المحكم والمتشابه

الدرس السابع والعشرون/ تابع أمثلة على الآيات المتشابهة (الاتيان والمجيء والنزول والصورة، ومذهب السلف والخلف في ذلك/ منقول)

الدرس السابع والعشرون
تابع أمثلة على الآيات المتشابهة
4 ـ ومنها قوله تعالى: « هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله ﴾ [البقرة: ٢١٠]. وقوله تعالى: ﴿ وجاء ربك والملك صفا صفا ﴾ [الفجر: ۲۲] وقوله : «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخـر، ويقـول: مـن يـدعـوني فأستجيب لـه، مـن يـسألني فأعطيه، مـن يستغفرني فأغفر له» فهذه النصوص من المتشابه في الجسمية، كما تفيده كلمة: الإتيان، والمجيء والنزول. لأن كلاً هذه الكلمات يفيد الانتقال الملازم للجسمية. قال الراغب: الإتيان مجيء بسهولة… ويقال للمجيء بالذات، وبالأمر، وبالتدبير، ويقال في الخير، وفي الشر، وفي الأعيان، وفي الأعراض. قال تعالى: « إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة » [الأنعام: 40]. وقال: « أتى أمر الله ﴾ [النحل: 1]”.

وقال الراغب: المجيء كالإتيان، لكن المجيء أعم، لأن الإتيان مجيء بسهولة. ويقال: جاء في الأعيان والمعاني، ولما يكون مجيئة بذاته وبأمره، ولمن قصد مكاناً أو عملاً أو زماناً. قال تعالى: ( فإذا جاء الخوف ﴾ [الأحزاب: 19]. وقال: « فإذا جاء أجلهم *
[الأعراف: 34]. وقال: «فقد جاءو ظلما وزورا * [الفرقان: 4]). وقال في معنى النزول: النزول في الأصل انحطاط من علو… وإنزال الله تعالى نعمه ونقمه على الخلق: إما بإنزال الشيء نفسه، كإنزال القرآن، أو بإنزال أسبابه والهداية إليه، كإنزال الحديد واللباس. قال تعالى: «وأنزلنا الحديد * [الحديد: ٢٥]. وقال: «وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ﴾ [الزمر: 6].

وقال الغزالي: النزول اسم مشترك، قـد يطلق إطلاقاً يفتقر إلى ثلاثة أجسام، جسم عال، هو مكان لساكنه، وجسم سافل، وجسم منتقل من السافل إلى العالي، ومن العالي إلى السافل، فإن كان من أسفل سُمي صعوداً وعروجاً ورقياً، وإن كان مـن عـلـو سـمـي نـزولاً وهبوطاً. وقد يطلق على معنى آخر، ولا يفتقر إلى تقدير انتقال وحركة في جسم، كما قال تعالى: «وأنزل لكم من الأنعم» وما رؤي البعير نازلاً من السماء بالانتقال، بل هي مخلوقة في الأرحام. وكما قال الشافعي: دخلت مصر، فلم يفهموا كلامي، فنزلت ثم نزلت ثم نزلت. فلم يروا انتقال جسمه إلى أسفل. ويتحقق المؤمن أن النزول في حق الله تعالى ليس بالمعنى الأول قطعاً، وهوانتقال من علو إلى أسفل، لأنه سبحانه ليس بجسم.
5 ـ ومنها قوله : «إن الله تعالى خلق آدم على صورته»“. وقوله: «إنني رأيت ربي في أحسن صورة»(1).

فالصورة اسم مشترك، قد يطلـق ويراد به الهيئة الحاصلة من أجسام مختلفة

مرتبة ترتيباً مخصوصاً، مثل الأنف والعين وغيرهما، وقد يطلق ويراد به ما ليس

بجسم ولا هيئة في جسم، كقولك: عرفت صورة المسألة، والمعنى الأول يستحيل في حق الله تعالى. موقف السلف من المتشابهات: بعد ما سقنا بعضاً من النصوص المتشابهة آنفاً نذكر الآن موقف كل من السلف والخلف تجاهها: إن الخلف ذهبوا ـ بعـد أن نزهوا الله تعالى عـن الظاهـر المتبادر مـن هـذه النصوص – إلى التأويل التفصيلي، فقالوا: إن المراد بالاستواء الاستيلاء والقهر من غير معاناة ولا تكلف، واللغة تتسع لهذا المعنى الذي عينوه، لأن استوى ـ لغة ـ تكون بمعنى استولى وقهر، أو دبر وحكم، أو اعتدل وقصد، أو علا وارتفع. وإن المراد بالوجه الذات، وباليد القدرة، والصورة الصفة من سمع وبصر وعلـم وحياة، فهـو عـلى صـفته على الجملة وإن كانت صفته تعالى قديمة وصفة الإنسان حادثة وإن المراد باليمين في قوله تعالى: «والسّموات مطويت بيمينه * [الزمر: 67] القـوة ، وبالفوقية : العلو المعنوي دون الحسي ، وبالمجيء: مجيء الأمر، وبالعندية في قوله: «وعنده مفاتح الغيب ﴾ [الأنعام: 59] الإحاطة والتمكن، وبالعين في قوله: «ولتصنع على عيني ﴾ [طه: ٣٩] التربية والرعاية.

وقد ذهب السلف إلى تفويض علم المراد من هذه النصوص إليه سبحانه. قال الزرقاني: المذهب الأول مذهب السلف، ويسمى مذهب المفوضية وهو تفويض معاني هذه المتشابهات إلى الله وحده، بعد تنزيهه عن ظواهرها المتسحيلة. ويستدلون على مذهبهم بدليلين: أحدهما عقلي، وهو: أن تعيين المراد من هذه المتشابهات إنا يجري على قوانين اللغة واستعمالات العرب، وهي لا تفيد إلا الظن، مع أن صفات الله من العقائد التي لا يكفي فيها الظـن، بل لا بد فيها من اليقين، ولا سبيل إليه، فلنتوقف، ولنكل التعيين إلى العليم الخبير . وثانيهـا نقـلي ويعتمد على عدة أمور، منها: أن الوقف في الآية الكريمة: « هو الذي أنزل عليك الكتب منه ءايت تحكمت … ﴾ [آل عمران: 7]. على قوله تعالى: «ولا يعلم تأويله إلا الله ﴾ [آل عمران: 7]). 134 ! مناص لمن أراد الاحتراز عـن الـزيـغ مـن أن يمتنع عن التأويل والتفسير والتصريف.

ومنها: حديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول اللہ ﷺ قال بعد أن قرأ قوله تعالى: « فأما الذين في قلوبهم زيع ﴾ [آل عمران: 7]. «إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الكتاب بعضه بهذا ضلت الأمم قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتاب بعضهم ببعض، وإن القرآن لم ينـزل لتضربوا بعضه ببعض، ولكـن نـزل الـقـرآن ليصدق بعضه بعضا، ما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه فآمنوا به». حديث أبي مالك الأشعري ، وفيه: أنـه سـمع رسول اللہ ﷺ یقول: «لا على أمتي إلا ثلاث خلال: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا، وأن يفتح الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله. والراسخون في عمر عر أخـاف على أمتي إلا ثلاث خلال: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا، وأن يفتح لهـم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله. والراسخون في العلم يقولون آمنا به. وأن يروا ذا علمهم فيضيعوه، ولا يبالون به»(“). ومنها: ما رواه سـليـمان بـن يـسار: أن رجلاً يقـال لـه: صبغ، أو: صبيغ، قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر له وقد أعد له عراجين النخل، فقال له: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله بن صبيغ . فأخذ . عرجوناً فضربه حتى دمي رأسه، فتركه حتى برأ برأ، ثم عاد، ثم تركه حتى برأ، فدعا به ليعود فقال: إن كـنـت تـريـد قـتلي فاقتلني قتلاً جميلاً. فأذن لـه إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري : (ألا يجالسه أحد من المسلمين)(3).

وحديث أبي مالك الأشعري له، وفيه: أنه سمع رسول اللہ ﷺ یقول: «لا يجالسه أحد من المسلمين )
وقد ورد عـن أم سلمة رضي الله عنها أنها سئلت عن قوله تعالى: « الرحمن على العرش استوى » . فقالت : الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول، والإقرار به من الإيمان، والجحود به كفر. وورد أن عامر الشعبي وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين قالوا عن الحروف التي في أوائل السور: هي سر الله في القرآن، والله في كل كتاب من كتبه سر، فهي من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه، ويجب ألا يتكلم فيها، ولكن نؤمن بها، وتمر کما جاءت . وقد روي هـذا الـقـول عـن أبي بكر الصديق وعن علي بن أبي طالب

. وإليك بعض أقوال السلف رحمهم الله تعالى في المتشابه: قال جابـر بـن عـبد الله رضي الله عنها: المحكـم مـا عـرف تأويله وفهم معناه وتفسيره، والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، فهو مما استأثر الله تعالى بعلمه
دون خلقه).

ونقـل عـن عـمـر وعثمان وابـن مسعود رضي الله عنهم أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر. قال أبو بكر الأنباري: فهذا يوضح أن حروفاً من القرآن استترت معانيها عن جميع العالم اختباراً من الله ﷺ وامتحاناً، فمن آمن بها أثيب وسعد ومن كفر وشك أثم وبعد
وجـاء عـن الإمام مالك رحمه الله أنه قال حين سئل عن الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عن هذا بدعة. ثم قال للسائل: وأظنك رجل سوء، أخرجوه عني، وقـد عـقـب العلامة ملا علي قاري على قول الإمام مالك بقوله: وهذه طريقة السلف، وهي أسلم. وسئل الإمام الأوزاعي عن تفسير قوله تعالى: « الرحمن على العرش استوى » . فقال: «الرحمن على العرش استوى * كمـا قـال، وإني لأراك ضالاً. وقد عقب ابن الصلاح عـلى هـذا بقوله: على هذه الطريقة مضى صدر الأمة وساداتها، وإياها اختار الأئمة الفقهاء وقادتها، وإليها دعـا أئمة الحديث وأعلامه، ولا أحد من المتكلمين من أصحابنا يصدف عنها ويأباها). وقد سئل الإمام أحمد ﷺ عن الاستواء فقال: استوى كما أخبر، لا كما يخطر للبشر. ولما سئل الشافعي قال: آمنت بلا تشبيه وصدقت بلا تمثيل، واتهمت نفسي عن الإدراك، وأمسكت عن الخوض فيه كل الإمساك. وقـال يـونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: نثبت هذه الصفات التي جاء بها القرآن، ووردت بها السنة، وننفي التشبيه عن الله کا نفاه عن نفسه فقال: هو ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) . وقال الترمذي عند حديث: «إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه»(3). وقد قال غير واحـد مـن أهـل العلـم في هذا الحديث وما يشبهه: يؤمن به ولا يتوهم، ولا يقال: كيف؟ هكذا روي عن مالك بن أنس وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك،
أنهـم قـالـوا في هذه الأحاديث : أمروها بلا كيف: وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة. ونقـل الشهرستاني أن الأئمة: مالكـا والشافعي وأحمـد لم يتعرضـوا لـلـتأويل واحترزوا عن التشبيه أيها احتراز، حتى قالوا: من حرك يده عند قراءة قوله تعالى: لما خلقت بيدي ﴾ [ص: 75]. أو أشـار بإصبعه عـنـد رواية: «قلـب المـؤمـن بـين أصبعين من أصابع الرحمن»، وجب قطع يده وقطع إصبعه . وقد قال الإمام النووي بعد أن ذكر حديث النزول: وفي هذا الحديث وشبهه من أحاديث الصفات وآياتها مذهبان : أحدهما: تأويله على ما يليق بصفات الله تعالى، وتنزيهه عن الانتقال وسائر صفات المحدث، وهذا هو الأشهر عن المتكلمين. ثانيها: الإمساك عـن تأويلهـا، مـع اعتقاد تنـزيه الله سبحانه عـن صـفـات المحدث، لقوله تعالى: « ليس كمثله شئ ﴾ [الشورى: 11]. وهذا مذهب السلف وجماعة من المتكلمين، وحاصله أن يقال : لا نعلم المراد بهذا، ولكن نؤمن به مع اعتقاد أن ظاهره غير مراد، وله معنى يليق بالله تعالى “.
يتبع ……..

السابق
أمثلة على الآيات المتشابهة (آيات الاستواء/منقول)
التالي
الدرس الثامن والعشرون/ تابع أمثلة على الآيات المتشابهة (قول اللقاني والغزالي والبيضاوي وابن كثير/ منقول)