حكم الاستغاثة ودعاء غير الله

(أَعِينُوا ‌عِبَادَ ‌اللَّهِ – يَا عِبَادَ اللهِ ‌أَغِيثُونِي – يَا عِبَادَ اللَّهِ احْبِسُوا) (مقال قيم منقول)

(أَعِينُوا ‌عِبَادَ ‌اللَّهِ – يَا عِبَادَ اللهِ ‌أَغِيثُونِي – يَا عِبَادَ اللَّهِ احْبِسُوا)

روى الحافظُ الطَّبَرانيُّ حديث: “إِذَا أَضَلَّ أَحَدُكُمْ شَيْئًا أَوْ أَرَادَ أَحَدُكُمْ عَوْنًا وَهُوَ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ، فَلْيَقُلْ: يَا عِبَادَ اللهِ ‌أَغِيثُونِي، يَا عِبَادَ اللهِ ‌أَغِيثُونِي، فَإِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَا نَرَاهُمْ” ثُمَّ قال الحافظ: “وَقَدْ جُرِّبَ ذَلِكَ” [المعجم الكبير (17/117)، رقم: (290)].

وذَكَرَهُ الحافظ نُور الدِّين الهَيثمي (ت : 807 هـ) في باب ((مَا يَقُولُ إِذَا انْفَلَتَتْ دَابَّتُهُ أَوْ أَرَادَ غَوْثًا أَوْ أَضَلَّ شَيْئًا)) وَقَال فِي تَخريجِه: ((رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَرِجَالُهُ وُثِّقُوا عَلَى ضَعْفٍ فِي بَعْضِهِمْ، إِلَّا أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَلِيٍّ لَمْ يُدْرِكْ عُتْبَةَ)) [مجمع الزوائد (10/132) رقم (17103)، مكتبة القدسي].

وَذَكَرَ فِي البَابِ أَيْضًا: ((عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ – قَالَ: “إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ سِوَى الْحَفَظَةِ، يَكْتُبُونَ مَا يَسْقُطُ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ، فَإِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ عَرْجَةٌ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَلْيُنَادِ: ‌أَعِينُوا ‌عِبَادَ ‌اللَّهِ”)) وَقَالَ في تخريجه: ((رَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ)) [مجمع الزوائد (10/132) رقم (17104)، مكتبة القدسي].

وَذَكَرَ هُنَاكَ أَيْضًا ((عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ -: “إِذَا انْفَلَتَتْ دَابَّةُ أَحَدِكُمْ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَلْيُنَادِ: يَا عِبَادَ اللَّهِ احْبِسُوا، يَا عِبَادَ اللَّهِ احْبِسُوا، فَإِنَّ لِلَّهِ حَاضِرًا فِي الْأَرْضِ سَيَحْبِسُهُ”)) وَقَالَ: ((رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَزَادَ: “سَيَحْبِسُهُ عَلَيْكُمْ”، وَفِيهِ مَعْرُوفُ بْنُ حَسَّانَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ)) [مجمع الزوائد (10/132) رقم (17105)، مكتبة القدسي].

قَال الإمامُ النَّوَوِيُّ بَعْدَ أَن ذَكَر حديث سيِّدنا ابن مسعود السَّابق: ((حَكَى لِي بَعْضُ شُيُوخِنَا الْكِبَار فِي الْعِلْمِ أَنَّهُ افْلَتَتْ لَهُ دَابَّةٌ أَظُنُّهَا بَغْلَةٌ، وَكَانَ يَعْرِفُ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَهُ؛ فَحَبَسَهَا اللهُ عَلَيهِمْ فِي الْحَالِ، وَكُنْتُ أَنَا مَرَّةً مَعَ جَمَاعَةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهَا بَهِيمَةٌ وَعَجَزُوا عَنْهَا، فَقُلْتُهُ، فَوَقَفَتْ فِي الْحَالِ بِغَيْرِ سَبَبٍ سِوَى هَذَا الْكَلَام)) [الأذكار (ص: 362)، ط. دار ابن كثير].

وَمِمَّن جرَّب أيضًا العَمل بهذا، الإمامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ، فَقَد قالَ: ((حَجَجْتُ ‌خَمْسَ ‌حِجَجٍ، مِنْهَا: ثِنْتَيْنِ رَاكِبًا وَثَلَاثًا مَاشِيًا، أَوْ ثِنْتَيْنِ: مَاشِيًا وَثَلَاثًا رَاكِبًا، فَضَلَلْتُ الطَّرِيقَ فِي حَجَّةٍ، وَكُنْتُ مَاشِيًا، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: يَا عِبَادَ اللَّهِ دُلُّونَا عَلَى الطَّرِيقِ، فَلَمْ أَزَلْ أَقُولُ ذَلِكَ حَتَّى وَقَعْتُ عَلَى الطَّرِيقِ، أَوْ كَمَا قَالَ أَبِي)) [مَسَائِلُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ – رِوَايَة ابْنِهِ عَبْدِ الله (2/816-817) رَقم (1090)، مكتبة الدَّار] فَهَا هُوَ الْإِمام أَحمد يَسْتَغِيثُ وَيَطْلُبُ الِاستِعَانَةَ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ غَيرِ مَرْئيَّةٍ، غَائِبَةٍ عَلَيْهِ، كَالْمَلَائِكَةِ، أَوْ صَالِحِي الْجِنِّ، أَوْ أَرْوَاحِ الصَّالِحِينَ: فَهِيَ أَجْسَامٌ نُورَانِيَّةٌ ثَبَتُ أَنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى التَّسَبُّبِ بِإِذْنِ رَبِّهَا كَمَا تَجْدْهُ فِي كِتَابِ “الرُّوح” لابْنِ القَيِّمِ، وَفِي حَدِيثِ “الْمِعراجِ” المَعْرُوفِ وغيره من النصوص خير دليل على ذلك.

فَهَذَا الفعلُ، يعدُّ مِنَ الشِّرْكِ الأَكبَر المُبيح للدَّم والمال عند الوَهَّابِيَّة كما سيأتي في كلام القوم، وهو أصلٌ فَيصليٌّ عندهم.

قَالَ العَلَّامَةُ المُلَّا عَلِيٌّ القارِي (ت : 1014 هـ): ((وَفِي “الْحِصْنِ”: ‌”وَإِنْ ‌أَرَادَ ‌عَوْنًا فَلْيَقُلْ: يَا عِبَادَ اللَّهِ أَعِينُونِي ثَلَاثًا” رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وَآلِهِ] وَسَلَّمَ – أَنَّهُ قَالَ: “إِذَا ضَلَّ أَحَدُكُمْ شَيْئًا، أَوْ أَرَادَ عَوْنًا وَهُوَ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ فَلْيَقُلْ: يَا عِبَادَ اللَّهِ أَعِينُونِي فَإِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَا نَرَاهُمْ”، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الثِّقَاتِ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسَافِرُونَ، وَرُوِيَ عَنِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ مُجَرَّبٌ)) [مرقاة المفاتيح (5/295)، ط. دار الفكر].

وَقَالَ العَلَّامَةُ ابْنُ عِلَّانَ الصِّدِّيقِي (ت : 1057 هـ): ((قَوْلهُ: “يَا عِبَادَ اللهِ” قالَ فِي “الحِرْز”: الْمُرَادُ بِهِمْ: الْمَلَائِكَةُ أَوِ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْجِنِّ أَوْ رِجَالِ الْغَيْبِ الْمُسَمَّوْنَ بِالْأَبْدَالِ)) [الفُتوحات الرَّبَّانيَّة على الأَذكار النَّواويَّة (5/150)، النَّشر والتَّأليف الأزهرية]، وَهُوَ قَول العَلَّامة القاري في [الحِرز الثَّمين للحِصن الحَصين (2/933)، ط. محمد إسحاق آل إبراهيم].

وَقَالَ العَلَّامَةُ الْمُنَاوِيُّ (ت : 1031 هـ): ((أَيْ: خَلْقاً مِنْ خَلْقِهِ إِنْساً أَوْ جِنًّا أَوْ مَلَكاً لَا يَغِيبُ)) [فَيْضُ الْقَدِير (1/307)، المكتبة التِّجارية الكبرى].

وَقَالَ الصَّنْعَانِيُّ (ت : 1182 هـ) – وَهُوَ مِنْ دُعَاةِ اللَّامَذْهَبِيَّةِ -: ((وَكَأَنَّهُم مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مِنْ صَالِحِي الْجِنِّ أَوْ مِنْ مَطَالِيحِهِم سَخَّرَهُم اللهُ لِذَلِكَ)) [التَّنويرُ شَرْحُ الجَامِع الصَّغِيرِ (1/607)، مكتبة دار السلام].

وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ (ت : 1250 هـ) – وَهُوَ مِنْ دُعَاةِ اللَّامَذْهَبِيَّةِ – فِي حَدِيثِ سيِّدِنَا عبد الله بنِ عبَّاس السَّابق: ((وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِعَانَةِ بِمَن لَّا يَرَاهُمْ الْإِنْسَانُ مِنْ عِبَادِ اللهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَصَالِحِي الْجِنِّ، وَلَيْسَ فِي ذَلِك بَأْسٌ كَمَا يَجُوزُ لِلْإنْسَانِ أَن يَّسْتَعِينَ بِبَنِي آدَمَ إِذَا عَثَرَتْ دَابَّتُهُ أَوِ ‌انْفَلَتَتْ)) [تُحفةُ الذَّاكرين (ص: 202)، ط. مؤسَّسة الكتب الثَّقافية].

إذن: فقد جرى عمل الأيمَّة بظاهر هذه الأحاديث كما سبق في كلام الحافظ الطَّبراني والإمام النَّووي والعلَّامة القاري وغيرهم، وهي صريحة في جواز الاستغاثة بمن لا يراهم الإنسان، وحتى على فرض ضعف سندها؛ فمن الهذيان القول بتواطؤ أيمَّة الإسلام على استحسان العمل بالشِّرك الأكبر المبيح للدَّم والمال.

وتأمَّل الآن يا عبد الله فتاوى بعض الوَهَّابِيَّة في المسألة ذاتها، لتدرك من خلال مقارنتها مع ما سبق، أنَّ القوم جارون على سَنَن سلفهم الخوارج الحرورية، فديدنهم الدَّعوة إلى التَّكفير والتَّقتيل، فيلزمهم إذن: إكفار الإمام أحمد بن حنبل والإمام النَّووي ومشايخه والحافظ الطَّبراني وكبار أيمَّة الإسلام، وهم خلق لا يحصيهم إلا الله، بل يلزمهم تكفير مشايخهم: كابن تيميَّة الحرَّاني، فقد أورد حديث “الدَّابَّة تنفلت” في كتابه [الكَلِم الطَّيِّب (ص: 78)، ط. دار الفكر] فجعله مِن الكَلِمِ الطَّيِّبِ، وَأورده أيضا تلميذه ابْنُ القيِّم في كتابه [الوَابلُ الصَّيِّب (ص: 335)، دار عطاءات العلم – دار ابن حزم]، فجعله من الوابلِ الصَّيِّب.

وإليك فتاواهم الشاذة في التكفير بلا زمام ولا خطام:

قال مُحَمَّدُ بْنُ عبدِ الوَهَّاب وفق فهمه الخاص لقوله تعالى ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ﴾ [الإسراء : 56] ما نصُّهُ: ((وَالآيَةُ هُنَا قُصِدَ بِهَا التَّعْمِيم لِكُلِّ مَا يُدْعَى مِنْ دُونِ اللهِ، فَكُلُّ مَنْ ‌دَعَا ‌مَيْتًا أَوْ غَائِبًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ سَوَاء كَانَ بِلَفْظِ الِاسْتِغَاثَةِ أَوْ غَيْرِهَا فَقَدْ تَنَاوَلَتْهُ هَذِهِ الآيَة!!!، كَمَا تَتَنَاوَلُ مَنْ دَعَا الْمَلَائِكَةَ!!!)) [المسائِل التي لَخَّصها مُحمد بن عبد الوهَّاب مِن كلَام ابْنِ تيمية (ص: 102)، جامعة محمَّد بن سُعود].

وفي سؤال مفاده: ((اشتهر عند بعض العَوام أن يقول أحدهم قبل النَّوم: “يا ملائكة الحِفظ أيقظوني في السَّاعة كذا أو عندَ وقتِ كذا؟)) ردَّ مُفتي الوَهَّابِيَّة ابْنُ باز قائلا: ((هَذَا لَا يَجُوزُ بَلْ هُوَ مِنَ الشِّرْكِ الأَكْبَر!!!؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ لِغَيْرِ اللهِ!!! وَطَلَبٌ مِنَ الْغَائِبِ!!!، فَهُوَ كَالطَّلَبِ مِنَ الْجِنِّ وَالْأَصْنَامِ وَالْأَمْوَاتِ!!!)) [مَجموع فتاوى ومقالات متنوعة لابن باز (7/180-181)، ط. دار القاسم للنَّشر] وتأمَّل تعليله للحكم: فكُلّ طَلَبٍ مِنَ الغائبِ فهو = شِركٌ أكبر مبيح للدَّم والمال!!!.

وقالت اللَّجنة الدَّائمة الوَهَّابِيَّة للإفتاء: ((الِاستعانةُ بِالجنِّ أَوِ الْمَلَائِكَةِ، وَالِاستِغاثَةُ بِهم لِدَفعِ ضُرٍّ أَو جَلْب نَفْعٍ أَو لِلتَّحَصُّن مِن شَرِّ الْجِنِّ: شِركٌ أكْبَر يُخرجُ عَن مِلَّةِ الإِسلَامِ!!! – والعِياذُ بِالله – سَوَاء كَانَ ذلِكَ ‌بِطريقِ ‌نِدَائِهِم!!! أَو…)) [فتاوى اللَّجنة الدَّائمة (1/75) فتوى رقم (3321)، دار المؤيد].

والله الموفِّق.

منقول

السابق
ضعف مصادر العقيدة الوهابية وجهالة أسانيدها (الشيخ محمود يزبك)
التالي
مناظرة حول تأويلات ابن عبد البر لبعض نصوص الصفات وكلامه في التبرك بالصالحين ومواضعهم (منقول)