الاتباع الانتقائي للوهابية للسلف

(الاتباع الانتقائي للسلف لدى السلفية والوهابية، الإمام مالك نموذجا)

رابط المنشور:

https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/3510144762432854

فهل هناك دليل أكبر من ذلك على هذا التحكم والتشهي والتلاعب والتحريف والعبث الذي يقوم به ابن تيمية – رحمه الله – في كلام السلف باسم السلف والسلفية؟! فإنه حين تكون الكلمة موجودة يؤولها ابن تيمية لأنها تصادم مذهبه، وإن كانت عين تلك الكلمة غير موجودة في سياق آخر فإنه يقوم بتقديرها في الكلام لأنه يحتاجها لمذهبه!!

(الاتباع الانتقائي للسلف لدى السلفية والوهابية، الإمام مالك نموذجا)

سبق أن خرّجت تسعة روايات مسندة عن مالك الإمام رحمه الله حين سئل عن الاستواء، ثم عثرت على رواية عاشرة بلفظ ” استواؤه مجهول،والفعل منه غير معقول “[1]، وهذه الرواية هامة جدا لأنها تطيح بأحلام القوم وتنسف تمسكهم برواية “الاستواء معلوم، والكيف مجهول” بحجة أن هذه الرواية تعني أن الاستواء معلوم المعنى وهو المعنى الظاهر الحسي طبعا عندهم ، وأن لله كيفا[2]، ولكنه مجهول لا نعلمه وإنما هو يعلمه، فقول السلف ((“الكيف مجهول” أو “بلا كيف” يتضمن عدة فوائد… (منها) أنهم نفوا علمنا بالكيفية، ولم ينفوا أن يكون في نفس الأمر كيفية لا يعلمها إلا هو سبحانه “نفي الشيء غير نفي العلم به” “لم يقل مالك: الكيف معدوم، وإنما قال الكيف مجهول“))[3]!!! “ففرق بين المعنى المعلوم من هذه اللفظة، وبين الكيف الذي لا يعقله البشر”[4]!!!

هكذا يفهم القوم نفي السلف للكيف، فنفي الكيف الذي عبر عنه السلف “بلا كيف” صار معناه العكس وهو أن لله كيفا!! وكيف فهموا ذلك؟ فهموه عن طريق المجاز وتقدير محذوف ووضع قيد على الكلام حتى صار معنى ” قول السلف: بلا كيف. أي: بلا كيف يعقله البشر”[5]!!! أي أن القوم زادوا وأقحموا قيدا في الكيف المنفي نفيا مطلقا ثم بمفهوم المخالفة لهذا القيد الذي وضعوه من كيسهم استنتجوا أن لله كيفا على اعتبار أن النفي المقيد يُسلط فيه النفي على القيد لا على المقيد!!!

فتأمل يرعاك الله!! ولا تنس أن القوم منكرون للمجاز ويسمونه طاغوتا، وينكرون التأويل ويسمونه تحريفا!!! ومع ذلك يعبثون هذا العبث ويستخدمون المجاز ويحرفون هذا التحريف!!! فما أضعف مذهب هؤلاء القوم حيث تراهم يبالغون في إنكار المجاز ثم تراهم يتشبثون به في مثل هذه المضائق لئلا ينهار مذهبهم، ولكنه منهار على كل حال كما ترى !!

وهكذا انتهى القوم إلى أن له تعالى كيفية معينة، ولكن لا يعلمونها وإنما هو تعالى يعلمها!!! ووجدوا في رواية “والكيف مجهول” بغيتهم ومأربهم بظنهم!! ولذا تمسكوا بهذه الرواية وعضوا عليها بالنواجذ!! مع أن الروايات الأخرى عن مالك كلها فيها إما “الكيف عنه مرفوع” أو “والكيف غير معقول” وقد سردتها في الحاشية السابقة، وهي صريحة في نفي أصل الكيف، ولذلك ضربوا بهذه الروايات كلها عرض الحائط وأخذوا برواية “والكيف مجهول”، وهذا هو التشهي والاتباع الانتقائي للسلف!!

ثم ما معنى أن لله كيفا ولكن لا نعلمه؟! هذا لا يعني إلا أن لمعبودهم حجما وكتلة وطاقة ووزنا وجسما وأعضاء وأبعاضا ومكانا وزمانا، كل ذلك على مقدار معين ووجه محدد!! ولكن كل ما في الأمر أن مقادير كل ذلك مجهولة لديهم!!! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فالحمد لله على نعمتي التنزيه والعقل.

وقد بيّنت سابقا وبشكل مطول أن هذه الرواية الأخيرة “الاستواء معلوم والكيف مجهول” غير موجودة أصلا من ضمن روايات عشر جاءت عن مالك اللهم إلا لفظا شبيها رواه ابن نافع الصائغ انتقاه القوم انتقاء من بين سائر الروايات الأخرى عن مالك نفسه لأنها لا تروق لهم بل تنسف مذهبهم، فلذا انتقوا هذه الرواية حسب مذهبهم في الاتباع الانتقائي للسلف كما وضحته في منشور سابق من (سلسلة هل هو انتقاء طماطم وخيار أم اتباع للسلف الأخيار؟!!)[6]هذا فضلا عن أن رواية ابن نافع الصائغ في ثبوتها كلام كثير وضحته في سلسلة “التحقيق النافع لأثر الصائغ عبد الله بن نافع”[7].

وأما الرواية الأولى التي أشرت إليها فقد قال ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد: وأخبرنا محمد بن عبد الملك قال حدثنا عبد الله بن يونس قال حدثنا بقي بن مخلد قال حدثنا بكار بن عبد الله القرشي قال حدثنا مهدي بن جعفر عن مالك بن أنس أنه سأله عن قول الله عز وجل الرحمن على العرش استوى كيف استوى قال فأطرق مالك ثم قال: استواؤه مجهول والفعل منه غير معقول والمسألة عن هذا بدع[8].اهـ

قال وليد – وفقه الله – : فهذه الرواية – لاسيما إن صحت – تهدم زعمهم بأن مالك يقصد برواية “الاستواء معلوم” أو “الاستواء غير مجهول”:” أن الاستواء معلوم المعنى؛ لأن الله قد خاطبنا في القرآن الكريم بكلام عربي مبين”[9]، “ولو أراد ذلك لقال: معنى الاستواء مجهول، أو تفسير الاستواء مجهول، أو بيان الاستواء غير معلوم”[10].

ولكن رواية “استواؤه مجهول” السابقة، تنسف هذا كله نسفا، وبالتالي ينهدم كل ما بناه ابن تيمية على رواية “الاستواء معلوم والكيف مجهول” التي طالما كررها عشرات المرات في كتبه، ثم عمّمها على سائر الصفات وسائر السلف فقال: وهذا الجواب من مالك – رحمه الله – في الاستواء شاف كاف في جميع الصفات. مثل النزول والمجيء واليد والوجه وغيرها. فيقال في مثل النزول: النزول معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. وهكذا يقال في سائر الصفات إذ هي بمثابة الاستواءالوارد به الكتاب والسنة[11].اهـ وكذا قال ابن القيم “وهذا الجواب من مالك رضي الله عنه شاف، عام في جميع مسائل الصفات”[12].

فتأمل كيف انتقى ابن تيمية هذه الرواية “الاستواء معلوم والكيف مجهول” من بين عشر روايات عن مالك في نفس القصة التي سئل فيها عن الاستواء، وما ذلك إلا لأنها تخدم غرضه وتدعم مذهبه بظنه!! ولم يكتف بذلك بل وضع عليها بعض التوابل حين زعم هو وأتباعه أن معناها أن الاستواء معلوم أي معلوم المعنى!! أي أنه قدّروا محذوفا هنا أيضا – كما قدروه في نفي الكيف هناك كما رأينا – وهو هنا كلمة “المعنى”، وهذا طريف جدا لأمرين، أولا: لأن القوم منكرون للمجاز بكل أنواعه ولا سيما مجاز الحذف فهو عندهم طاغوت[13]!! الثاني: أن القوم حين رأوا تصريح كثير من السلف بأنهم لا يخوضون في المعنى ولا في تفسير الآيات المتشابهة ومنها آية الاستواء – كما بينت ذلك في سلسلة مستقلة[14]– راحوا يؤولون كلمة “المعنى” ويفسروا كلمة “التفسير”!!! ومن ذلك أن ابن تيمية نقل عن الإمام أحمد قوله عن الأحاديث المتشابهة “نؤمن بها، ونصدق بها، ولا كيف ولا معنى” فتدخّل ابن تيمية ليؤول كلام أحمد فقال: “أي لا نكيفها ولا نحرفها بالتأويل، فنقول: معناها كذا”[15]!!!

وأيضا لما أورد ابن تيمية قول محمد بن الحسن : اتفق الفقهاء كلهم .. على الإيمان بالقرآن والأحاديث .. في صفة الرب عز وجل من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه فمن فسر شيئا من ذلك فقد خرج مما كان عليه النبي وفارق الجماعة فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا ولكن آمنوا … اهـ قال ابن تيمية بعد ذلك مسرعا: وقوله من “غير تفسير”: أراد به تفسير الجهمية المعطلة[16]!!!

وكذا حين أورد قولَ أبي عبيد ” غير أنا إذا سُئلنا عن تفسيرها لا نفسرها وما أدركنا أحدا يفسرها. “استدرك ابن تيمية فقال: “وقد أخبر أنه ما أدرك أحدا من العلماء يفسرها : أي تفسير الجهمية[17]!!!

فتأمل كيف يؤول ابن تيمية كلمة “المعنى” وكلمة “تفسير” في كلام السلف الذين صرحوا بها تصريحا لينفوا تفسير نصوص الصفات المتشابهة، ثم راح ابن تيمية يبحث عن عبارات هنا وهناك للسلف كقول مالك “الاستواء معلوم” ليقدّر فيها محذوفا وهو كلمة “المعنى” التي أوّلها في كلام أحمد!!!! فهل هناك دليل أكبر من ذلك على هذا التحكم والتشهي والتلاعب والتحريف والعبث الذي يقوم به ابن تيمية – رحمه الله – في كلام السلف باسم السلف والسلفية؟! فإنه حين تكون الكلمة موجودة يؤولها ابن تيمية لأنها تصادم مذهبه، وإن كانت عين تلك الكلمة غير موجودة فيقوم بتقديرها في الكلام لأنه يحتاجها لمذهبه!! كل هذا وابن تيمية ينكر التأويل والمجاز ويسميه تحريفا وطاغوتا ويتهم به خصومه السادة الأشاعرة أئمة الدين!! مع أنه هو يقوم بهذا التحريف على أكمل وجه جهارا نهارا كما ترون، فما بالك لو كان ابن تيمية لا ينكر التأويل والمجاز فكيف سيكون حاله إذن؟!!

ولئن سلّمنا أن مالكا يقصد أن معنى الاستواء معلوم، بل سنسلم أن مالكا صرح بذلك تصريحا فقال: معنى الاستواء معلوم، فهذا لا يفيدكم ، إذ ليس هذا محل النزاع أصلا وإنما النزاع هل المعنى المعلوم للاستواء هو على الوجه الحسي أم المعنوي؟!! إن زعمتم أنه أراد الأول فنحن نزعم أنه أراد الثاني!! بمعنى أننا نقول إنّ مالكا أراد المعنى الذي تقول به المنزهة وهو الاستواء المعنوي من السيطرة والقهر – بدليل نفيه للكيف وبدليل الروايات الأخرى عن مالك في التفويض والتأويل كما سيأتي – لا المعنى الذي تقول به المجسمة من الجلوس والعلو الحسي.

فإن قلتم: ومن أين قدرّتم أنه أراد بالمعنى المعنى الذي تقول به المنزهة لا المجسمة؟ قلنا: كما قدرّتم أن أحمد أراد بنفي المعنى حين قال “ولا كيف ولا معنى” أنه أراد المعنى الذي تقول به الجهمية، فمن أين أتيتم بكلمة الجهمية هنا؟

وكما زعمتم بأن أبا عبيد وشيخه محمد بن الحسن قصدا بقولهما عن نصوص الصفات تمر “بلا تفسير” فقدرتم هنا محذوفا فقلتم: أي لا بلا تفسير الجهمية!!! فنحن أيضا نقدّر فنقول: بل قصدا – أي أبو عبيد ومحمد بن الحسن- : بلا تفسير المجسمة!! وكما قدرتم في قول السلف “بلا كيف” فقلتم ” قول السلف: بلا كيف. أي: بلا كيف يعقله البشر“!! بل كما قدّرتم كلمة “المعنى” في قول مالك نفسه: الاستواء معلوم!!! أم أن التقدير فقط حلال لكم حرام على غيركم؟ نحن أولى بالتقدير منكم لأنكم أصلا منكرون للمجاز ونحن نقول به بضوابطه.

وبالرجوع إلى موضوعنا فنقول إن ابن تيمية تمسك برواية “الاستواء معلوم” ليزعم أن الاستواء هو معلوم المعنى وهو المعنى الحسي وأن الكيف ثابت لله ولكنه مجهول!! ثم عمّم ذلك على كل الصفات المتشابهة، وليس هذا فحسب بل عمّم هذه الرواية على كل السلف فجعلهم كلهم قائلين بذلك؟!!! وهذه أوهام وظلمات بعضها فوق بعض لسببين:

الأول: ما سبق الإشارة إليه وهو أن هذا كله مبني على رواية مشكوك في ثبوتها سندا ومتنا وهي رواية “الاستواء معلوم والكيف مجهول”، وأنه قد عارضها روايات أخرى منها الراوية السابقة وهي بلفظ “استواؤه مجهول والفعل منه غير معقول “، فهنا صرح بأن الاستواء مجهول لا معلوم كما هي الرواية التي تمسك بها ابن تيمية، ويؤيدها رواية البيهقي في الأسماء والصفات عن عبد الله بن وهب عن مالك: ” {الرحمن على العرش استوى} كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف، وكيف عنه مرفوع“، فهنا اقتصر على أن الله وصف نفسه بأنه استوى على العرش، دون أن يتطرق لمعناه أصلا ولا لكونه معلوما أو مجهولا، كما أنه رفع الكيف عنه فقال “وكيف عنه مرفوع” ونحو ذلك ما في روايات أخرى كثيرة عن مالك: “والكيف غير معقول” فهذه الروايات كلها تنسف زعمكم أن المراد بقول مالك الاستواء معلوم أي معلوم المعنى، وأنه أراد إثبات أصل الكيف.

الثاني: أن مالكا نفسه جاء عنه التفويض والتأويل بل كراهية التحدث والتحديث بأحاديث الصفات المتشابهة، حيث قال ابن عبد البر بعد أن روى الرواية السابقة: وقال يحيى بن إبرهيم بن مزين إنما كره ملك أن يتحدث بتلك الأحاديث لأن فيها حدا وصفة وتشبيها، والنجاة في هذا الانتهاء إلى ما قال الله عز وجل ووصف به نفسه بوجه ويدين وبسط واستواء وكلام فقال فأينما تولوا فثم وجه الله وقال بل يداه مبسوطتان وقال والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه وقال الرحمن على العرش استوى فليقل قائل بما قال الله ولينته إليه ولا يعدوه ولا يفسره ولا يقل كيف فإن في ذلك الهلاك لأن الله كلف عبيده الإيمان بالتنزيل ولم يكلفهم الخوض في التأويل الذي لا يعلمه غيره [18].اهـ

فتأمل قوله “إنما كره ملك أن يتحدث بتلك الأحاديث لأن فيها حدا وصفة وتشبيها“، وقوله “ولا يعدوه ولا يفسره ولا يقل كيف فإن في ذلك الهلاك” وقوله “ولم يكلفهم الخوض في التأويل الذي لا يعلمه غيره ” فهذا كله ينسف مذهب ابن تيمية الحسي في الصفات الإلهية الذي بناه على رواية “الاستواء معلوم والكيف مجهول”.

وقال الحافظ الذهبي في ترجمة أبي الزناد: وقال أبو جعفر العقيلي في ترجمة عبد الله بن ذكوان: حدثنا مقدام بن داود، حدثنا الحارث بن مسكين، وابن أبي الغمر، قالا: حدثنا ابن القاسم قال: سألت مالكا عمن يحدث بالحديث الذي قالوا: ” إن الله خلق آدم على صورته ” فأنكر ذلك إنكارا شديدا، ونهى أن يتحدث به أحد، فقيل: إن ناسا من أهل العلم يتحدثون به قال: من هم؟ قيل: ابن عجلان، عن أبي الزناد، فقال: لم يكن يعرف ابن عجلان هذه الاشياء، ولم يكن عالما، ولم يزل أبو الزناد عاملا لهؤلاء حتى مات، وكان صاحب عمال يتبعهمء، ولم يكن عالما، ولم يزل أبو الزناد عاملا لهؤلاء حتى مات، وكان صاحب عمال يتبعهم[19].اهـ ثم علق الذهبي فقال: قلت: الخبر لم ينفرد به ابن عجلان، بل ولا أبو الزناد…[20].

ثم أورد الذهبيهذه القصة مرة ثانية في ترجمة مالك ثم قال: قلت: أنكر الامام ذلك، لانه لم يثبت عنده، ولا اتصل به، فهو معذور، كما أن صاحبي ” الصحيحين ” معذوران في إخراج ذلك أعني الحديث الاول والثاني لثبوت سندهما… فقولنا في ذلك وبابه: الاقرار، والامرار، وتفويض معناه إلى قائله الصادق المعصوم[21].

ثم قال الذهبي: وقال ابن عدي: حدثنا محمد بن هارون بن حسان، حدثنا صالح بن أيوب، حدثنا حبيب بن أبي حبيب، حدثني مالك قال: يتنزل ربنا تبارك وتعالى أمرُه فأما هو، فدائم لا يزولفأما هو، فدائم لا يزول. قال صالح: فذكرت ذلك ليحيى بن بكير، فقال: حسن والله،، ولم أسمعه من مالك. قلت: لا أعرف صالحا، وحبيب مشهور، والمحفوظ عن مالك رحمه الله رواية الوليد بن مسلم أنه سأله عن أحاديث الصفات، فقال: أمرها كما جاءت، بلا تفسير. فيكون الامام في ذلك قولان إن صحت رواية حبيب[22].اهـ

قال وليد: فتأمل هذه الروايات والمواقف السابقة عن مالك رحمه الله، فكلها تهدم مذهب ابن تيمية، لأنها ما بين تفويض وتأويل كما هو قول الأشاعرة تماما، قال صاحب الجوهرة:

40 – وَكُلُّ نَصٍ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا … أَوِّلْهُ أَوْ فَوِّضْ وَرُمْ تَنْزِيهَا

و ابن تيمية منكر لكلا المذهبين أي مذهبي التفويض والتأويل كما يردد ذلك في كتبه[23]، بل ذهب مالك أبعد مما ذهب إليه الأشاعرة حين أنكر على بعض من يحدث بتلك الأحاديث المتشابهة، فما بالك بمن يقول هي على ظاهرها الحسي؟ فما بالك بمن يشتم من لا يحملها على ذلك؟!!

طبعا أنت إذا بحثت في كتب ابن تيمية وأتباعه عن هذه الرواية السابقة التي أوردها عن مالك كل من ابن عبد البر والذهبي فلن تجدها في كتب القوم لأنها تهدم مذهبهم وتبطل ما ينسبونه إلى مالك، وأنا بحثت قديما وحديثا في المكتبة الشاملة العادية والذهبية عن تلك الروايات عن مالك فلم أجد لها ذكرا في كتب ابن تيمية وابن القيم وكتب الوهابية في العقيدة قاطبة وتبلغ أكثر من ثلاثة آلاف كتاب اللهم إلا مرة واحدة ذكرها ابن تيمية في التسعينية[24]ليردها!! بينما كرر ابن تيمية 48 مرة عبارة “الاستواء معلوم والكيف مجهول” هذا فقط في ثلاثة كتب من كتبه، وهي درء التعارض، ومجموع الفتاوى، وبيان تلبيس الجهمية!!! وهو يوردها في كل مرة ليحتج بها على أن نصوص الصفات المتشابهة تحمل على ظاهرها الحسي !!!!

فتأمل هذه المفارقة كيف يبني ابن تيمية وأتباعه مذهب التجسيم على رواية عن مالك لا تكاد توجد أصلا عنه، بل وجد ما يعارضها أو قل: يبيّنها، كما سبق ذكره، ثم لم يكتف ابن تيمية بذلك بل راح يعمم هذا المنهج السقيم على سائر الصفات وسائر السلف!!

وإذا كان مالك نفسه في الروايات السابقة الأخرى يتراوح موقفه ما بين التأويل والتفويض بل أحيانا ينهى عن رواية بعض الأحاديث المتشابهة، فكيف يعمم ابنُ تيمية منهجَ التشبيه على سائر الصفات وسائر السلف زاعما أنه منهج مالك مع أن مالكا نفسه جاء عنه عكسه؟!! أم أن الأمر تحكم وانتقاء حسب الهوى والتشهي؟!!! إذا كان الأمر كذلك فهذا ليس بأولى من أن يُعمَّم منهج التأويل والتفويض الذي جاء عن مالك في الروايات السابقة، يُعمَّم على سائر الصفات وسائر السلف بدل أن يعمم منهج التشبيه ذاك؟ وما هو جوابكم هو جوابنا.

طبعا أنت لو عرضت تلك الروايات السابقة عن مالك التي فيها التأويل والتفويض على بعض الوهابية ستراه إما سيضعفها أو يؤولها ليتمسك برواية “الاستواء معلوم والكيف مجهول” ثم يفهمها كما يشاء بعد أن يرش عليه البهارات من كيسه، ثم يعممها على سائر الصفات وسائر السلف تماما كما فعل ابن تيمية!! وهذا إن لم يكن تحكما وتشهيا وتخبطا وانتقاء أشبه بانتقاء الطماطم والخيار لا اتباع للسلف الأخيار!!! فماذا يكون إذن يا أولى الألباب!!!

وكأننا نعجز عن أن نفعل ذلك برواية “الاستواء معلوم والكيف مجهول”، وكأننا لا نستطيع أن نؤول هذه الرواية ولا أن نضعفها!! على كلٍ سأنشر منشورا إن ساء الله أستعرض فيه جملة من الأثار السلفية التي يحتج بها القوم وأسلط عليه نفس معول التأويل الذي سلطه القوم على كل الروايات التي صرح فيها السلف بالتفويض أو بالتأويل، لننظر ماذا يبقى من تلك الآثار بعد تأويلها، وماذا سيكون موقف القوم من ذلك التأويل الذي ارتكبوا مثله وأشد؟!! والله الموفق

———————————-

[1] وهذه الروايات العشرة هي ما يلي:

1) رواية البيهقي في الأسماء والصفات عن عبد الله بن وهب عن مالك: ” {الرحمن على العرش استوى} كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف، وكيف عنه مرفوع”.

2) رواية البيهقي في الأسماء والصفات عن يحيى بن يحيى التميمي عن مالك: “الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول”.

3) رواية أبي نعيم في الحلية عن جعفر بن عبد الله عن مالك: “الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول”.

4) رواية أبي عثمان الصابوني في “عقيدة السلف وأهل الحديث” عن جعفر بن ميمون عن مالك: “الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول”.

5) رواية أبي الشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان عن محمد بن النعمان بن عبد السلام عن مالك: “الاستواء منه غير مجهول , والكيف منه غير معقول”.

6) رواية ابن عبد البر في التمهيد عن أيوب المخزومي عن مالك قال: “سألت عن غير مجهول، وتكلمت في غير معقول”.

7) رواية ابن المقرئ في معجمه عن إسماعيل بن أويس عن مالك: “الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول”.

😎 رواية الكلاباذي في بحر الفوائد عن عبد الله بن نافع عن مالك: “الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول”.

9) رواية ابن عبد البر في التمهيد من طريق ابن نافع عن مالك بلفظ “استواؤه معقول وكيفيته مجهولة”.

10) رواية ابن عبد البر في التمهيد من طريق مهدي بن جعفر عن مالك ” استواؤه مجهول والفعل منه غير معقول”.

انظر: https://www.facebook.com/…/permalink/457991904314837/

[2] انظر: https://www.islamweb.net/ar/fatwa/397891/معنى-نمرّ-الصفات-كما-جاءت-بلا-كيف

[3] الأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في صفة الاستواء (ص: 26) نقلا منه عن نقض التأسيس (1/198) ومجموع الفتاوى (13/309) كلاهما لابن تيمية.

[4] مدارج السالكين لابن القيم (2/ 85)، ط3 دار الكتاب العربي.

[5] مدارج السالكين 3/ 335

[6] انظر: https://www.facebook.com/…/permalink/3051804608266874

[7] انظر: https://www.facebook.com/…/permalink/857368084377215

[8] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ط المغرب (7/ 151)

[9] الأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في صفة الاستواء لعبد الرزاق البدر (ص: 88)

[10] انظر: مجموع الفتاوى (13/309،310). والأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في صفة الاستواء (ص: 50)

[11] مجموع الفتاوى (4/ 4)

[12] مدارج السالكين (2/ 85)

[13] انظر قول ابن القيم في مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص: 690): فصل: في كسر الطاغوت الثالث الذي وضعته الجهمية، لتعطيل حقائق الأسماء والصفات، وهو طاغوت المجاز..

[14] انظر: سلسلة هل تعلم أن عبارات اللاآت التي يرددها ابن تيمية في كتبه ويستشهد بها وينسبها للسلف وهي: “نثبت الصفات بلا تمثيل ولا تعطيل ولا تكييف ولا تأويل” هي عبارة ملفقة ومبتورة ومتلاعَب فيها؟ وهذه بعض روابطها:

https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/506912476089446/

https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/449858551794839/

[15] درء تعارض العقل والنقل (2/ 31)

[16] مجموع الفتاوى – (5 / 50) وانظر: عداء الماتريدية للعقيدة السلفية 2/98

[17] مجموع الفتاوى (5 / 51)

[18] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (7/ 151)

[19] سير أعلام النبلاء (5/ 449)

[20] سير أعلام النبلاء (5/ 450)

[21] سير أعلام النبلاء (8/ 104)

[22] سير أعلام النبلاء (8/ 105)

[23] من ذلك قوله في مجموع الفتاوى (13/143) . “تارة يحرفون الكلم عن مواضعه، ويتأولونه على غير تأويله، وهذا فعل أئمتهم، وتارة يعرضون عنه ويقولون: نفوض معناه إلى الله، وهذا فعل عامتهم”

[24] التسعينية (3/ 934)

السابق
نماذج من الصفات (التجسيم) من كتابَي الرد على الجهمية والرد على المريسي لعثمان الدارمي
التالي
ثلاثة من فقهاء الشافعية لُقّبوا بالقفال، من هم؟