لقد استقر في ذهني من سنوات ليست بالقليلة أن تلك القصيدة لابن المبارك, وهذا ما جعلني أتتبعها في عدد من الكتب التي بين يدي, فقرأت بعض سيرة ابن المبارك في أكثر من مصدر من المصادر المعتمدة الموثوقة عند الباحثين, التي تترجم للأعلام, وهي كثيرة جدا, كما قرأت له شعرا رفيعا عاليا, ولكم تمنيت- وأنا أقرأ سيرته- أن يصل كل منا إلى ما وصل إليه ذلك العالم الجليل من الصدق في الجهاد والعلم والعمل, أين نحن منه ومن الجهاد والشام تستصرخنا صباح مساء ؟!
سأبدأ بترجمة موجزة, قد لا تفي حق ذلك العالم الجليل, مع العلم أن مصادر ترجمته كثيرة,( ولولا خشيتي الإطالة أكثر – وكلامي طويل في أصله – لذكرت طائفة منها ), منقولة من كتاب( الأعلام ) لخير الدين الزركلي، وهو من المحدثين الثقات, فقد وجدتها أفضل ترجمة.
يقول صاحب الأعلام، ج4/ 115: ” مجاهد, تاجر, شيخ الإسلام, صاحب التصانيف والرحلات, أفنى عمره في الأسفار حاجا ومجاهدا وتاجرا, جمع الحديث والفقه والعربية وأيام الناس والشجاعة والسخاء, كان من سكان خراسان، ومات ب (هيت) على الفرات منصرفا من غزو الروم. له كتاب الجهاد, وهو أول من صنف فيه, والرقائق في مجلد ( أي الزهد )”.
ولد سنة 118ه ومات سنة 181ه , أي عاش 63 سنة.
و( هيت ) بلدة على الفرات من نواحي بغداد فوق الأنبار ذات نخل وخيرات واسعة, وبها قبر عبد الله بن المبارك. معجم البلدان، ينظر: ياقوت الحموي ج5/ 420.
وكتاباه ( الجهاد) و( الرقائق) كتابان نفيسان عظيمان مطبوعان, والثاني منهما مذيل بالرقائق بتحقيق فريد للعالم حبيب الرحمن الأعظمي .
دونكم الأبيات كاملة مع تخريجها من مظانها:
قال عبد الله بن المبارك:
1- يا عابدَ الحَرَمينِ لوْ أبصرْتَنا لَعلمْتَ أنّك في العبادةِ تَلْعبُ
2- مَنْ كان يَخْضِبُ خدَّهُ بدموعِهِ فَنُحُورُنا بِدِمَائِنا تَتَخَضَّبُ
3- أو كان يُتْعِبُ خيلَهُ في باطلٍ فخيولُنا يومَ الصَّبِيْحَةِ تَتْعبُ
4- رِيْحُ العَبِيْرِ لكمْ ونحنُ عبيرُنا رَهْجُ السَّنابكِ والغبارُ الأطْيبُ
5- ولقد أتانا مِنْ مَقالِ نبيِّنا قَوْلٌ صحيحٌ صادقٌ لا يُكْذَبُ
6- لا يَسْتَوِي وغُبارُ خَيْلِ اللهِ في أَنْفِ امرئٍ ودُخَانُ نارٍ تَلْهَبُ
7- هذا كتابُ اللهِ ينطِقُ بَيْنَنا ليس الشَّهيدُ بميِّتٍ لا يُكْذَبُ
ينظر: تاريخ الإسلام للذهبي ج/12/ 240. و وفيات الأعيان لابن خلكان ج3/ 32. وسير أعلام النبلاء للذهبي ج7/ 386. وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي ج1/ 287. وتفسير ابن كثير ج1/ 488 . وتاريخ دمشق لابن عساكر ج32/ 449 .
البيت الثاني يروى: جيده لا خده، ولا يكسر الوزن .
في البيت السادس إشارة إلى الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول: ” لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدا، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا”. أخرجه النسائي ج6/12. والإمام أحمد في مسنده ج2/256 وغيرهما.
تفيض المشاعر الصادقة لابن المبارك في تلك القصيدة، كما تعبر عن حال العالم المجاهد بأوضح عبارة ودقة لفظ. وتمثل أبيات القصيدة درسا تطبيقيا لنا في ضرورة ربط الدين بالحياة، وبالجهاد حياة، وأية حياة! وفي تاريخنا الماضي المشرق نماذج غير قليلة من جهاد العلماء باللسان والسنان، وحسبنا قراءة سيرة الإمام البخاري، رحمه الله.
وللفائدة سأورد الخبر كما رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق ج 32/ 449، وعنه نقل ابن كثير في تفسيره، مع مقاطعة الخبر بما رواه الذهبي في سيره: ” حدثني محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال: أملى علي عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس وودعته(أي إلى الحج )، وأنفذها معي إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومئة(أو سبع وسبعين ومئة): يا عابد الحرمين… قال: فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام، فلما قرأه ذرفت عيناه وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني، ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث، قال: قلت: نعم، قال: فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا، وأملى علي الفضيل بن عياض: حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله، فقال: هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر، وتصوم فلا تفطر؟ فقال: يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك، ثم قال النبي، صلى الله عليه وسلم: فو الذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله، أو ما علمت أن الفرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات ؟! “.
شرح بعض الألفاظ :
طرسوس: مدينة بثغور الشام (حررها الله) بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم. كراء: أجر المستخدم. طوقت: قويت أي: قواك الله وأقدرك. يستن: يجري في نشاطه على سننه في جهة واحدة. طوله: حبله .
تخريج الحديث المروي عن أبي هريرة: البخاري 2785، كتاب الجهاد والسير، باب الجهاد والسير. ورواه الإمام أحمد في مسنده ج5/ 236.
ومن رجح نحل الأبيات على لسان ابن المبارك، اعتمد على دلائل، هي:
وجود محمد بن أبي سكينة في سند الرواية، وهو الراوي، وبحسب رأيه هو غير موثوق …
وجود أبي المفضل محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني، وهو راو آخر للأبيات. قيل فيه: كذاب دجال، وكان يضع الحديث للرافضة…
القرائن: منها أنه لا يعقل أن ينتقص ابن المبارك من شيخه، ويحتقر عبادته في قوله: لعلمت أنك في العبادة تلعب.
وسنناقش كلا على حدة.
أولا – محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة
قال الحافظ الذهبي في كتابه (ميزان الاعتدال في نقد الرجال) ج1/279: ” أحمد الحلبي، وهو محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة، ويسميه بعضهم محمدا، قال الخطيب: يروي عن مالك، قلت: ما رأيت لهم فيه كلاما، قلت: والذي يروي عن مالك أقدم من الذي يروي عن طبقة قتيبة، فلعلهما اثنان، والله أعلم”.
وقال ابن حجر في لسان الميزان ج1/ 405: ” …كذاب،… وذكر الدراقطني والخطيب أن محمد بن المبارك الصوري روى عن أحمد بن إبراهيم بن أبي سكينة، ولم يذكرا له شيئا منكرا” .
ونحن نلاحظ الاضطراب في توثيق الرجل، ولو كان قد كذب فعلا لكان الأولى به أن يكذب في رواية الحديث النبوي الشريف الذي أملاه عليه الفضيل، ولكنه لم يفعل. زد على ذلك أن العلماء القدامى لم يكونوا يتشددون في رواية السير والأشعار والقصص، ولا في رواتها، مثلما يتشددون في رواية الحديث النبوي الشريف، ولذلك نجد العراقي يقول في ألفية السيرة :
وليعلم الطالب أن السيرا تجمع ما صح وما قد أنكرا
ثانيا- أبو المفضل محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني
كذبه الدراقطني وأبو القاسم الأزهري، وقال عنه الخطيب البغدادي ج5/466: ” كان يروي غرائب الحديث …ثم بان كذبه”، وقال عنه ابن حجر في ( اللسان) ج1/ 107: ” كان يسرق الحديث ويقلب الأخبار …دجال يضع الحديث “.
والرجل كما ذكروا، لكن الرواية المشهورة هي عن محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة، كما مر معنا من قبل، ففي (سير أعلام النبلاء) للذهبي أيضا ج8/ 364 وغيرها من مصادر ورود الأبيات: ” قال عبد الله بن محمد قاضي نصيبين: حدثني محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة…”
ثالثا:
من ذا الذي قال: إن ابن المبارك كان يحتقر عبادة شيخه الفضيل؟! معاذ الله أنه يقصد ذلك، وهو من هو في الورع والزهد والعبادة؟ ومن هذا الذي سوغ لنفسه هذا التفسير لشعره؟ ثم، فلننظر في قول الفضيل عندما قرأ الأبيات ففاضت عيناه بالدموع: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني !! فو الله، ما نعرف أيهما أتقى وأخشى؟ حب ابن المبارك شيخه جعله يرسل إليه تلك الرسالة الشعرية، وما قصد، وما كان يقصد البتة، احتقار عبادة شيخه الفضيل. وما قوله: تلعب يعني السخرية والاستهزاء، بل العبادات كلها دون الجهاد في سبيل الله، وهذا شيء معروف عند معظمنا.
لعله تمنى، لحبه شيخه كما قلت، أن يشاركه الفضل والثواب في الجهاد. وهكذا يحمل قول الصالحين المشهود لهم بالورع والصلاح والتقى.
كذا في : https://makkahacademy.org/abyat-adullah-bn-almubark/