نعم إذا كنتم تقصدون بالجهل بمذهب السلف: عدم الكذب عليهم!! فيا مرحبا بهكذا جهل!! وإذا كنتم تقصدون بالعلم بمذهبهم هو هذا الكذب الأصلع الرخيص عليهم كما تفعلون فبئس هذا العلم وتبا له!!!
صفة الكلام عند السلف بين الحقيقة والأوهام[1]
(سلسلة “دعوى أن الأشاعرة جاهلون بمذهب السلف في العقيدة”)[2]
https://www.facebook.com/groups/385445711569457/posts/3320807148033284
لدينا رسالة جامعية سعودية بعنوان “منهج السلف والمتكلمين في موافقة العقل للنقل وأثر المنهجين في العقيدة” وهي رسالة ضخمة في 1160 للباحث جابر إدريس علي أمير، وقد وضع عنوانا (ص: 401) وهو : “صفة الكلام وبيان مذهب السلف في ذلك” ثم كتب 17 صحيفة في ذلك، وخلاصة ما ذكره هو أنه ادعى أن السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم قد أجمعوا في صفة الكلام على أن الله متكلم بكلام قديم النوع حادث الأفراد وأنهم يقولون بأن الله يتكلم بحرف وصوت إذا شاء ومتى شاء، وأن القرآن كلام الله بألفاظه ومعانيه وأنه غير مخلوق!!!
قال وليد – أكرمه الله وإياكم -: طبعا هذا هو بالضبط مذهب ابن تيمية في صفة الكلام، نسبه المؤلف إلى السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم، فما دليل الباحث على صحة هذه النسبة وهذا الإجماع المزعوم؟!! لقد استدل الباحث بعد أن نقّب في الكتب كافة تقريبا وبحث فيها بحبش وفتش وعصرها عصرا فجاءنا بالأدلة التالية على إجماع السلف المزعوم، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: آثار عن السلف فعلا من الصحابة والتابعين وأتباعهم، ولكن منها ما لا يصح أصلا، وما صح منها فلا دلالة فيه، وإليك بيان ذلك:
أولا: جاءنا بآثار عن بعض الصحابة وهم الفاروق وذو النورين وعكرمة بن أبي جهل رضي الله عنهم، ولكن غاية ما في هذه الآثار هو أن القرآن وما في المصحف كلام الله، وهذا لا نزاع فيه أصلا!! هذا إن صحت هذه الآثار، وإلا فإن أثري الفاروق وذي النورين ضعيفة بإقرار محقق السنة لعبد الله، كما ترون في الصور أدناه!!
ثانيا: واستدل بأثر عن عمرو بن دينار من التابعين وهو قوله: أن القرآن كلام الله من بدا ومن يعود. وأثره فيه كلام، وسنخصص له منشورا لبحثه رواية ودراسة إن شاء الله.
ثالثا: واستدل بأثر عن سفيان بن عيينة من أتباع التابعين أنه قال في قول الله عز وجل: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54] فالخلق خلق الله , والأمر القرآن ” .
وخلاصة ما استدل به الباحث على أن السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم أجمعوا على إثبات صفة الكلام على الوجه السابق: أثران ضعيفان عن الفاروق وذي النورين ، وأثر عن عكرمة بن أبي جهل من الصحابة رضي الله عنهم ، وآخر عن عمرو بن دينار من التابعين، وثالث عن ابن عيينة من أتباع التابعين!!! فهؤلاء الثلاثة شكّلوا عند الباحث إجماعا …!!! فقولوا ما شاء الله ..تبارك الله أحسن الخالقين..!!!
علما أن الآثار الثلاثة ليس فيها أكثر من أن القرآن كلام الله، وأشار ابن عيينة ـ إن صح أثره ـ أنه غير مخلوق!! فأين في هذا أن الله يتكلم إذا شاء وأنه يسكت إذا شاء وأنه كلام الله قديم النوع حادث الأفراد، وأن من أفراده القرآن أي أنه حادث!! كما يزعم ذلك كله ابن تيمية الذي يطبّل له الباحث في رسالته!!
ويبدو أن الباحث شعر بأن ثلاثة أو خمسة آثار لا يمكن أن يُدعى بها إجماعا وأن دون ذلك خرط القتاد، فلذلك راح يسرد لنا أقوالا لرجال من أصحاب القسم التالي وهو:
القسم الثاني: هم من بعد أتباع التابعين إلى عصر ابن تيمية، ونسرد فيما يلي أسماء أولئك الرجال – الذين سرد نصوصهم – مع تاريخ وفياتهم مع تعليقات مختصرة على بعضهم:
1) الامام أحمد (241هـ)
2) ابن قتيبة 276ه
3) عثمان الدارمي (ت 280ه)
4) ابن خزيمة (311هـ)
5) ابن جرير الطبري (ت 310 ه)
6) الطحاوي (321ه)
7) السجزي (444هـ)
8) اللالكائي (418هـ)
9) الصابوني (449ه)
10) المقدسي(600 هـ)
وقد استدل الكاتب بنصوص هؤلاء على أن عقيدة السلف في صفة الكلام هي : أن كلام الله قديم النوع حادث الآحاد!!! وهذا كذب أصلع ودجل رخيص وإفلاس أيما إفلاس!! وإنما هذا أي ـ أن كلامه تعالى قديم النوع حادث الأفراد هو ما اخترعه ابن تيمية، وغاية ما في نصوص هؤلاء أنه تعالى لا يزال متكلما وهذا مذهبنا أصلا وهو خلاف ابن تيمية القائل بأنه لم يزل متكلما إذا شاء. وفي كلام بعضهم أن القرآن غير مخلوق وهذا لم يتكلم فيه الصحابة أصلا كما أقر به الألباني وسيأتي نصه.
نعم السجزي ذكر أن الله يتكلم بحرف وصوت، ولكن مع ذلك يرى أن كلامه تعالى أزلي دون سكوت، مخالفا في ذلك مذهب ابن تيمية بأنه تعالى يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء، مما دعا بأحد الوهابية الذي حقق كتاب السجزي ليقيد كلامه بأنه أراد أنه أزلي النوع حادث الأفراد!!
وفي ذلك يقول السجزي: وهذه القضية توجب أن يكون كلامه حرفاً وصوتاً، وكذلك كلام المحدث، إلا أن كلامه معجز ولا انتهاء له وأزلي، وكلام المحدث غير معجز وهو متناه، وعرض لم يكن في وقت، ولا يكون في وقت[3].اهـ
فتعقبه محقق كتابه الوهابي باكريم قائلا في الحاشية مجيّرا ومؤولا كلامَ السجزي ليتوافق مع مذهب ابن تيمية : يريد رحمه الله أنه أزلي النوع. فإن من مذهب محققي أهل السنة أن كلام الله عز وجل أزلي النوع حادث الآحاد. وصنيع المصنف رحمه الله في هذا الكتاب يدل على ما أشرنا إليه.اهـ
قال وليد: زعْم باكريم أن “صنيع المصنف رحمه الله في هذا الكتاب يدل على ما أشرنا إليه” غير صحيح بل صنيعه يدل على العكس، فقد قال السجزي (ص: 256): فإن قالوا: إن التعاقب يدخلها وكل ما تأخر عن ما سبقه محدث قيل: دخول التعاقب إنما يتعين فيما يتكلم بأداة، والأداة تعجز عن (أداء) شيء إلا بعد الفراغ من غيره. وأما المتكلم بلا جارحة فلا يتعين في تكلمه التعاقب.اهـ فتأمل كيف يرفض السجزي أن يكون كلامه تعالى محدثا بمعنى أنه متعاقب أي بعضه بعد بعض، وهذا عكس مذهب ابن تيمية الذي أصلا يستدل بالتعاقب على أنه حادث الأفراد قديم النوع!!! فبطل زعم باكريم!!
ثم قال السجزي: وكلامه سبحانه بلا أداة ولا آلة ولا جارحة، وكلام المحدث لا يوجد إلا عن أداة وآلة وجارحة في المعتاد.اهـ
فتعقبه باكريم قائلا: ومذهب السلف عدم النفي والإثبات إلا بنص، فلا نثبت الأدوات والجوارح ولا ننفيها إذ لم يرد دليل على تكلمه بأدوات، أو أن كلامه بدون أدوات. فيتوقف في الأمر ويكتفي بإثبات ما أثبته النص وهو تكلمه سبحانه.اهـ
القسم الثالث هم :
11) ابن تيمية (728هـ) وأتباعه وهم:
12) ابن القيم (751)
13) ابن أبي العز (792هـ)
14) المعلمي اليماني (1386هـ)
15) ابن عثيمين (المتوفى: 1421هـ)
وهذا القسم لا عبرة به أصلا لأن قوله هو محل النزاع.
الخلاصة
أن جملة ما سرده المؤلف ليثبت لنا أن السلف كانوا يقولون بمذهب ابن تيمية في صفة الكلام بالتفاصيل السابقة: هو أثر صحيح يتيم عن عكرمة بن أبي جهل من الصحابة، وآخر عن عمرو بن دينار من التابعين، وآخر عن ابن عيينة من أتباع التابعين، فأين هذا الإجماع المزعوع عن كل الصحابة وكل التابعين وكل أتباعهم؟!! ثلاثة آثار صار ذلك إجماعا ونحن أتيناكم بحوالي عشرين أثرا في تأويل الساق عن السلف فضربم بها عرض الحائط كما فعل الهلالي في المنهل الرقراق وتبعه دمشقية كما بينته في موضعه[4].
بل أين حتى في كلام هؤلاء الثلاثة من السلف ما زعمه ابن تيمية على أن الله متكلم بكلام قديم النوع حادث الأفراد وأنهم يقولون بأن الله يتكلم إذا شاء بحرف وصوت إذا شاء ومتى شاء، وأن القرآن كلام الله بألفاظه ومعانيه وأنه غير مخلوق!!!
لا يوجد شيء من ذلك في الآثار الثلاثة سوى أن القرآن كلام الله، وثمة إشارة من ابن عيينة أنه غير مخلوق إن صح الأثر عنه أصلا.
أصلا هذه التفصيلات في صفة الكلام كالقول بأنه صفة أزلية أم حادثة، وإذا كانت حادثة هل هي حادثة النوع أو الأفراد؟ وهل القرآن قديم أم حادث أم مخلوق؟ وهل يوجد فرق بين الحادث والمخلوق؟ وهل كلامه تعالى متعدد أم واحد؟ وهل كلامه نفسي أم لفظي بحرف وصوت؟ وهل يقال لفظنا بالقرآن مخلوق أم لا يقال؟!!
أقول: هذه التفصيلات كلها لم يخض فيها الصحابة أصلا ولا عُرفت في عصرهم أصلا!! وإنما تُكلّم فيها عندما دخل علمُ الكلام فخاض فيها المتكلمون الذي يقول ابن تيمية بأن السلف ذموههم وذموا علم الكلام، حيث كان السلف «يعيبون كلامهم هذا ويذمونه ويقولون: من طلب العلم بالكلام تزندق»([5])، «وقالوا إنه جهلٌ وإن حُكم أهله أن يضربوا بالجريد والنعال»([6])، و«ذمُّهم للكلام لفساد معناه أعظمُ من ذمهم لحدوث ألفاظه»([7])، التي «هي مصطلحات دخيلة ذمها السلف»([8])، وإنما «التزام الألفاظ الشرعية.. هو منهج السلف، وهو المذهب الحق»([9]).
جميل… ولكن كيف ذم السلف علمَ الكلام وأهلَه ومصطلحاتِه، وكيف خاضوا فيه وأتوا بمصطلحات فلسفية منطقية محضة كالقول بأن الكلام قديم النوع حادث الأفراد… كيف هذا يا أولي الألباب؟!!!
وهذه النسبة العجيبة الغريبة للصحابة نسب مثلها ابن تيمية وأغرب إلى السلف كافة حين زعم أنهم قالوا بأن العالم قديم النوع حادث الأفراد!! فإن «القول الحق في مسألة التسلسل في الآثار قول أئمة السلف وهو جوازه في الماضي والمستقبل»([10]) بل أيضا إن «وجود الحوادث دائما بلا ابتداء ولا انتهاء.. قول أئمة السنة والحديث وأساطين الفلاسفة»([11]).
وقد رددت عليه في كتابي ” فتح الرب الإله في دعوى التباين بين كلمتي الرب والإله” الذي سيطبع قريبا إن شاء الله فكان مما قلت: ” فأين هذا الالتزام منه – أي من ابن تيمية- بالألفاظ الشرعية بعيدا عن علم الكلام والفلسفة ومصطلحاتها؟!! أين هذا كله مما نحن فيه؟! إن مجرد تصور أن العالم قديم النوع حادث الأفراد هذا يحتاج لا إلى مراجعة كتب السنة واللغة والسلف، وإنما يحتاج إلى الانغماس في كتب علم الكلام والمنطق والفلسفة الأرسطية وغيرها لمعرفة الفرق بين الجنس والنوع والقسم، والكل والكلي والكلية، والجزء والجزئي والجزئية، وما هو في الذهن وما هو في الخارج، وما هو مشخص وما هو مجرد”.اهـ ومع ذلك ينسب ابن تيمية وأتباعه هذه المصطلحات إلى السلف الذين ذموها أصلا!!
أليس هذا من أعجب العجب؟!! وهو أن يدعي ابن تيمية أن السلف أجمعوا على ذم علم الكلام والمتكلمين لخوضهم فيه وفي مصطلحاته ثم ينسب إلى السلف في الوقت نفسه إلى أنهم استخدموا مصطلحات مغرقة في علم الفلسفة والمنطق وأنهم خاضوا في أمّ مسائل علم الكلام وهي صفة الكلام بكل تفاصيلها على الشكل الذي تقدم، الذي ما سمي علم الكلام بهذا الاسم إلا لكثرة خوض المتكلمين في علم الكلام في صفة الكلام[12]؟!! بل الطريف أكثر أن ينسب ذلك الخوض إلى الصحابة أنفسهم الذين لم يعاصر أحد منهم أصلا نشأة علم الكلام!!!
وهذا الألباني يقول بالحرف الواحد: ومثل وهذا تماما قولهم في القرآن الكريم أنه غير مخلوق فإن هذه لا تعرفها الصحابة أيضاوإنما كانوا يقولون فيه : كلام الله تبارك وتعالى لا يزيدون على ذلك[13].اهـ
فإذن الألباني يقرّ ويعترف بأن الصحابة لم يخوضوا حتى في أن القرآن مخلوق أم غير مخلوق، مع أن هذه المسألة خاض فيها التابعون فمن بعدهم، لذلك قال الحافظ: والمحفوظ عن جمهور السلف ترك الخوض في ذلك والتعمق فيه والاقتصار على القول بأن القرآن كلام الله وأنه غير مخلوق ثم السكوت عما وراء ذلك[14].اهـ
فإذا كان الصحابة لم يخوضوا حتى في مسألة أن القرآن غير مخلوق، مع أنها صارت هذه المسألة من مذهب السلف لاحقا أي بعد الصحابة فما بالك بالخوض في مسألة كلام الله قديم النوع حادث الأفراد الذي لم يستطع ابن تيمية ولا كل من اتبعه بأن يأتوا بنص واحد عن عالم قال بذلك من أهل القرون الستة أو السبعة الأولى لا الثلاثة الأولى فقط!!!
فهل بعد ذلك يقال بأن الأشاعرة كانوا جاهلين بمذهب السلف أو على الأقل كانت “خبرتهم بمذهب السلف وأهل السنة والجماعة ضعيفة”[15]، نعم إذا كنتم تقصدون بالجهل بمذهب السلف: عدم الكذب عليهم!! فيا مرحبا بهكذا جهل!! وإذا كنتم تقصدون بالعلم بمذهبهم هو هذا الكذب الأصلع الرخيص عليهم كما تفعلون فبئس هذا العلم وتبا له!!!
بقي أن نتكلم عن أثر ابن دينار “القرآن كلام الله منه بدا وإليه يعود” رواية ودراية … فانتظره … والله ولي التوفيق
————-
[1] انظر السابق:
https://www.facebook.com/…/permalink/3317052931742039/
[2] انظر السابق :
https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/950355545078468/
[3] رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 230)
[4] انظر:
https://www.facebook.com/…/permalink/3051804608266874/
([5]) جامع الرسائل لابن تيمية – رشاد سالم (2/36).
([6]) درء تعارض العقل والنقل (2/206).
([7]) درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (1/324).
([8]) موسوعة أهل السنة لعبد الرحمن دمشقية (ص: 729).
([9]) موقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/1103).
([10]) موقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/1003).
([11]) الصفدية لابن تيمية (1/10).
[12] طبعا هذا أحد أسباب تسمية علم الكلام بهذا الاسم ، وذلك ” لأن مسألة الكلام أشهر أجزائه حتى كثر فيه التناحر والسفك فغلب عليه، أو لأنه يورث القدرة على الكلام في الشرعيات ومع الخصم”. والأرجح أن علة تسميته بالكلام وعلم الكلام، راجعة لاشتهاره بالخوض في موضوع كلام الله تحديدا.”
المواقف1/45، وكشاف اصطلاح الفنون 1/33.
وانظر للتوسع: https://ar.wikipedia.org/wiki/علم_الكلام#cite_note-21
[13] مختصر العلو للألباني (ص: 16)
[14] فتح الباري لابن حجر (13/ 455)
[15] موقف ابن تيمية من الأشاعرة (2/ 792)