تاريخ وتراجم وأعلام

بين النّقشبنديِّ والشيرازيّ! (كيف أوقف العلَّامة محمد سعيد أفندي النقشبنديّ الحنفيّ المد الشيعي في سامراء على يد الميرزا الشيرازي) (منقول)

بين النّقشبنديِّ والشيرازيّ!

الذي يظهرُ في الصّورة على اليمين هو الشيخُ الإمام العلَّامة محمد سعيد أفندي النقشبنديّ الحنفيّ البغداديّ، أول مدرس في مدرسة الإمامِ أبي حنيفة النعمان، وشيخ المدرسة الأحسائيّة المعروفة بالتَّكية الخالديّة.

وُلِد في منطقة “الفضل” في بغداد سنةَ (١٢٧٧) للهجرة، (١٨٦١) ميلادي، ودرسَ على بعض المشايخ مثل الشيخ العلامة عبد الوهّاب النّائب، والشيخ العلّامَة محمد فيضي الزّهاويّ، والعلّامَة الأشمونيّ، والشيخ داود النقشبنديّ وغيرهم.

فصارَ علّامةً بالمعقول والمنقول، وله كثيرٌ من المؤلّفات، أبرزها: “القول الموروث في إثبات الحدوث”، “النّفحات القدسيّة في تَبرية الصوفيّة”، “قرّة العيون في أنّ الأموات في المذاهب الأربعة يسمعون”، و”الوجه في إبطالِ الجهة” وغيرها الكثير.

يُحسَب لهُ وقوفُه بوجه التمدّد الشيعيّ في سامراء المباركة، بعد أنْ هاجرَ إليها الميرزا محمد حسن الشيرازيّ -من أهم مراجع الشيعة في ذلك الوقت- وحاولَ نشر التشيع ببناءِه مدرسةً شيعيّة هناك ، ويروي ملخصَ ما حصل في سامراء تلك الفترة الدكتور علي الورديّ في كتابه “لمحات إجتماعيّة من تاريخ العراق الحديث” حيثُ يقول:

(( أحدُ الأسباب التي دفعت الشيرازيّ إلى الهجرة إلى سامراء هو أنّه كان يريدُ تحويلها إلى بلدةٍ شيعيّة…ومهما يكن الحال فقد صار الشيرازي بعد استقرارِه في سامراء ينفقُ الأموالَ الطائلةَ فيها، فشيَّد فيها مدرسةً دينية تتّستع لِمائتين من الطلاب، وهي ما زالت قائمة تُعرَفُ باسمِ “مدرسة الميرزا”، كما بنى حسينيَّةً وحمَّامًا للرجال وآخرَ للنّساء، وسوقًا كبيرة، ودورًا كثيرة، ثمّ نصبَ جسرًا من القوارب على دجلةَ بلغت تكاليفُه ألف ليرة عثمانيّة . وكثرتْ هجرةُ الشيعة إلى سامراء من شتّى الأنحاء حتّى أصبحتْ بلدةً عامرةً، مع العلم أنّها لم تكن قبل ذلك سوى قرية صغيرة بيوتها من طين .

وكاد السكان القدامى -يقصد السُّنَّة- يذوبونَ في خضمّ هذا النمو السريع، وأخذ الشيرازيُّ يبذلُ لهم العطاءَ بُغيةَ تأليف قلوبهم، فأحبَّه الكثيرُ منهم، وصار الشيعةُ يقيمون طقوس العزاء الحسينيّ على عادتهم في كلِّ بلدةٍ يحلّون فيها، وهي طقوسٌ كانتْ في تلك الأيام تؤثّر في النّفوس تأثيرًا عاطفيًّا عميقًا، وخاصةً في أوساط العامَّةِ وأبناء العشائر، فوقعَ أهلُ سامراء تحتَ تأثيرِها وشرَعوا هم أنفسهم يخرجون مواكبَ العزاء تقليدًا للشيعة، ومعنى هذا أنّهم بدأوا يسيرون في طريق التَّشيُّعِ شيئًا فشيئًا على نحو ما فعل الكثيرُ من سكانِ العراقِ قبلهم.

ردَّة الفعل:

إنّ هذا التّحول الهامّ الذي حدث في سامراء أدّى إلى حضور ردّ فعلٍ شديدٍ ضده بين علماء السنَّة في بغداد، فتحفّزوا للعمل في سبيل (انقاذ) سامراء، وكانَ أشدَّهم حماسًا في ذلك=الشيخُ محمَّد سعيد النَّقشبنديّ، فقابلَ والي بغداد الحاج حسن باشا وباحثَهُ في الأمر، وأبرقَ هذا إلى السُّلطان عبد الحميد يخبره بالخطرِ الذي يهدِّدُ سامراء.

كان السلطانُ عبد الحميد في تلك الآونة يسعى نحو توحيد كلمة المسلمين للالتفافِ حوله، ولعلّه لم يكن يحب أن تتطوّر قضية سامراء بحيثُ تؤدي إلى توتّر العلاقات بينه وبين الشّاه ناصر الدين، والظاهر أنه أرسلَ إلى والي بغدادَ يأمرُه أن يعالج القضيَّةَ بهدوء، فإذا كان الشيرازيُّ قد فتح مدرسةً شيعيّة في سامراء، فلْيَفْتَح الوالي إزالتها مدرسة سنيّة، ولا يزيدُ على ذلك شيئًا.

سافرَ الشيخُ محمد سعيد النّقشبنديّ إلى سامراء مُخَوَّلًا بفتحِ المدرسة في سامراء، وخرج أهل سامراء لاستقبالِهِ، واحتَفَوا به احتفاءًا منقطعَ النّظير حتى قيل في حينه ((كأنّهم ظهر المهديّ عليهم بقدومه))، واستأجرَ النّقشبنديُّ دارًا جعلها مدرسةً له وأخذَ يشتغلُ بالتّدريس والوعظِ والإرشاد)).

ينقلُ الدكتور علي الورديّ عن مرجعين أحدهما لمؤلِّفٍ شيعيّ والآخر سنيّ ليضعَ القارئ أمامَ ما حدثَ بعد وصول الشيخ النقشبنديّ لسامراء، فيقول:

(( يقول المؤلّف الشيعيّ في حديثِه عن وضع سامراء بعد هجرة الشيرازي إليها ما نصّه: 《…فصارتْ سامراء من بركة وجوده مركزًا للعلمِ والعلماء، وظهرتْ فيها شعائرُ التشيُّع عن حجاب التقيَّةِ والخفاء، مثل الأذان والصلاةِ وإقامة مجالس اللّطم والنّوح والعزاء، وتبيَّنَ لكثيرٍ من الأهالي الحقّ الواضح، والنّور اللَّائح، ومالتْ قلوبُهم إليه كلَّ المَيل، وتنفرتْ عن كبرائِهم أهل الحين والميل، فوشَى بالخبرِ إلى خليفتِهمِ القاضي النَّاصبيّ العنيدِ الشقيّ الموسوم بمحمّد سعيد النّقشبنديّ، فشمَّرَ عن ذيلِ التّعصبِ يدًا، وأقام في التسويلاتِ مجتهدًا، مستعملًا الحيلَ واللّطائف، مستعينًا ببناء المدرسة وإجراء الوظائف، حتّى نالَ مراده، بما صنعهُ من صنيع إجدادِه، فوقعَ في العصر الأخير ما وقع في الصدرِ الأوَّلِ، من رجوع القوم القهقرى، حتى جرى في الأواخر ما جرى، من بعض أشقيائهمْ من هتكِ ناموس الدّهر وصاحب الشرع…》.

أمّا المؤلِّفُ السنيّ فقال في وصف النّقشبنديّ وكيف بنى مدرسته في سامراء: 《…ومن جملة حزمهِ أنّه سجلَ فيها عمومَ أولاد رؤساء هذه البلدة…فضبطهُم وضبطَ آباءهم بذلك عن تلاعبِ المبتدعينَ بهم لأنّ تلك الطائفة التي سبقت الأشارةُ أليها قد لعبتْ دورًا قويًّا بهذا البلد، وبذلتْ الأموالَ الطائلة والهدايا الجسيمةَ لعموم الأهلين ولا سيما للرؤساء، فاستمالتْ قلوبَهم، وانطلقتْ بالمدح والثّناء ألسنتُهم، ولو لم يقيّض الله إنشاء هذه المدرسة، ويكون مدرسه ذلك الحازم الفاهم للاحوال=لطاحوا في الشّبك واصطادَهم الفخُّ كما اصطادَ كثيرًا من أبناء العراق وجرفهم التيار، وبهذا الموقف الكريم الذي وقفه المرحومُ الشيخ محمّد سعيد أفندي النّقشبنديّ توقّفتْ حركةُ المتحركين، وشُلّت أيدي المبتدعين، فتفرقوا أيدي سبأ، ولم تُرفَع لهم راية، ولم يثرْ لهم ثائر، وكلّ منهم رجع إلى كوخِهِ وعشّه بعد أن كانت لهم الكلمة المسموعة ويؤَيّدهم الرأي العام…》)).

السابق
تنزيل كتاب “الإيجاز في بعض ما اختلف فيه الألباني وابن عثيمين وابن باز” (منقول)
التالي
نص هام لأبي علي الفارسي وغيره من اللغويين والمفسرين على جواز تأويل اليد بالقوة لغة حتى لو ثنيت أو عدّيت بالباء خلاف لابن تيمية ـ رحم الله الجميع ـ