كتب سلطان العميري عن الإيمان فقال :
إلزام للمرجئة:
من أهم الأدلة التي يستدل بها المرجئة من الأشاعرة وغيرهم على أن العمل الظاهر ليس من الإيمان: عطف العمل على الإيمان في عدد من النصوص الشرعية، وحاصل استدلالهم: أن العمل عطف على الإيمان والعطف يقتضي المغايرة، وهذا ينتج أن العمل ليس داخلا في حقيقة الإيمان.
وهذه الدعوى يمكن نقضها بعدد من الأوجه، يعرفها كثير من طلبة العلم، وهي مذكورة في كثير من الكتب والمراجع.
ومن أوجه النقض لهذه الدعوى، أن يقلب عليهم الاستدلال، فيقال: النصوص الشرعية جاء فيها عطف التكذيب على الكفر، كما في قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا)، وهذا يدل على أن التكذيب مغاير للكفر، لأنه عطف عليه، ومع ذلك فأنتم تفسرون الكفر بالتكذيب، وتقولون: إذا كان الإيمان هو التصديق، فالكفر هو التكذيب، فكيف يستقيم ذلك مع القول بأن العطف يقتضي المغايرة؟!
وأي جواب يذكرونه في الخروج من هذا الإلزام يمكن أن يقال في الجواب عليهم في عطف العمل الصالح على الإيمان.
——-
وقلت:
هذا الكلام لا إلزام فيه ولا حجة ولا يخفى أنه متهافت لعدم اطلاع العميري على المباحث التي استدل بها بعض المتكلمين على أن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان.
فمستندهم في المقام الأول هو الاحتكام إلى مقتضيات اللغة التي ينادي بها الخصم في مباحث الصفات ثم يجحدها جحودا بينا في مسائل الإيمان !
فكل من لم يدخل العمل في الإيمان استند إلى وضع اللغة المبُيّن لمعنى الإيمان،فهذا مبنى الحجة،ثم كل استدلال آخر مفرع عليه لأنه الأصل.
قال الرازي صاحب مختار الصحاح:
-الإيمان:التصديق.
وقال الجوهري في الصحاح: والإيمان: التصديق.
ويكفينا هذان المصدران ولا سيما أن الثاني من أقدم المعجمات اللغوية،والأول مختصر من الثاني.
فالمسألة ليست في عطف التغاير فقط حتى يدعي المدعي أنه قلب الحجة عليهم،فالقول بعطف التغاير مناسب لما ورد في المعجمات من معنى الإيمان ،فالإيمان ليس هو العمل،ثم إن العطف له صور يمكن فهم معنى العطف منها وفق قرائن لغوية وعقلية،فمن قال أصلا من الأشاعرة : إن العطف لا يكون إلا للتغاير ! فالقرينة اللغوية تؤكد أن العطف للتغاير لكن ما هي قرينتك على أن العطف ليس للتغاير؟!
فالمسألة ليست في أن العطف منحصر في التغاير إنما مدرك المسألة كيف نحدد معنى العطف،فكأن العميري يقول العطف لا يأتي للتغاير ! بدليل أنه ذكر الآية مستدلا بها على أن العطف لا يكون للتغاير !
وجريا على ما قرره العميري من قاعدة فاسدة سأرد قوله بأن الله سبحانه وتعالى قال : (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) فها هنا عطف تغاير،إذن أقمنا الحجة عليك! هذا المسلك الذي يستعمله العميري لا يصدر إلا عمن ساء استعماله لعلوم الآلة في الاستدلال ،فالآية التي ذكرتُها سالفا اقتضت المغايرة لأننا نعلم أن عقيدة النصارى ليست هي عقيدة اليهود.
وكذلك الحال مع قوله تعالى :
(ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم)
فإننا علمنا أنه من قبيل عطف العام على الخاص لأن الفاتحة من القرآن على القول بأن السبع من المثاني هي الفاتحة،وعليه يتبين أن المقصود من العطف يتحدد بالقرينة لا بإثبات آية أخرى تثبت أن العطف يأتي لمعنى غير التغاير.
فحجة بعض المتكلمين قرينتها لغوية فبقي عبء الإثبات عليك،وذلك بأن تثبت إما من اللغة أو العقل أو الشرع أن الإيمان يأتي للعمل،
وليس لك في هذا حجة،لأن كل الآيات التي تدخل العمل في الإيمان استعملت الإيمان في غير وضعه الأصلي لعلاقة،لأن الإيمان لما كان أثره العمل جاز أن يستعمل الإيمان في الأعمال كقولهم: رعينا الغيث،فلما كان الغيث سببا للإنبات استعمل الغيث في النبات.
والحجة الشرعية الظاهرة للمتكلمين هي أن تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز،وبيانه في الحديث الذي أخرجه مسلم:
(فعن عمر بن الخطاب قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه ، وقال : يا محمد ، أخبرني عن الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ، قال : صدقت ، قال : فعجبنا له ، يسأله ويصدقه ، قال : فأخبرني عن الإيمان ، قال : أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر ، خيره وشره ، قال : صدقت ، قال : فأخبرني عن الإحسان ، قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، قال : فأخبرني عن الساعة ، قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ، قال : فأخبرني عن أمارتها ، قال : أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ، قال : ثم انطلق ، فلبثت مليا ثم قال لي : يا عمر ، أتدري من السائل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنه جبريل ، أتاكم يعلمكم دينكم)
قلت: جبريل عليه السلام سأل عن الإيمان وأجاب الرسول عليه الصلاة والسلام عن الإيمان بما يناسب الاعتقاد ولم يدخل العمل في جوابه،وهذا وقت بيان،فلو كان العمل داخلا في الإيمان لذكره عليه الصلاة والسلام،فلمَ لم يدخل الرسول عليه الصلاة والسلام الصلاة في جوابه لما سئل عن الإيمان،فإن لم تدخل الصلاة في حقيقة الإيمان فخروج غيرها أولى.