بين المنزهة والمشبهة..
قال الإمام الفخر الرازي: ((لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَمَّا كَانَ مَعْنَى “الْحَيِّ” هُوَ أَنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ وَيَقْدِرَ، وَهَذَا الْقَدْرُ حَاصِلٌ لِجَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ أَنْ يَمْدَحَ اللَّهُ نَفْسَهُ بِصِفَةٍ يُشَارِكُهُ فِيهَا أَخَسُّ الْحَيَوَانَاتِ؟.
وَالَّذِي عِنْدِي فِي هَذَا الْبَابِ: أَنَّ الْحَيَّ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ هَذِهِ الصِّحَّةِ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ كَامِلًا فِي جِنْسِهِ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى حَيًّا، أَلَا تَرَى أَنَّ عِمَارَةَ الْأَرْضِ الْخَرِبَةِ تُسَمَّى: إِحْيَاءَ الْمَوَاتِ، وَقَالَ تعالى: {فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها} [الرُّومِ: 50] وَقَالَ: {إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ} [فَاطِرٍ:9].
وَالصِّفَةُ الْمُسَمَّاةُ فِي عُرْفِ الْمُتَكَلِّمِينَ، إِنَّمَا سُمِّيَتْ بِالْحَيَاةِ لِأَنَّ كَمَالَ حَالِ الْجِسْمِ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِتِلْكَ الصِّفَةِ، فَلَا جَرَمَ سُمِّيَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ “حَيَاةً”، وَكمَالُ حَالِ الأَشْْجَارِ أَنْ تَكُونَ مُورِقَةً خَضِرَةً، فَلَا جَرَمَ سُمِّيَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ “حَيَاةً”، وَكَمَالُ الْأَرْضِ أَنْ تَكُونَ مَعْمُورَةً، فَلَا جَرَمَ سُمِّيَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ: “حَيَاةً”. فَثَبَتَ أَنَّ الْمَفْهُومَ الْأَصْلِيَّ مِنْ لَفْظِ “الْحَيِّ”: كَوْنُهُ وَاقِعًا عَلَى أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ وَصِفَاتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ زَالَ الْإِشْكَالُ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْحَيِّ هُوَ الْكَامِلُ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُقَيَّدًا بِأَنَّهُ كَامِلٌ فِي هَذَا دُونَ ذَاكَ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ كَامِلٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ. فَقَوْلُهُ: {الْحَيُّ}: يُفِيدُ كَوْنَهُ كَامِلًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْكَامِلُ هُوَ أَنْ لَا يَكُونَ قَابِلًا لِلْعَدَمِ، لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ)) [التفسير الكبير للإمام الرازي (9/7)].
بينما قال ابن تيمية الحراني مستسمنا ما نسب إلى عثمان بن سعيد الدارمي في رده على بشر المرِّيسي..ما نصه: ((وَأَمَّا دَعْوَاكَ: أَنَّ تَفْسِيرَ “القَيُّومِ” الَّذِي لَا يَزُولُ مِنْ مَكَانِهِ وَلَا يَتَحَرَّكُ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْكَ هَذَا التَّفْسِيرُ إِلَّا بِأَثَرٍ صَحِيحٍ، مَأْثُورٍ عَنْ رَسُولِ الله – صلى الله عليه [وآله] وسلم -، أَوْ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَوِ التَّابِعِينَ؛ لِأَنَّ الحَيَّ القَيُّومَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَتَحَرَّكُ إِذَا شَاءَ!!!، ويَهْبِطُ ويَرْتَفِعُ إِذا شَاءَ!!!، ويَقْبِضُ وَيَبْسُطُ، وَيَقُومُ وَيَجْلِسُ إِذَا شَاءَ!!!؛ لِأَنَّ أَمَارَةُ مَا بَيْنَ الحَيِّ وَالمَيِّتِ التَّحَرُّكَ!!!، كُلُّ حَيٍّ مُتَحَرِّكٌ لَا مَحَالَةَ!!!، وَكُلُّ مَيِّتٍ غَيْرُ مُتَحَرِّكٍ لَا مَحَالَةَ)) بحروفه!!! [درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية الحراني (52/2) وكرر النقل نفسه في شرحه على العقيدة الأصفهانية (79/1)، وراجع أيضا: النقض على المريسي للدارمي (ص:71)].
فشتان ما بين التنزيه والتشبيه.