(1) الجدل العلمي بين العلامة محمد زاهد الكوثري ومعاصره الحافظ أحمد بن الصديق الغُمَاري المغربي. للأستاذ الدكتور توفيق بن أحمد الغلبزوري كلية أصول الدين – جامعة القرويين- تطوان – المملكة المغربية
مقدمة
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع هداه ، وبعد ،
فإن أهل العلم من الأقران والمعاصرين لا يزال يرد بعضهم على بعض ، ويختلف أحدهم مع الآخر ، ويراجعه القول والكلام ؛ في القضايا والمسائل العلمية ؛ لأن ( كل واحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر ) كما قال الإمام مالك ، و ( ما منا إلا رادٌّ أو مردود عليه ) كما قال بعض الأئمة كذلك .
والاختلاف في وجهات النظر ، والردود في الأمور الاجتهادية ، ظاهرة طبيعية وصحية ، تغني الاجتهاد العلمي الفكري بخصوبة في الرأي ، وقوة في الأدلة ، ورؤية واسعة فسيحة ، ثم إن الاختلاف إذا اشتدَّ واحتدَّ – بعد ذلك – عند أحد المخالفَيْن أو كليهما ؛ بسبب اختلاف المناهج والرؤى ، سمي جدلا .
وقد خاض العلامة الكوثري جدلا علميا كبيرا ، ومعارك فكرية ؛ مع بعض معاصريه من العلماء ، وعلى رأسهم حافظ المغرب أحمد بن الصديق الغماري المتوفى بالقاهرة سنة 1380 هـ ؛ رغم علاقة الصداقة والمحبة التي جمعتهما ، والاعتراف بالعلم الراسخ لبعضهما البعض .
وكان سبب احتدام الجدل العلمي بينهما تعريض الكوثري بالغماري في موضعين من كتبه ومقالاته ، وانتقاده نقدا علميا ؛ قاسيا أحيانا ، وهذا دفع الغماري إلى الرد بكتاب سماه ( بيان تلبيس المفتري محمد زاهد الكوثري أو رد الكوثري على الكوثري ) ، وجعله مقدمة لم تتم . وكان قد عقد العزم على مقابلة جل كتب الكوثري بردود من جنسها ، فيقابل النكت الطريفة للكوثري بالغارة العنيفة ، والتأنيب بسوط التأديب ، وإحقاق الحق بالتمزيق والخرق(1) ، ولكنه لم يفعل بسبب العلاقة الطيبة بينهما كما ذَكر في بعض رسائله .
وقد حاولنا في هذا البحث جَهْدَنا تتبع هذا الجدل العلمي ، والتركيز على منهج الجدل وآليته ، ومقصده وموضوعه ، وطريقته وأسلوبه ، مع طي ما لا علاقة له بالعلم من الألفاظ النابية والقاسية ، التي أقر بوجودها أخو الغماري العلامة عبد الله ـ وهو من محبي الكوثري وأصدقائه وتلامذته ـ حيث قال : ( فكَتب شقيقُنا ردا عليه ـ أي على الكوثري ـ جمع فيه سقطاته العلمية ، وتناقضاته ، وقسا عليه بعض القسوة(2) ) .
ومعروف أن كلام الأقران بعضهم في بعض يُطوى ولا يُروى ؛ لأنههم بشر يرضون ويغضبون ، والقول في الرضا غير القول في الغضب ، وإن المعاصرة حجاب ؛ كما هو مقرر في قواعد النقد في علوم الحديث .
(1) انظر: رد الكوثري على الكوثري ، لأحمد بن الصديق الغماري ، ص : 43 .
(2) بدع التفاسير ، لعبد الله بن الصديق الغماري ، ص : 181 .
أولا: بيان أن الرجلين جدليان
……إن الاختلاف العلمي إذا اشتد واحتد عند أحد المخالفين أو كليهما بسبب اختلاف المناهج والرؤى ، سمي جدلا ، وقد كان الرجلان جدليين ؛ بكل ما تحمل الكلمة من معنى ، وكتُبهما جلُّها ردود وتعقيبات ومناقشات جدلية ، ومناظرات عقدية وحديثية وفقهية،وهي أكثر كتبهما الباقية بأيدي الناس اليوم .
وكلا الرجلين حذق أساليب علم الجدل والمناظرة ؛ فلذلك جاءت ردودهما تحمل أحيانا أسلوبا حادا وعنيفا ، ونفسا ثائرة فائرة ، ولكنها أتت في نفس الوقت ؛ بمنافع علمية عظيمة ، وثمار شهية ، ما كان الرادون سينبعثون لها لولا الاستثارة للسواكن ، والاقتداح للكوامن ، مما يفضي إلى توقُّد الطبع،واحتدام الخاطر ، وتهيُّج النشاط ، وتوسُّع العلم .
وقد خاض كلاهما جدلا علميا كبيرا ، ومعارك فكرية ؛ مع بعض معاصريهما من العلماء ؛ حتى ملآ بذلك الدنيا وشغلا الناس ، وكانا في عصرهما قُطبَا الرحى لهذا الجدل الدائر ، الثائر والفائر .
فالعلامة الكوثري خاض جدلا علميا مع بعض علماء عصره : كعلامة الشام محمد بهجت البيطار، وعلامة اليمن عبد الرحمان بن يحيى المعلمي اليماني ، وحافظ المغرب أحمد بن الصديق الغماري ، وعلامة الحرم المكي محمد عبد الرزاق حمزة وغيرهم .
ثانيا : مواطن الائتلاف والاختلاف بين الرجُلَيْن
يأتلف الرجلان ويلتقيان في موضوع التصوف ، وما يتبعُه من جواز التوسل ، وإقامة المحاريب ، وبناء المساجد والقباب على القبور ؛ والصلاة إليها ، وغير ذلك ، فالعلامة الكوثري كان صوفيا ، وله رسائل ومقالات في الدفاع عن التصوف ، وكذلك كان الحافظ الغماري ، فهو شيخ الطريقة الدرقاوية الشاذلية بطنجة بعد أبيه ، وله رسائل وأقوال في النفاح عن مذاهب الصوفية .
خلاف الرجلين
……ويختلف الرجلان ويفترقان في : باب الأسماء والصفات من أبواب العقيدة ، فالغماري سلفي في هذا الباب ، والكوثري ماتوريدي منتصرٌ للماتوريدية غاية الانتصار ، وفي الفروع : فالكوثري يدعو إلى تقليد أحد المذاهب الأربعة المتبوعة ، واختار هو مذهبَ الحنفية ، وندد باللاَّمَذهبية ، وألف في ذلك رسالته (اللامذهبية قنطرة اللادينية ) ، والغماري يدعو إلى الاجتهاد ، والأخذ بالدليل ، بل يزعم لنفسه الاجتهاد المطلق ، وهو شديد على مقلدة المذاهب إلى حد الغلو في ذلك ؛ حتى إن له مؤلفا خاصا في ذلك سماه (الإقليد في تنزيل كتاب الله على أهل التقليد ) ، عمد فيه إلى تنزيل الآيات الواردة في المشركين والكفار على المقلدة .
وهذا الاختلاف أحيانا في الرؤية والمنهج بين الرجليْن كان من بواعث احتدام الجدل العلمي بينهما .
العلاقة بين الرجليْن المتعاصريْن وأقوال بعضهما في بعض
لقد كان بين العلامة الكوثري والحافظ الغماري علاقة صداقة ومحبة ، رغم الجدل العلمي والاختلاف الفكري الذي كان بينهما ، إذ يصف الأول الثاني في كتابه الذي رد به عليه : ب ( صديقنا الأستاذ الكوثري)(1) ، ويقول مبينا منزلة الكوثري العلمية عنده : ( وأما الشيخ زاهد الكوثري .. فإنه عالم فاضل ، مطلع ، واسع الاطلاع والدراية ، مع المشاركة في كثير من الفنون … وقد كنت شرعت في الرد عليه .. ثم توقفت لكون الرجل يدعي لنا بالمحبة والصداقة ، ولنا معه مجالس طويلة ، والحق أولى منه )(2) .
ويظهر أن العلامة الكوثري كان على صلة طيبة بالأسرة الصديقية الغمارية كلها بالقاهرة ؛ كتلميذيه : عبد الله بن الصديق ، وعبد العزيز ، أخوي الشيخ أحمد ، يقول عنه الشيخ عبد الله : ( كان بيني وبين الأستاذ الكوثري صلة وثيقة ، رغم سعي بعض الحاقدين لإفسادها ، وكان يقدرني كثيرا ، حتى إني لما استجزته قبيل وفاته بسنة استجازني ، وكان يسألني عن الأحاديث التي يسأله عنها بعض الناس ، واستمرت صلتنا كما هي إلى وفاته ، رحمه الله وأثابه رضاه )(3) .
(1) رد الكوثري على الكوثري ، ص : 10 .
(2) الجواب المفيد للسائل والمستفيد ، لأحمد بن الصديق الغماري ، ص : 40 .
(3) مقالات الكوثري ، ص : 211 .
ويقول : ( ونحن وإن عبنا عليه تعصبه للمذهب الحنفي ، لكراهتنا للتعصب المذهبي إطلاقا ؛ فإننا نقدر له علمه وفضله ، ونعتبره وحيد عصره ، وفريد دهره في كثرة الاطلاع…)(1) ، ويقول : ( وكنا نعجب بالكوثري لعلمه وسعة اطلاعه ، كما كنا نكره منه تعصبه الشديد للحنفية تعصبا يفوق تعصب الزمخشري لمذهب الاعتزال ، حتى كان يقول عنه شقيقنا الحافظ أبو الفيض : ” مجنون أبي حنيفة ” )(2) .
أما العلامة الكوثري فكان مقدرا جدا لعلم وفضل الأسرة الصديقية الغمارية بالقاهرة ، ولنستمع إليه وهو يثني على عبد الله بن الصديق الغماري ويصفه بألقاب علمية فخمة حيث يقول : ( فضيلة الأستاذ العلامة المحدث الناقد السيد عبد الله بن الصديق الغماري ـ حفظه الله ـ له براعة فياضة تفيض تحقيقا ، كلما جد الجد ، ووجب الرد ، فتُوقِف المتهجمين على معتقد الجماعة عند حدهم ، ولم تزل مواقف فضيلته ضد المشبهة ، ونفاة التوسل ، والمغالين في استنكار المحاريب ماثلة أمامنا ، تشهد بنبل الرأي ، ودقة النظر ، وغزارة العلم ، والبراعة في الرواية والدراية ، فيتوالى شكر أهل العلم والدين من أعماق القلوب على إجادته البالغة في الرد عليهم )(3) ، ثم يثني ثناء عطرا كذلك على كتاب عبد الله الغماري البديع المسمى ( إقامة البرهان على نزول عيسى في آخر الزمان ) الذي أحسن فيه كل الإحسان كما يقول العلامة الكوثري رحمه الله(4) .
وإذا كان هذا هو الثناء العلمي الكبير للعلامة الكوثري على عبد الله ، فما عساه يكون ثناؤه على أخيه الكبير الحافظ أحمد الغماري ، وما عبد الله إلا غَرْسُ يدِه ، وناهِجُ نهجِه ، حذو النَّعْل بالنعل ؟
(1) إرغام المبتدع الغبي بجواز التوسل بالنبي في الرد على الألباني الوَبِيّ ، لعبد الله بن الصديق الغماري ، ص : 15 .
(2) بدع التفاسير ، لعبد الله الغاري ن ص : 180 .
(3) مقالات الكوثري ، ص : 211 .
(4) المصدر السابق ، ص : 213 .
خامسا : ردود العلامة الكوثري على الحافظ الغماري
إن من البواعث المباشرة على احتدام الجدل العلمي بين الرجلين تعْرِيض العلامة الكوثري بالحافظ الغماري في مواضع من كتبه : فتعَرَّض له في كتابه ( تأنيب الخطيب على ماساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب ) حيث حاول تصحيح حديث : ( لو كان العلم بالثريا لتناوله رجال من فارس ) وعدَّه مبشرا بأبي حنيفة ـ رحمه الله ـ واردا في فضله .
وكان الحافظ أحمد بن الصديق الغماري قد ضعف الحديث بلفظ (العلم) من قَبْلُ في كتابه ( المثنوني والبتار)(1)، ثم أفرده في رسالة سماها ( إظهار ما كان خفيا من بطلان حديث لو كان العلم بالثريا)(2) ،فردّ عليه العلامة الكوثري بكلمة شديدة وقاسية قال فيها : ( ومن وهَّى الحديث من أبناء هذا العصر ، فقد أساء إلى نفسه ، وحاد عن سبيل أهل العلم ، ونطق خَلْفا ، واتبع سبيل غير المؤمنين )(3) .
(1) أنظر : بدع التفاسير ، ص : 180-181 .
(2) أنظر : فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي ، لأحمد بن الصديق الغماري ، ص : 118 .
(3) تأنيب الخطيب على ما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب ، لمحمد زاهد الكوثري ، ص : 63 .
ولما ألف الحافظ الغماري كتابه : ( تحسين الفعال بالصلاة في النعال )(1) ، رد عليه العلامة الكوثري برسالة، لعلها هي المطبوعة ضمن مقالات الكوثري ، والتي سماها : (كشف الرؤوس ولبس النعال في الصلاة) قال في مستهلها : ( كثر التساؤل هذه الأيام عن حكم صلاة المصلي وهو حاسر الرأس من غير عذر ، وعن حكم الصلاة في النعال ، حيث نجم أناس يلذّ لهم إنكار المعروف وإذاعة المنكر ، ومفاجأة الجمهور بخلاف ما توارثوه خلفا عن سلف ، وهؤلاء المُتَمَجْهِدُون(2) الساعون في الفتنة بإثارة قلاقل بين المسلمين في بيوت الله في عباداتهم له سبحانه…)(3) .
وهذا كله من الأسباب والدوافع التي أجَّجَت الجدل العلمي بين الرجليْن ، ودفعت الحافظ الغماري إلى تحرير مقدمته للرد ؛ حيث قال : (… ولذلك أنكر ـ أي الكوثري ـ كون الصلاة في النعال سنة ، مع أنه تواتر من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله ، وجعل نشر ذلك والاستدلال له : من شذوذ المتمجْهِدِين ، في مقال نشره في ” مجلة الإسلام ” ردا على كتابنا ” تحسين الفعال على الصلاة في النعال ” ، وبلغَنا أنه أفرد جزءا لذلك ، وردنا هذا ففي الحقيقة إنما مقدمة للرد عليه في تلك المسألة ، حيث تأخر وُرُود رسالته في الرد ، فعالجناه بهذا ريثما نقف على رده )(4) .
(1) طبع بمصر في حياة المؤلف ، كما في فتح الملك العلي ، ص : 119 .
(2) لفظ قادح يزري فيه بدعاة الاجتهاد النابذين للتقليد مثل الغماري وغيره ، وقد ذكر الغماري هذا اللفظ في كتابه وأكد أن الكوثري يعنيه به
(3) مقالات الكوثري ، ص : 135 .
(4) بيان تلبيس المفتري محمد زاهد الكوثري أو رد الكوثري على الكوثري ، لأحمد بن الصديق الغماري ، ص : 245
https://m.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/2245822538865089/?mibextid=Nif5oz