مناظرات وردود على الوهابية

مناظرة الشنقيطي للوهابية في نجاة الوالدين .. وقوله: وما كُنْتُ لأرُدَّ نصًّا قطعيَّ المتنِ قطعيَّ الدلالة بنصٍّ ظَنيِّ المتن وظني الدلالة عند التَّرجيح بينهما؛ فهذا الحديث خبر آحاد ـ أي حديث: “إنَّ أبي وأباك في النار” ـ ومثله حديث أبي هريرة عند مسلم: “استأذنت ربي أنْ أزور أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي”.

«مجالس مع فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي» (ص40):
«وكانت حلقة الشَّيخ محمَّد الأمين في المسجد النبوي تكاد تكون الوحيدة به؛ ذلك أنَّ أكثر المدرِّسين بالمسجد إذا جلس الشَّيخُ في حلقته التحقوا بها للاستفادة، وكان الشَّيخ قد ذكَرَ في بعض هذه الدُّروس أنَّ والدَيْ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من أهل الفترة، وذَكَرَ ما يقوله أهل العلم في أهل الفترة»

وحَدَّثني -عليه رحمةُ اللَّه- أنَّه استدعاه سماحة الشَّيخ عبد اللَّه الزَّاحم إلى منزله، فلما حَضَرَ رَحَّبَ به وأوسعَ له في المجلس إلى جَنْبه، وكان مجلسُهُ ذلك الوقت ليس به إلّا المنتسبون للعلم، وكان بينَ أيديهم كتابٌ فيه مرجع.
قال الشَّيخ محمَّد الأمين: فلما انتهى التَّسليم ناولني الشَّيخ عبد اللَّه الزّاحم الكتاب، فإذا هو شرح النووي على صحيح مسلم والمرجع فيه عند حديث: “إنَّ أبي وأباك في النار”.
فقلتُ: هذا الحديث كُنْتُ أعرفه!
قال سماحة الشَّيخ عبد اللَّه الزَّاحم: إنَّكَ قبلَ أيامِ قلتَ في الدرس كذا، لِما قرَّر من أنهما أهل فترة.
قال شيخنا: قلتُ: نعم، قلتُ ما قلتُ اعتمادًا على نصٍّ من كتاب الله قطعيِّ المتن وقطعيِّ الدلالة، وما كُنْتُ لأرُدَّ نصًّا قطعيَّ المتنِ قطعيَّ الدلالة بنصٍّ ظَنيِّ المتن وظني الدلالة عند التَّرجيح بينهما؛ فهذا الحديث خبر آحاد، ومثله حديث أبي هريرة عند مسلم: “استأذنت ربي أنْ أزور أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي”، ولكن أخبار الآحاد ظنية المتن فلا يردُّ بها نصٌّ قرآنيُّ قطعيُّ المتن، وهو قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ

رَسُولًا} [الإسراء: 15]؛ أي: ولا مُثيبين.
وهذا النصُّ قطعيُّ الدلالة لا يحتمل غير ما يدلُّ عليه لفظهُ بالمطابقة، بخلاف حديث: “إنَّ أبي وأباك في النَّار؛ فإنه ظنيُّ الدلالة؛ يحتمل أنَّه يعني بقوله: “إنَّ أبي” عمَّهُ أبا طالب؛ لأنَّ العرب تسمي العمَّ: أبًا، وجاء بذلك الاستعمالِ كتابُ اللهِ العزيز في موضعين:
أحدهما: قطعيُّ المتن قطعيُّ الدلالة، وهو قوله تعالى في البقرة: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133]، وإسماعيل عمُّهُ قطعًا؛ فهو يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم.
والموضع الثَّاني: قطعيُّ المتن لكنَّه ظنيّ الدلالة، وهو قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} إلى أن قال: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا} [الأنعام: 86]؛ فهو نصٌّ قرآني على أن إبراهيم يطلق عليه أنَّه أبٌ لِلُوط، وهو عمُّه على ما وردت به الأخبار، إلا أنَّ هذا النص ظني الدلالة لأنه يحتمل أن يكون الضمير من قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} يرجع إلى نوح، لأنه قال في الآية من قبل ذلك

{وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ}، ولكنه احتمال مرجوح؛ لأن الكلام عن إبراهيم.
وإذًا فإنَّه يحتمل أنَّه – صلى الله عليه وسلم – لما سأله الأعرابي بقوله: أين أبي؟ وقال له: إنَّ أباكَ في النَّار، وولَّى والحزن بادٍ عليه، فقال -عليه الصلاة والسلام-: “ردُّوه عليَّ”، فلما رجع قال له: “إن أبي وأباك في النَّار”.
يحتمل أنَّه يعني بأبيه: أبا طالب؛ لأنَّ العرب تسمِّي العَمَّ أبًا لاسيما إذا انضمَّ إلى العُمومةِ التربيةُ، والعطفُ، والدفاعُ عنه.
ثم قال: والتَّحقيق في أبوي رسول اللَّه – صلى الله عليه وسلم – أنهما من أهل الفترة؛ لأن تعريف أهل الفترة أنهم القوم الذين لم يُدركوا النذارة قبلهم، ولم تدركهم الرّسالة التي من بعدهم، فإذا كان ذلك كذلك، فإنَّ والد النبي – صلى الله عليه وسلم – التحقيقُ أنَّه مات والنبي -بأبي وأمي هو- حَملٌ في بطن أمه، وأمّه – صلى الله عليه وسلم – ماتت وهو ابن ستة أعوام بلا خلاف، وإذًا فإنهما من أهل الفترة.
فقال أحد الحضور: العربُ كانوا على دين إسماعيل فعندهم نِذارةٌ أدركوها

فقال له الشَّيخ الأمين: هل أنت على بصيرةٍ مما تقول؟ فقال: نعم.
فقال له الشَّيخ محمَّد الأمين: أين أنت من قوله تعالى في سورة يس: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6]، وما هنا نافيةٌ على التحقيق بدليل الفاء في قوله: {فَهُمْ غَافِلُونَ}؛ أي: لعلة عدم إنذارهم.
وأين أنت من قوله تعالى في سورة القصص: {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} الآية [القصص: 46].
وأين أنت من قوله تعالى في سورة سبأ: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} الآية [سبأ: 44].
وأين أنت من قوله تعالى في سورة السَّجدة: {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} الآية [السجدة: 3].
قال شيخنا: إن التَّحقيق في أهل الفترة، والبَلَه، وأولاد المشركين الذين ماتوا صغارًا أنَّهم تُشبُّ لهم نارٌ يوم القيامة في عرصات المحشر فيؤمرون باقتحامها، والله تعالى يعلم مَنْ خَلَقَهُ منهم للجنة فيقتحمونها فتكون عليهم بردًا ويذهب بهم ذات اليمين

ويعلم من خَلَقَهُ منهم للنَّارِ فيمتنعون من دخولها فيذهب بهم ذات الشمال، ذكر ذلك ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} الآية [الإسراء: 15].
وقال: إنّه جاءت بذلك أحاديث؛ منها الصحيح، ومنها الحسن، ومنها ما هو ضعيف يتقوَّى بالصحيح والحسن؛ وإذا كانت أحاديث الباب متعاضدة على هذا النَّمَط أفادت الحجة عند الناظر فيها.
فقال أحد الحضور: هذا تكليفٌ والآخرةُ دارُ جزاء فهي يوم الدِّين.
فقال له شيخنا: هل أنت على بصيرةٍ من قولك هذا؟ قال: نعم.
قال الشيخ محمَّد الأمين: قال تعالى في سورة القلم: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} الآية [القلم: 42]، أيُّ يوم هذا يا معشر الحضور؟ وهَلْ كان هذا تكليفًا في عرصات القيامة بنصِّ كتاب الله؟
وأيضًا، قد ثبت في الصحيح أَنَّ المؤمن يسجد لله يوم القيامة، وأنَّ المنافق لا يستطيع السجود، وتكون ظهور المنافقين مثل صياصي البقر، أليس هذا بتكليفٍ في عرصات القيامة؟
قال أحد الحضور: أليس بالإمكان حمل الخاصِّ على العام؟ لأنَّ

الخاص يقضي على العام عند الجمهور؛ فقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] دليل عام، والأحاديث الواردة في أشخاص معينين دليلٌ خاص، فما أخرجه دليلٌ خاص خرج من العموم، وما لم يخرجه بقي على عمومه داخلًا فيه.
قال شيخنا: إنَّ هذا التخصيص لو قلنا به لأبطل ذلك حكمة العام؛ لأنَّ الله تعالى تمدَّحَ بكمال الإنصاف، وأنه لا يعذب أحدًا حتَّى يقطع حجة المعذَّب بإنذار الرسل له في دار الدنيا، فلو عَذَّبَ أحدًا من غير إنذار لاختلَّتْ تلك الحكمة التي تمدَّحَ اللَّه بها، ولثبتتْ لذلك المعذَّب الحجةُ على الله التي أرسلَ الرسلَ لقطعها كما بيَّنَهُ تعالى في سورة النساء: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} الآية [النساء: 165].
وهذه الحجّة التي أرسل الرسل لقطعها بينها في آخر سورة طه بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]، وقال تعالى في سورة القصص: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 47]

فيتعيَّن بكلِّ هذه الحُجج عذرُ أهل الفترة (1) بفترتهم في الدنيا، وأنهم مُمْتَحنون يوم القيامة، ولا يعلم مَنْ يقتحم منهم النَّارَ مِمَّن يمتنع إلا الله الَّذي خلقهم، والعلم عند الله تعالى هو حسبنا ونعم الوكيل.
ثم إنَّ الشَيخَ عبد الله الزاحم قد نَصَحَ بعض الحضور لهذه الجلسة قائلًا: إنَّ من نصيحتي لك أنْ لا تتكلم في مجلس فيه هذا الرجل الَّذي تَسَلَّح بآياتِ كتاب الله، ينظر إليها كأنَّها بين عينيه، فلا يؤمَن على أَحَدٍ عارضه أن يرميه بآيةٍ تخرجه من المِلَّة، نسأل الله السَّلامة والعافية.
وهذه النَّصيحة سوف تظهر في فحوى كلامِ سماحته في المجلس بمنزلهِ بعد هذا بثلاثة أيامٍ أو نحوها.
وحدَّثني شيخي عليه رحمةُ الله: أنَّه بعد هذا المجلس بنحو ثلاثةِ أيامِ دعا سماحة الشَّيخ عبد الله بن زاحم النَّاسَ دعوةً عامَّةً على شرف الشيخ محمَّد الأمين الشَّنقيطي، حَضَرَها كثيرٌ من المنتسبين للعلم، وكانوا يتكلَّمون ويبحثون بحثًا عامًّا كلٌّ فيما يحلو له، وكان من عادة شيخنا عَدَمُ الكلام في المجلس إلا إذا سُئِلَ عن
‌‌_
(1) ينظر نثر الورود على مراقي السعود: (1/ 45 – 48)

====

شيء، أو إذا سمع غلطًا لا يحسن السُّكوتُ عليه.
فبينما الحضور في ذلك البحث العام إذ قال أحدهم: إنَّ التاريخ محفوظٌ من عهد آدم إلى يومنا هذا.
فاعترضه الشَّيخ -عليه رحمةُ الله- قائلًا: لا تقل هذا فالتّاريخ غيرُ محفوظ!.
فأجابه قائلًا: هذا ابن كثير في البداية والنهاية أتى به مبينا وقائع كلّ سنة؛ فهو محفوظ!.
فقال شيخنا عليه رحمة الله: يا أخي إن اللهَ تعالى يقولُ لنبيِّه – صلى الله عليه وسلم – في سورة النساء: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} الآية [النساء: 164].
فأجاب البَّاحث قائلًا: يمكن أنْ يكون قَصَّهم عليه في نوع آخر من الوحي غير التنزيل.
فقال شيخنا: أحسنتَ في جوابك عن هذه، ولكنْ ما هو جوابك عن ما جاء في سورة إبراهيم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} [إبراهيم: 9]، أَفَعَلِمَهُم ابنُ كثير حتَّى يكتب عنهم؟!

وعندها صاح سماحَةُ الشَّيخ عبد الله الزَّاحِم قائلًا: هذا الموقف الذي كُنْتُ أخشاهُ عليك، أَجِب: {لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ}! أَفَعَلِمَهُم ابنُ كثير؟! نصحتُك لكنَّكَ لم تقبل نصيحتي.
رحمَ اللَّهُ جميعَهم، وعمهم بشآبيبِ رحمته، إنَّه سميعٌ مجيب

الكتاب: مجالس مع فضيلة الشيخ محمد الأمين الجكني الشنقيطي – رحمه الله تعالى –

المؤلف: أحمد بن محمد الأمين بن أحمد بن المختار المحضريّ، ثم الإبراهيمي، ثم الجكنيّ الشنقيطي (ت ١٤٣٤ هـ)

الناشر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الكويت

الطبعة: الأولى، ١٤٢٨ هـ – ٢٠٠٧ م

السابق
مفاجأة .. 49 آية صريحة خالفها وتأولها ابنُ تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب في قولهم بفناء النار مقابل أربعة آثار بها معظمها في غاية الضعيف تمسك بها ابن القيم بالإضافة إلى سفسطة دهرية عوّل عليها …!! تابعوا هذه المناظرة الشيقة بين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي مع مفتي السعودية محمد بن إبراهيم وأخيه، وحينما أُنكر عليه ذلك قال: مَنْ أخبرك أن الرَّسولَ الذي أُرسِلَ إلي، ووَجَبَ علي الإيمان بما جاء به اسمه محمَّد بن عبد الوهاب؟!
التالي
(2) مناقشة قول ابن تيمية بأن استواء الله تعالى يُفسر بنفس معنى استوائنا على الدواب[1]