الكمال المُعتبَر في البشر يكون من أربعة أوجه: كمال الخَلق، وكمال الخُلُق، وفضائل الأقوال، وفضائل الأعمال.
وهذه الأربعة من دواعي السعادة، وقوانين الرسالة، وقد تكامَلَت في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحَقَّ ما يقتضيها.
وتلك الفضائل وإن لم تكن من معجزات النبوة – لأنه قد يُشارَك فيها – فهي من أماراتها، وتكامُلُ الفضائل مُعْوِز، فصار كالمُعجِز، وكمالُ الفضائل مُوجِب للصدق، والصدق مُوجِب لقَبول القول، فجاز أن تكون الفضائل من دلائل الرسل.
- أعلام النبوة ـ بتصرف ـ للماوردي رحمه الله
===========
أعلام النبوة :
الباب العشرون ـ في شرفه أخلاقه و كمال فضائله صلى الله تعالى عليه و سلم
فضائل محمد صلى الله عليه و سلم ثابته قبل النبوة :
المهيأ لأشرف الأخلاق و أجمل الأفعال المؤهل لأعلى المنازل و أفضل الأعمال لأنها أصول تقود إلى ما ناسبها و وافقها و تنفرد مما باينها و خالفها و لا منزلة في العالم أعلى من النبوة التي هي سفارة بين الله تعالى و عباده تبعث على مصالح الخلق و طاعة الخلق فكان أفضل الخلق بها أخص و أكملهم بشروطها أحق بها و أمس
و لم يكن في عصر الرسول و ما دانى طرفيه من قاربه في فضله و لا داناه في كماله خلقا و خلقا وقولا و فعلا و بذلك و صفه الله تعالى في كتابه بقوله : { وإنك لعلى خلق عظيم }
فإن قيل : فليست فضائله دليلا على نبوته و لم يسمع بنبي احتج بها على أمته و لا عول عليها في قبول رسالته لأنه قد يشارك فيها حتى يأتي بمعجز يخرق العادة فيعلم المعجز أنه نبي لا بالفضل
قيل : الفضل من أماراتها و إن لم يكن من معجزاتها و لأن تكامل الفضل معوز فصار كالمعجز و لأن من كمال الفضل اجتناب الكذب و ليس من كذب في ادعاء النبوة بكامل الفضل فصار كمال الفضل موجبا للصدق و الصدق موجبا لقبول القول فجاز أن يكون من دلائل الرسل
كمال خلق النبي صلى الله عليه و سلم :
فإذا وضح هذا فالكمال المعتبر في البشر يكون من أربعة أوجه :
أحدها : كمال الخلق و الثاني : كمال الخلق و الثالث : فضائل الأقوال و الرابع : فضائل الأعمال
فأما الوجه الأول في كمال خلقه بعد اعتدال صورته فيكون بأربعة أوصاف :
أحدها : السكينة الباعث على الهيبة و التعظيم الداعية إلى التقديم و التسليم و كان أعظم مهيب في النفوس حتى ارتاعت رسل كسرى من هيبته حين أتوه مع ارتياضهم بصولة الأكاسرة و مكاثرة الملوك الجبابرة فكان في نفوسهم أهيب و في أعينهم أعظم و إن لم يتعاظم بأهبة و لم يتطاول بسطوة بل كان بالتواضع موصوفا و بالوطاء معروفا
و الثاني : الطلاقة الموجبة للإخلاص و المحبة الباعثة على المصافاة و المودة و قد كان محبوبا و لقد استحكمت محبة طلاقته في النفوس حتى لم يقله مصاحب و لم يتباعد منه مقارب و كان أحب إلى أصحابه من الآباء و الأبناء و شرب البارد على الظمأ
و الثالث : حسن القبول الجالب لممائلة القلوب حتى تسرع إلى طاعته و تذعن بموافقته و قد كان قبول منظره مستوليا على القلوب و لذلك استحكمت مصاحبته في النفوس حتى لم ينفر منه معاند و لا استوحش منه مباعد إلا من ساقه الحسد إلى شقوته و قاده الحرمان إلى مخالفته
و الرابع : ميل النفوس إلى متابعته و انقيادها لموافقته و ثباته على شدائده و مصابرته فما شذ عنه معها من أخلص و لا ند عنه فيها من تخصص
و هذه الأربعة من دواعي السعادة و قوانين الرسالة و قد تكاملت فيه فكمل لما يوازيها و استحق ما يقتضيها
كمال أخلاق النبي صلى الله عليه و سلم :
و أما الوجه الثاني في كمال أخلاقه فيكون بست خصال :
إحداهن رجاحة عقله و صحة وهمه و صدق فراسته و قد دل على وفور ذلك فيه صحة رأيه و صواب تدبيره و حسن تألفه و أنه ما استفعل في مكيدة و لا استعجز في شديدة بل كان يلحظ الإعجاز في المبادي فيكشف عيوبها و يحل خطوبها و هذا لا ينتظم إلا بأصدق وهم و أوضح جزم
ثباته في الشدائد عليه السلام :
و الخصلة الثانية ثباته في الشدائد و هو مطلوب و صبره على البأساء و الضراء و هو مكروب و محروب و نفسه في اختلاف الأحوال ساكنة لا يجوز في شديدة و لا يستكين لعظيمة أو كبيرة و يقدر على الخلاص و هو بالشر لا يزداد إلا اشتدادا و صبرا و قد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي و يهد الصياصي و هو من الضعف يصابر صبر المستعلي و يثبت ثبات المستولي…