الدرس التاسع والعشرون
الحكمة من إنزال المتشابه
وأما الحكمة من إنزال المتشابه ـ مع أنه كتاب أنزل للقراءة والفهـم ـ فهـي كـما قال ابن قتيبة في كتابه [تأويل مشكل القرآن]: أن القرآن نزل بألفاظ العرب ومعانيها ومذاهبها في الإيجاز والاختصار والإطالة والتوكيد، والإشارة إلى الشيء وإغمـاض بعض المعاني حتى لا يظهر عليه إلا اللقن”،[اللقن: المتمكن من فهم الكلام] وإظهار بعضها وضرب الأمثال لما خفي. ولو كان القرآن كله ظاهراً مكشوفاً حتى يستوي في معرفته العالم والجاهل لبطل التفاضل بين الناس، وسقطت المحنة وماتت الخواطر”). على أن الإعجاز القرآني ـ في جملته قـائـم عـلى البحث والنظر في أمـور، منها الخفي والجلي، ومنها الدقيق والأدق، واللطيف والألطف، وإلا فكيف تنبع المعاني، وتأتي الدهشة لها، إذا كان جميعها من الظهور بحيث تنكشف لكل ناظر مها تفاوتت درجة العلم ورتبة الفهم.
ونافلة في إظهار الحكمة من إنزال الآيات المتشابهات ما قاله ابن اللبان في كتابه رد الآيات المتشابهات]: إن الحكمة من ورود هذه الآيات هو : أنه من المعلوم أن أفعال العباد لا بـد فـيهـا مـن تـوسـط الجوارح، مع أنها منسوبة إليه تعالى، وبذلك يعلم أن لصفاته تعالى في تجلياتها مظهرين: مظهـر عـبادة منسوب لعباده، وهو الصور والجوارح الجسمانية. ومظهر حقيقي منسوب إليه، وقد أجرى عليه أسماء المظاهر العبادية المنسوبة لعباده على سبيل التقريب لإفهامهم، والتأنيس لقلوبهم. .
وقـد نـبـه تعالى في كتابه على القسمين، وأنه منزه عن الجوارح في الحالين: فنبه على الأول بقوله: « قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ﴾ [التوبة: 14]، فهذا يفهم أن كـل مـا يـظـهـر عـلى أيـدي العباد فهو منسوب إليه تعالى، ونبه على الثاني بقوله فيها أخـبر عـنـه نبيه ﷺ: «… ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته ، الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها… إلخ . وقد حقق الله تعالى ذلك لنبيه بقوله: « إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله » [الفتح: 10]. وبقوله: «وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ﴾ [الأنفال: 17]