حلول الحوادث بذاته تعالى

ما مقصود الرازي من قوله ـ الذي فرح به ابن تيمية وأتباعه ـ من أن حلول الحوادث بذاته تعالى لازم لمعظم العقلاء ومذاهبهم؟!

نعم فرح به ابن تيمية وأتباعه لأنهم قائلون بحلول الحوادث بذاته تعالى فتوركوا على كلام الإمام الرازي في الباب دون أن يتفطنوا لمرمى الإمام، ولا لطريقته في كتبه ولا لمنهجه في تقرير مطالبه الكلامية كما بينت ذلك في موضعه، ولقد انبرى لتوضيح كلام الرازي هنا صديقنا الفاضل العلامة أحمد زاهر سالم في رسالته للماجستير القيمة بعنوان: “قياس الأولى وأثره في فهم صفات الله بين الأشاعرة وابن تيمية” فقال:

وقد اتفقت كلمة الأشاعرة على نفي حلول الحوادث بذات الله تعالى، وما ذكره الإمام فخر الدين الرازي من أن أكثر العقلاء قائلون بهذا الأصل في الحقيقة أو لازم لهم وإن كانوا ينكرونه في ظاهر الأمر بلسانهم، وبينه أحسن بيان في عدد من كتبه كالأربعين[1]، وقد لخصه الإمام التفتازاني أحسن تلخيص في شرح المقاصد[2] وحاصله: أما الأشاعرة فلأن زيداً إذا وجد كان الواجب غير قادر على خلقه بعد ما كان وفاعلا له عالماً بأنه موجود مبصراً لصورته سامعاً لصوته آمراً له بالصلاة بعد ما لم يكن كذلك، وأما المعتزلة فلقولهم بحدوث المريدية والكارهية لما يراد وجوده أو عدمه، والسامعية والمبصرية لما يحدث من الأصوات والألوان، وكذا بتجدد العالميات والمعلوميات عند أبي الحسين البصري، وأما الفلاسفة فلقولهم بأن لله إضافة إلى ما حدث ثم فني بالقبلية ثم بالبعدية ثم المعية) ا.هـ

ثم جاء ابن تيمية واحتفى بهذا الكلام من هذا الإمام وأشاد بذكره ورد به على خصومه مراراً[3].

أقول: الجواب عنه من وجوه:

الوجه الأول: أن الإمام الرازي كثيراً ما يورد في كتبه أبحاثاً وإيرادات واعتراضات لا يقول بموجبها ولا تمثل حقيقة مذهبه، من باب تكثير البحث وإعمال الفكر وشحذ همم الأنظار لترتقي عن حضيض التقليد إلى سمو البحث والنظر ورد الشُبه وتقرير المذهب الحق.

وقد أشار إلى ذلك في وصيته راجياً منا له الدعاء لا الغمز والإنكار فقال: (وأما الكتب التي صنفتها واستكثرت فيها من إيراد السؤالات فليذكرني من نظر فيها بصالح دعائه على سبيل التفضل والإنعام، وإلا فليحذف القول السيئ فإني ما أردت إلا تكثير البحث وشحذ الخاطر، والاعتماد في الكل على الله تعالى)[4].

وهذه المسألة من هذا القبيل، فقد أورد الإمام هذا البحث بعد أن قرر المذهب الحق تقريراً يصلح أن يكون هو نفسه جواباً عن هذه الشبهة، ثم عقبه ببيان أدلة مذهب أهل الحق مقوياً لها ورد شبه الخصوم مفنداً لها، فقال:[5] (إذا عرفت هذا، فنقول: أما وقوع التغير في الإضافات، فلا خلاص عنه، وأما وقوع التغير في الصفات الحقيقية، فالكرامية يثبتونه، وسائر الطوائف ينكرونه. فظهر الفرق في هذا الباب بين مذهب الكرامية ومذهب غيرهم. والذي يدل على فساد قول الكرامية وجوه). ثم شرع في ذكرها.

الوجه الثاني: أن هذا من إنصاف الإمام ونزاهة تحريه للحق وترفعه عن التقليد، فقد كان يقرر مذهب الخصم ويورد أدلته بصورة يعجز عنها الخصم نفسه وربما اخترع له أدلة ثم يردها، ولكنه يكتفي في الرد عليها أحياناً بكلمات قليلة أو إشارة سريعة، إما لكون مذهب المخالفين ظاهر البطلان، أو لأن قليل الكلام يغني عن كثيره، أو لأن أدلة المذهب الحق ظاهرة ناهضة تكفي الإشارة إليها، وربما ذكر مسألة وأورد فيها إشكالاً يريد به التنبيه على أنه أصل المشكلة وأنه مأخذ عظيم يتنبه منه على إشكالات عظيمة، ويعرف به صعوبة المسألة ودقتها[6].

الوجه الثالث: أن أئمة المذهب اعتنوا ببحث الإمام وردوا عليه، من ذلك ما ذكره الإمام صفي الدين الهندي: (وما قال الإمام في هذا المقام أن أكثر العقلاء قالوا به وإن أنكروه باللسان وبينه بصور، فليس كذلك، لأن أكثر ما ذكر من تلك الأمور فإنما هي أمور متجددة لا مستحدثة، والمتجدد أعم من الحادث، ولا يلزم من وجود العام وجود الخاص، بل الخلاف فيه مع المجوس والكرامية)[7].

وما ذكره الإمام التفتازاني[8] بعد أن حرر محل النزاع قال: (وبهذا يندفع ما ذكره الإمام الرازي من أن القول بكون الواجب محلاً للحوادث لازم على جميع الفرق وإن كانوا يتبرؤون منه ثم بين وجه اللزوم كما تقدم، ثم قال: وهم لا يقولون[9] بوجود كل إضافة حتى يلزم اتصافه بموجودات حادثة على ما هو المتنازع، وهذه الشبهة هي العمدة في تمسك المجوزين فلا تكون واردة في محل النزاع).

ولا ينبغي أن يفهم من ذلك اتهامهم الإمام بالقول به، فإنهم قصدوا الرد على بحثه الذي ينسب إليه وأكثر كلامه في ذلك إشكالاً ما ذكره الإمام في المطالب رداً على من قالوا: إن القول بكونه تعالى محلاً للحوادث اختص به الكرامية، فقال الإمام: وأنا أقول إن هذا قول قال به أكثر أرباب المذاهب، أما الأشعرية فإنهم يدعون الفرار من هذا القول إلا أنه لازم عليهم من وجوه …الخ، وذكرها ثم قال: فيثبت بهذا البحث الذي ذكرناه أن القول بحدوث الصفات في ذات الله قول قال به جميع الفرق.

قلت: ما ذكره الإمام أراد به الصفات التي هي محض النسب والإضافات والصفات الحقيقية الموصوفة بالإضافات والنسب من حيث تعلقاتها، ولم يرد الصفات الحقيقية من حيث هي قائمة بالله تعالى، ولذلك بعد أن قسم الصفات إلى ثلاثة أقسام قال: أما القول بحدوث الصفات الإضافية فذاك أمر يجب الاعتراف به ولا يمكن إنكاره البتة، ثم بين أن محل الخلاف في الصفات الحقيقية سواء أحصلت لها إضافات إلى الغير أم لم يحصل، فمن الناس من جوز حدوث مثل هذه الصفات في ذات الله، ومنهم من منع منه[10].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ج1 ص168_170 والمطالب العالية ج2 ص106_107 ونهاية العقول.

[2] ج2 ص70.

[3] انظر مثلاً : الدرء ج 2 ص 177 و 207.

[4] انظر: فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية والفلسفية للزركان ص 642.

[5] الأربعين ج1 ص170.

[6] (نهاية العقول…)

2 الرسالة التسعينية ص46.

[8] شرح المقاصد ج ص70_71.

[9] شرح المقاصد ج2 ص71.

[10] المطالب العالية ج2 ص106_108.

السابق
اتهام ابن تيمية الحراني للصحابي الجليل سيدنا عبد الله بن عمر: بالتشبه بأهل الكتاب!!! وفتح ذرائع الشرك!!! (منشور للشيخ الفاضل ياسين بن الربيع)
التالي
[1] ترجمة الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله