجهة لله ثابت بالكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، وفي الثاني جعل لفظ الجهة مجمل لينتهي إلى إثبات الجهة العدمية دون المخلوقة.والحاصل أن ابن تيمية ربما تدرج عبر هذه المراحل الثلاثة من التهيب من إطلاق لفظ الجهة على الله نفيا أو إثباتا، إلى إثبات الجهة العدمية ونفي الجهة المخلوقة، ليصل في المرحلة الأخير من إثبات الجهة مطلقا لله حتى المخلوقة؛ وعلى الرغم من أن هذا التدرج هو التحليل المنطقي الأقرب لفهم أقوال ابن تيمية الثلاثة المضطربة في الجهة، إلا أن بعض الفضلاء وهو صديقنا العلامة أحمد زاهر سالم اعتبر أن ابن تيمية ذهب أولا إلى القول بالجهة مطلقا ثم لما اعتُرض عليه في ذلك وأُلزم بلوازم القول بالجهة ابتدع الجهة العدمية فرارا من تلك اللوازم، وقد قام صديقنا جزاه الله خيرا ببسط الكلام في هذا المقام ورد على ابن تيمية في قوله بالجهة العدمية ردا وافيا، وسوف نسوق كلام صديقنا بطوله لما فيه من نفائس، انظر اللاحق:
https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/459445924169435/