صفة الاستواء

نصوص مفسري السلف والخلف والمتقدمين والمتأخرين والمعاصرين في آية الاستواء: {استوى على العرش} [الأعراف:54]/ج5

قال الإمام السيوطي في «الإتقان في علوم القرآن» (3/ 16):
«ذكر ما وقفت عليه من تأويل الآية المذكورة على طريقة أهل السنة.
من ذلك صفة الاستواء وحاصل ما رأيت فيها سبعة أجوبة:
أحدها: حكى مقاتل والكلبي عن ابن عباس أن: {استوى} بمعنى استقر وهذا إن صح يحتاج إلى تأويل فإن الاستقرار يشعر بالتجسيم.
ثانيها: أن: {استوى} بمعنى استولى ورد بوجهين:
أحدهما: أن الله تعالى مستول على الكونين والجنة والنار وأهلهما فأي فائدة في تخصيص العرش والآخر أن الاستيلاء إنما يكون بعد قهر وغلبة والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك.
أخرج اللالكائي في السنة عن ابن الأعرابي أنه سئل عن معنى: {استوى} فقال: هو على عرشه كما أخبر فقيل يا أبا عبد الله معناه (استولى) ?»

قال: اسكت لا يقال: استولى على الشيء إلا إذا كان له مضاد فإذا غلب أحدهما قيل استولى.
ثالثها: أنه بمعنى صعد قاله أبو عبيد ورد بأنه تعالى منزه عن الصعود أيضا.
رابعها: أن التقدير الرحمن علا أي ارتفع من العلو والعرش له استوى حكاه إسماعيل الضرير في تفسيره ورد بوجهين أحدهما أنه جعل على فعلا وهي حرف هنا باتفاق فلو كانت فعلا لكتبت بالألف كقوله: {علا في الأرض} والآخر أنه رفع: {العرش} ولم يرفعه أحد من القراء.
خامسها: أن الكلام تم عند قوله: {الرحمن على العرش استوى} ثم ابتدأ بقوله: {استوى له ما في السماوات وما في الأرض} ورد بأنه يزيل الآية عن نظمها ومرادها قلت ولا يتأتى له في قوله: {ثم استوى على العرش}
سادسها: أن معنى استوى أقبل على خلق العرش وعمد إلى خلقه كقوله: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} أي قصد وعمد إلى خلقها قاله الفراء والأشعري وجماعة أهل المعاني وقال: إسماعيل الضرير إنه الصواب.
قلت يبعده تعديته بعلى ولو كان كما ذكروه لتعدى بإلى كما في قوله: {استوى إلى السماء}
سابعها: قال: ابن اللبان الاستواء المنسوب إليه تعالى بمعنى اعتدل، أي قام بالعدل كقوله تعالى: {قائما بالقسط} والعدل هو استواؤه ويرجع معناه إلى أنه أعطى بعزته كل شيء خلقه موزونا بحكمته البالغة ومن ذلك النفس في قوله تعالى: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} ووجه بأنه خرج على سبيل المشاكلة مرادا به الغيب لأنه مستتر كالنفس.اهـ

========

وفي «الزيادة والإحسان في علوم القرآن» (5/ 54):
وقال الإمام الحافظ السيوطي -رحمه الله تعالى- في: «الإتقان»: ذكر

الزيادة والإحسان في علوم القرآن

المؤلف: محمد بن أحمد بن سعيد الحنفي المكيّ، شمس الدين، المعروف كوالده بعقيلة (ت ١١٥٠ هـ)

==========

وقد نقل هذا أيضا ملخصا وزاد عليه الشيخ مرعي الحنبلي في أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات، فقال (ص: 123):

وقال الحافظ السيوطي في الإتقان وحاصل ما رأيت في ذلك سبعة أجوبة
أحدها ما روى مقاتل والكلبي عن ابن عباس أن استوى بمعنى استقر وهذا إن صح يحتاج إلى تأويل فإن الإستقرار مشعر بالتجسيم
قلت ولعل المراد أن هذا إنما هو تفسير لمجرد معنى أصل الإستواء فإنه الإستقرار كما في قوله تعالى {واستوت على الجودي} هود 44 وقوله {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك} المؤمنون 28
ثانيها أن استوى بمعنى استولى
يعني فالإستواء هو القهر والغلبة ومعناه الرحمن غلب العرش وقهره يقال استوى فلان على الناحية إذا غلب أهلها

وقهرهم قال الشاعر … قد استوى بشر على العراق … من غير سيف ودم مهراق …

ورد بوجهين
أحدهما أن الله تعالى مستول على الكونين والجنة والنار وأهلهما فأي فائدة في تخصيص العرش بالذكر
ولا يكفي في الجواب أنه حيث قهر العرش على عظمته واتساعه فغيره أولى لأن الأنسب في مقام التمدح بالعظمة التعميم بالذكر لقهره الأكوان الكلية بأسرها
ثانيهما أن الإستيلاء إنما يكون بعد قهره وغلبته والله تعالى منزه عن ذلك
وقد سئل الخليل بن أحمد إمام أهل اللغة والنحو هل وجدت في اللغة استوى بمعنى استولى فقال هذا مما لا تعرفه العرب ولا هو جار في لغتها سأله عن ذلك بشر المريسي
وأخرج اللالكائي في السنة عن ابن الأعرابي أنه سئل

عن معنى استوى فقال هو على عرشه كما أخبر فقيل له يا أبا عبد الله معناه استولى فقال اسكت لا يقال استولى على الشيء إلا إذا كان له مضاد فإذا غلب أحدهما قيل استولى
وفي رواية أخرى والله تعالى لا مضاد له فهو على عرشه كما أخبر
ثالثها أن الكلام تم عند قوله {الرحمن على العرش} ثم ابتدأ بقوله {استوى له ما في السماوات وما في الأرض} ورد بأنه يزيل الأية عن نظمها ومرادها
رابعها أن الوقف على على والعرش مستأنف
قيل وهذا مما لا ينبغي أن يحكى لاستحالته وبعده عما نقله أهل التواتر من جر العرش وهو قد رفعه ولم يرفعه أحد من القراء وقد جعل على فعلا وهي هنا حرف باتفاق وأيضا فلو كانت فعلا لكتبت بالألف
وذكر البيهقي بإسناده عن ابن الأعرابي صاحب النحو

قال قال لي أحمد بن أبي داود يا أبا عبد الله يصح هذا في اللغة قال قلت يجوز على معنى ولا يجوز على معنى إذا قلت الرحمن علا من العلو فقد تم الكلام ثم قلت العرش استوى يجوز إن رفعت العرش لأنه فاعل ولكن إذا قلت {له ما في السماوات وما في الأرض} فهو العرش فهذا كفر
خامسها أنه بمعنى صعد قاله أبو عبيد
ورد بأنه تعالى منزه عن الصعود
نعم الإستواء في اللغة يطلق على العلو والإستقرار نحو استوى على ظهر دابته وعلى الصعود نحو استوى على السطح وعلى القصد نحو {ثم استوى إلى السماء} فصلت 11 وعلى الإستيلاء نحو استوى على العراق أي استولى وظهر وعلى الإعتدال نحو استوى الشيء أي اعتدل وعلى الإنتهاء نحو استوى الرجل أي انتهى شأنه
وقال بعض المحققين من متكلمي الحنابلة الإستواء يقع على وجهين ما يتم معناه بنفسه وما يتم بحرف الجر
فالأول كقوله استوى النبات واستوى الطعام والمراد به تم وكمل ومنه قوله تعالى {ولما بلغ أشده واستوى}

القصص 14 أي تم وكمل
والثاني يختلف معناه باختلاف الحروف الجارة كقوله {ثم استوى إلى السماء} وقوله {الرحمن على العرش استوى} واستوى الأمر برأي الأمير واستوت لفلان الحال واستوى الماء مع الخشبة
سادسها أن معنى استوى أقبل على خلق العرش وعمد إلى خلقه كقوله {ثم استوى إلى السماء} أي قصد وعمد إلى خلقها قاله الفراء والأشعري وجماعة من أهل المعاني وقال إسماعيل الضرير إنه الصواب
قال السيوطي ويبعده تعديته ب على ولو كان كما ذكروه لتعدى ب إلى كما في قوله {ثم استوى إلى السماء} انتهى
قلت وأيضا فالعرش مخلوق قبل السموات والأرض كما وردت به النصوص وثم للترتيب فكيف عمد إلى خلقه بعدهما قال سبحانه {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} الأعراف 54
سابعها أنه يحمل على القصد إلى خلق شيء في العرش كما صار إليه الثوري
قلت هو قريب لكن يرده تعديه ب على كما تقدم
ثامنها أن الإستواء بمعنى العلو بالعضمة والعزة وأن صفاته

تعالى أرفع من صفات العرش على جلالة قدره
تاسعها أنه بمعنى قدر على العرش وهو قول القدرية والفرق بينه وبين قهر العرش وغلبه كما مر أن ذاك يحصل منه صفة فعل وهو القهر وهذا يحصل منه صفة ذات وهي القدرة
عاشرها قال ابن اللبان الإستواء المنسوب إليه تعالى بمعنى اعتدل أي قام بالعدل كقوله {قائما بالقسط} آل عمران 18 فقيامه بالقسط والعدل هو استواؤه ويرجع معناه إلى أنه أعطى بعزته كل شيء خلقه موزونا بحكمته البالغة
قلت ويرده أنه تعدى ب على ف يجيء ما قاله كما مر قريبا
الحادي عشر أن المراد بالعرش جملة المملكة
قال القرطبي وهذا غير صحيح لقوله تعالى {وترى الملائكة حافين من حول العرش} الزمر 75 وما كان حوله فهو خارج عنه والملائكة ليست خارجة عن جملة المملكة
الثاني عشر أن المراد بالإستواء هو انفراده بالتدبير فإنه قد استوى له جميع ما خلقه لعدم ما يشاركه فيه

قال القرطبي وهذا غير صحيح لأنه يقال انفرد بكذا ولا يقال على كذا ثم هو يؤدي إلى أنه لم يكن منفردا بالتدبير حتى خلق العرش
قال وهذا فساده يغني عن جوابه
الثالث عشر أن استوى بمعنى استوى عنده الخلائق القريب والبعيد فصاروا عند سواء نقله الكلبي عن ابن عباس
قال القرطبي وفيه ركاكة ومثله لا يليق بقول ابن عباس وإذا كان الاستواء بمعنى استوى الخلائق فأي شيء المعنى في قوله {استوى على العرش}
وقال هو وغيره الكلبي كذاب لا يحتج بشيء من روايته
الرابع عشر أن الإستواء بمعنى العلو بالغنى عن العرش
قال القرطبي وهذا فاسد لأن العرب تقول استغنى عن الشيء ولا تقول استغنى على الشيء ولأنه لو كان معنى الإستغناء لأدى إلى أن يكون إنما استغنى بعد خلق العرش
وأيضا فليس لتخصيص العرش بالذكر فائدة
الخامس عشر أن الإستواء صفة فعل بمعنى أنه تعالى فعل في العرش فعلا سمى به نفسه مستويا
وقال بهذا طائفة منهم الجنيد والشبلي
السادس عشر أن استوى بمعنى تجلى فالإستواء بمعنى التجلي

وقال بهذا كثير من مشايخ الصوفية وقالوا قد ثبت له سبحانه صفة التجلي بقوله سبحانه {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا} الأعراف 143 ومعنى التجلي هو رفع الحجاب عن العرش الذي كان محجوبا به ولم يرتفع حجابة جملة إذ لو ارتفع جملة لتدكدك من هيبة الله تعالى جبل موسى عليه السلام
قلت وربما يرد هذا بأن الإستواء ذكر في سبع مواضع من القرآن فلو كان المراد به التجلي لعبر عنه في بعضها بالتجلي كما في قوله {فلما تجلى ربه للجبل}
السابع عشر قول الشيخ أبي الحسن الأشعري حيث قال أثبته مستويا على عرشه وأنفي كل استواء يوجب حدوثه
قال القرطبي فجعل الإستواء في هذا القول من مشكل القرآن الذي لا يعلم تأويله انتهى
وقد كانت طائفة من الأشعرية يثبتون لفظه ويمتنعون من تأويله
الثامن عشر قول الطبري وابن أبي زيد والقاضي عبد الوهاب وجماعة من شيوخ الحديث والفقه وابن عبد البر والقاضي أبي بكر ابن العربي وابن فورك أنه سبحانه مستو على العرش بذاته وأطلقوا في بعض الأماكن فوق عرشه
قال القاضي أبوبكر وهو الصحيح الذي أقول به من غير تحديد ولا تمكين في مكان ولا مماسة

قال ابن تيمية على الوجه الذي يستحقه سبحانه من الصفات اللائقة به
قال فإن قال قائل لو كان الله فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويا وذلك كله محال ونحو ذلك من الكلام فهذا لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت للأجسام وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم
أما استواء يليق بجلال الله ويختص به فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها كما يلزم سائر الأجسام
وصار هذا مثل قول القائل إذا كان للعالم صانع فإما أن يكون جوهرا أو عرضا وكلاهما محال إذ لا يعقل موجود إلا كذلك وقوله إذا كان مستويا على العرش فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير والفلك إذ لا يعلم استواء إلا هكذا لأن هذا القائل لم يفهم إلا إثبات استواء هو من خصائص المخلوقين
قال والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط من أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله فكما أنه موصوف بالعلم والبصر والقدرة ولا يثبت لذلك خصائص الأعراض التي للمخلوقين فكذلك سبحانه هو فوق عرشه لا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق تعالى الله عن ذلك انتهى

وقال القرطبي أظهر الأقوال وإن كنت لا أقول به ولا أختاره ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء الأخيار أن الله سبحانه على عرشه كما أخبر في كتابه بلا كيف بائن من جميع خلقه هذا جملة مذهب السلف الصالح انتهى
والعجب من القرطبي حيث يقول وإن كنت لا أقول به ولا أختاره ولعله خشي من تحريف الحسدة فدفع وهمهم بذلك
وبهذا قال جماعة من الحنابلة لكن قالوا استوى على الوجه الذي يستحقه لذاته مما لا يشاركه فيه المحدث ولا يشابهه ولا يماثله ولا يدل على إثبات كمية ولا صفة كيفية بل على الوجه الذي يستحقه الله لنفسه
قالوا وإلى هذا الإشارة في حديث أم سلمة رضي الله عنها الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عند بدعة والبحث عنه كفر ورضي الله تعالى عن مالك بن أنس حيث قال أوكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء وكل من هؤلاء مخصوم بمثل ما خصم به الآخر فلم يبق إلا الرجوع لما قاله الله ورسوله والتسليم لهما
تنبيه
قال الكمال بن الهمام الحنفي بعد أن تكلم على

الإستواء ما حاصله وجوب الإيمان بأنه استوى على العرش مع نفي التشبيه وأما كون الإستواء بمعنى الإستيلاء على العرش مع نفي التشبيه فأمر جائز الإرادة إذ لا دليل على إرادته عينا فالواجب عينا ما ذكرنا لكن قال إذا خيف على العامة عدم فهم الإستواء إلا بالإتصال ونحوه من لوازم الجسمية فلا بأس بصرف فهمهم إلى الإستيلاء
قال وعلى نحو ما ذكر كل ما ورد مما ظاهره الجسمية في الشاهد كالإصبع واليد والقدم فإن الإصبع واليد صفة له تعالى لا بمعنى الجارحة بل على وجه يليق به وهو سبحانه أعلم به
وقد تؤول اليد والإصبع بالقدرة والقهر وقد يؤول اليمين في قوله الحجر الأسود يمين الله في الأرض على التشريف والإكرام لما ذكرنا من صرف فهم العامة عن الجسمية

قال وهو ممكن أن يراد ولا يجزم بإرادته على قول أصحابنا أنه من المتشابه وحكم المتشابه انقطاع معرفة المراد منه في هذه الدار وإلا لكان قد علم انتهى كلام ابن الهمام.اهـ

الكتاب: أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات
المؤلف: مرعي بن يوسف بن أبى بكر بن أحمد الكرمى المقدسي الحنبلى (المتوفى: 1033هـ)
المحقق: شعيب الأرناؤوط
الناشر: مؤسسة الرسالة – بيروت
الطبعة: الأولى، 1406

=====================================

وقال ابن الملقن في التوضيح لشرح الجامع الصحيح (33/ 289)
(ارتفع)، (علا). (استقر).
فأما قول من جعل الاستواء بمعنى: القهر والاستيلاء، فقول فاسد كما قررناه؛ لأن الله تعالى لم يزل قاهرا غالبا مستوليا، وقوله تعالى: {على العرش استوى} يقتضي استفتاح هذا الوصف واستحقاقه بعد أن لم يكن، كما أن المذكور في البيت إنما حصل له هذا الوصف بعد أن لم يكن، وتشبيههم أحد الاستوائين بالآخر غير صحيح، ومؤد إلى أن الله تعالى كان مغالبا في ملكه، وهذا منتف عن الله تعالى؛ لأن الله تعالى هو الغالب لجميع خلقه.
وأما من قال: تأويله: استقر، ففاسدة لأن الاستقرار من صفات الأجسام، وأما تأويل ارتفع فقدل مرغوب عنه لما في ظاهره من إيهام الانتقال من سفل إلى علو وذلك لا يليق بالله. وأما تأويل علا فهو صحيح، وهو مذهب أهل السنة والحق، كما قاله ابن بطال (2).

ثم قال: فإن قلت ما في ارتفع مثله يلزم في علا (3)، قيل: الفرق بينهما أن الله تعالى وصف نفسه بالعلو بقوله: {سبحانه وتعالى} [الروم: 40] فوصف نفسه بالتعالي، والتعالي من صفات الذات، ولم يصف نفسه بالارتقاع، وقال بعضهم: الاستواء ينصرف في كلام العرب على ثلاثة أوجه:
فالوجه الأول: قوله تعالى في ركوب الأنعام: {لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم} [الزخرف: 13] فهذا الاستواء بمعنى الحلول،

وهو منتف عن الله -عز وجل-؛ لأن الحلول يدل على التحديد والتناهي، فبطل أن يكون حالا على العرش بهذا الوجه.
والوجه الثاني: الاستواء بمعنى: الملك للشيء والقدرة عليه كما قال بعض الأعراب، وسئل عن الاستواء فقال: خضع له ما في السماوات وما في الأرض، ودان له كل شيء وذل، كما نقول للملك إذا دانت له البلاد بالطاعة (قد) (1) استوت له البلاد.

والثالث: الاستواء بمعنى: التمام للشيء والفراغ منه كقوله {ولما بلغ أشده واستوى} (3) [القصص: 14] , فإن الاستواء هنا التمام كقوله -عز وجل-: {على العرش استوى} [طه: 5] أراد التمام للخلق كله، وإنما قصد بذكر العرش؛ لأنه أعظم الأشياء، ولا يدل قوله تعالى: {وكان عرشه على الماء} [هود: 7] أنه حال عليه، وإنما أخبر عن العرش خاصة أنه على الماء ولم يخبر عن نفسه أنه جعله للحلول؛ لأن هذا كان يكون حاجة منه إليه، وإنما جعله لتتعبد به ملائكته فقال تعالى: {الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به} [غافر: 7] الآية، وكذلك تعبد الخلق بحج بيته الحرام، ولم يسمه بيته بمعنى (أنه) (4) يسكنه، وإنما سماه بيته؛ لأنه الخالق له والمالك، وكذلك العرش سماه عرشه؛ لأنه مالكه، والله تعالى ليس لأوليته حد ولا منتهى، وقد كان في أوليته (5) وحده ولا عرش معه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

====================

وقال العيني في عمدة القاري شرح صحيح البخاري (25/ 167)
وقد اختلف العلماء في معنى الاستواء فقالت المعتزلة: بمعنى الاستيلاء والقهر والغلبة كما في قول الشاعر:
(قد استوى بشر على العراق … من غير سيف ودم مهراق)

بمعنى: قهر وغلب، وأنكر عليهم بأنه لا يقال: استولى، إلا إذا لم يكن مستوليا ثم استولى، والله عز وجل لم يزل مستوليا قاهرا غالبا، وقال أبو العالية: معنى استوى ارتفع، وفيه نظر لأنه لم يصف به نفسه، وقالت المجسمة: معناه استقر وهو فاسد لأن الاستقرار من صفات الأجسام ويلزم منه الحلول والتناهي وهو محال في حق الله تعالى. واختلف أهل السنة فقال بعضهم: معناه ارتفع مثل قول أبي العالية، وبه قال أبو عبيدة والفراء وغيرهما، وقال بعضهم: معناه ملك وقدر، وقال بعضهم: معناه علا، وقيل: معنى الاستواء التمام والفراغ من فعل الشيء ومنه. قوله تعالى: {ولما بلغ أشده واستوئاتيناه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين} فعلى هذا فمعنى استوى على العرش أتم الخلق وخص لفظ العرش لكونه أعظم الأشياء. وقيل: إن: على، في قوله: {على العرش} بمعنى: إلى، فالمراد على هذا: انتهى إلى العرش، أي: فيما يتعلق بالعرش لأنه خلق الخلق شيئا بعد شيء، والصحيح تفسير استوى بمعنى: علا، كما قاله مجاهد، على ما يأتي الآن، وهو المذهب الحق. وقول معظم أهل السنة: لأن الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالعلي. واختلف أهل السنة: هل الاستواء صفة ذات أو صفة فعل؟ فمن قال: معناه علا، قال: هي صفة ذات، ومن قال غير ذلك قال: هي صفة فعل.

=============================
شرح القسطلاني = إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (10/ 391):

(وقال مجاهد) المفسر في قوله تعالى: ({استوى}) {على العرش} [الأعراف: 54] أي (علا على العرش) وهذا وصله الفريابي عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه. قال ابن بطال: وهذا صحيح وهو المذهب الحق، وقول أهل السنة لأن الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالعلي، وقال سبحانه وتعالى: {عما يشركون} وهي صفة من صفات الذات. قال في المصابيح: وما قاله مجاهد من أنه بمعنى علا ارتضاه غير واحد من أئمة أهل السنة ودفعوا اعتراض من قال علا بمعنى ارتفع من غير فرق، وقد أبطلتموه لما في ظاهره من الانتقال من سفل إلى علو وهو محال على الله فليكن علا كذلك، ووجه الدفع أن الله تعالى وصف نفسه بالعلو ولم يصف نفسه بالارتفاع. وقال المعتزلة: معناه الاستيلاء بالقهر والغلبة ورد بأنه تعالى لم يزل قاهرا غالبا مستوليا. وقوله: ثم استوى يقتضي افتتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن ولازم تأويلهم أنه كان مغالبا فيه فاستولى عليه بقهر من غالبه وهذا منتف عن الله. وقالت المجسمة: معناه الاستقرار ودفع بأن الاستقرار من صفات الأجسام ويلزم منه الحلول وهو محال في حقه تعالى.

=======================

وقال ابن حزم في «الفصل في الملل والأهواء والنحل» (2/ 96):

قال أبو محمد ذهبت المعتزلة إلى أن الله سبحانه وتعالى في كل مكان واحتجوا بقول الله تعالى {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} وقوله تعالى {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} وقوله تعالى {ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون}

قال أبو محمد قول الله تعالى يجب حمله على ظاهره ما لم يمنع من حمله على ظاهره نص آخر أو إجماع أو ضرورة حس وقد علمنا أن كل ما كان في مكان فإنه شاغل لذلك المكان ومالي له ومتشكل بشكل المكان والمكان متشكل بشكله ولا بد من أحد الأمرين ضرورة وعلمنا أن ما كان في مكان فإنه متناه بتناهي مكانه وهو ذو جهات ست أو خمس متناهية في مكانه وهذه كلها صفات الجسم فلما صح ما ذكرنا علمنا أن قوله تعالى {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} {ونحن أقرب إليه منكم} وقوله تعالى {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} إنما هو التدبير لذلك والإحاطة به فقط ضرورة لانتفاء ما عدا ذلك وأيضا فإن قولهم في كل مكان خطأ لأنه يلزم بموجب هذا القول أنه يملأ الأماكن كلها وأن يكون ما في الأماكن فيه الله تعالى الله عن ذلك وهذا محال فإن قالوا هو فيها بخلاف كون المتمكن في المكان قيل لهم هذا لا يعقل ولا يقوم عليه دليل وقد قلنا أنه لا يجوز إطلاق اسم على غير موضوعه في اللغة إلا أن يأتي به نص فيقف عنده وندري حينئذ أنه منقول إلى ذلك المعنى الآخر وإلا فلا فإذ قد صح ما قد ذكرنا فلا يجوز أن يطلق القول بأن الله تعالى في كل مكان لا على تأويل ولا غيره لأنه حكم بأنه تعالى في الأمكنة لكن يطلق القول بأنه تعالى معنا في كل مكان ويكون قولنا حينئذ في كل مكان إنما هو من صلة الضمير الذي هو النون والألف اللذان في معنا لا مما يخبر به عن الله تعالى وهذا هو معنى قوله {هو معهم أين ما كانوا} وهو معكم أينما كنتم وذهب قوم إلى أن الله تعالى في مكان دون مكان وقولهم هذا يفسد بما ذكرنا آنفا ولا فرق واحتج هؤلاء بقوله تعالى {الرحمن على العرش استوى}
قال أبو محمد وقد تأول المسلمون في هذه الآية تأويلات أربعة أحدها قول المجسمة وقد أبنا بحول الله فساده والآخر قالته المعتزلة وهو أن معناه استولى وأنشدوا قد استوى بشر على العراق قال أبو محمد وهذا فاسد لأنه لو كان ذلك لما كان العرش أولى بالاستيلاء عليه من سائر المخلوقات ولجاز لنا أن نقول الرحمن على الأرض استوى لأنه تعالى مستول عليها وعلى كل ما خلق وهذا لا يقوله أحد فصار هذا القول دعوى مجردة بلا دليل فسقط وقال بعض أصحاب بن كلاب أن الاستواء صفة ذات ومعناه نفي الاعوجاج قال أبو محمد وهذا القول في غاية الفساد لوجوه أحدها أنه تعالى لم يسم نفسه مستويا ولا يحل لأحد أن يسم الله تعالى بما لم يسم به نفسه لأن من فعل ذلك فقد ألحد في أسمائه حدود الله أي مال عن الحق وقد حد الله تعالى في تسميته حدودا فقال تعالى {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} وثانيها أن الأمة مجمعة على أنه لا يدعو أحد فيقول يا مستوي ارحمني ولا يسمي ابنه عبد المستوي وثالثها أنه ليس كل ما نفي عن الله عز وجل وجب أن يوقع عليه ضده لأننا ننفي عن الله تعالى السكون ولا يحل أن يسمى الله متحركا وننفي عنه الحركة ولا يجوز أن يسمى ساكنا وننفي عنه الجسم ولا يجوز أن يسمى ساكنا ونفي عنه النوم ولا يجوز أن يسمى يقظانا ولا منتبها ولا أن يسمى لنفي الانحناء عنه مستقيما وكذلك كل صفة لم يأت بها النص فكذلك الاستواء والاعوجاج منفيان عنه معا سبحانه وتعالى وتعالى الله عن ذلك لأن كل ذلك من صفات الأجسام ومن جملة الإعراض والله قد تعالى عن الأعراض ورابعها أنه يلزم من قال بهذا القول الفاسد أن يكون العرش لم يزل تعالى الله عن ذلك لأنه تعالى علق الاستواء بالعرش فلو كان الاستواء لم يزل لكان العرش لم يزل وهذا كفر وخامسها أنه لو كان الاستواء ههنا نفي الاعوجاج لم يكن لإضافة ذلك إلى العرش معنى ولكان كلاما فاسدا لاوجه له فإن اعترضوا فقالوا إنكم تسمونه سميعا بصيرا وأنه لم يزل كذلك فيلزمكم على هذا أن المسموعات والمبصرات لم تزل قلنا لهم وبالله تعالى نتأيد هذا لا يلزمنا لأننا لا نسمي الله عز وجل إلا بما سمى به نفسه فنقول قال الله تعالى السميع البصير فقلنا بذلك أنه لم يزل وهو السميع البصير بذاته كما هو ولا نقول لا يسمع ولا يبصر فنزيد على ما أتى به النص شيئا ونحن نقول أنه تعالى لم يزل سمعيا للمسموعات بصيرا بالمبصرات يرى المرئيات ويسمع المسموعات ومعنى هذا كله أنه عالم بكل ذلك كما قال الله تعالى إنني معكما أسمع وأرى.

================

«الأسماء والصفات للبيهقي» (2/ 308):
أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، قال: هذه نسخة الكتاب الذي أملاه الشيخ أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب في مذهب أهل السنة فيما جرى بين محمد بن إسحاق بن خزيمة وبين أصحابه، فذكرها وذكر فيها: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] بلا كيف، والآثار عن السلف في مثل هذا كثيرة” وعلى هذه الطريق يدل مذهب الشافعي رضي الله عنه، وإليها ذهب أحمد بن حنبل والحسين بن الفضل البجلي. ومن المتأخرين أبو سليمان الخطابي. وذهب أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري إلى أن الله تعالى جل ثناؤه فعل في العرش فعلا سماه استواء، كما فعل في غيره فعلا سماه رزقا أو نعمة أو غيرهما من أفعاله. ثم لم يكيف الاستواء إلا أنه جعله من صفات الفعل لقوله: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] وثم للتراخي، والتراخي إنما يكون في الأفعال، وأفعال الله تعالى توجد بلا مباشرة منه إياها ولا حركة. وذهب أبو الحسن علي بن محمد بن مهدي الطبري في آخرين من أهل النظر إلى أن الله تعالى في السماء فوق كل شيء مستو على عرشه بمعنى أنه عال عليه، ومعنى الاستواء: الاعتلاء، كما يقول: استويت على ظهر الدابة، واستويت على السطح. بمعنى علوته، واستوت الشمس على رأسي، واستوى الطير على قمة رأسي، بمعنى علا في الجو، فوجد فوق رأسي. والقديم سبحانه عال على عرشه لا قاعد ولا قائم ولا مماس ولا مباين عن العرش، يريد به: مباينة الذات التي هي بمعنى الاعتزال أو التباعد، لأن المماسة والمباينة التي هي ضدها، والقيام والقعود من أوصاف الأجسام، والله عز وجل أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فلا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام تبارك وتعالى.

وحكى الأستاذ أبو بكر بن فورك هذه الطريقة عن بعض أصحابنا أنه قال: استوى بمعنى: علا، ثم قال: ولا يريد بذلك علوا بالمسافة والتحيز والكون في مكان متمكنا فيه، ولكن يريد معنى قول الله عز وجل: {أأمنتم من في السماء} [الملك: 16] أي: من فوقها على معنى نفي الحد عنه، وأنه ليس مما يحويه طبق أو يحيط به قطر، ووصف الله سبحانه وتعالى بذلك بطريقة الخبر، فلا نتعدى ما ورد به الخبر. قلت: وهو على هذه الطريقة من صفات الذات، وكلمة ثم تعلقت بالمستوى عليه، لا بالاستواء، وهو كقوله: {ثم الله شهيد على ما يفعلون} [يونس: 46] يعني: ثم يكون عملهم فيشهده، وقد أشار أبو الحسن علي بن إسماعيل إلى هذه الطريقة حكاية، فقال: وقال بعض أصحابنا: إنه صفة ذات، ولا يقال: لم يزل مستويا على عرشه، كما أن العلم بأن الأشياء قد حدثت من صفات الذات، ولا يقال: لم يزل عالما بأن قد حدثت، ولما حدثت بعد، قال: وجوابي هو الأول وهو أن الله مستو على عرشه وأنه فوق الأشياء بائن منها، بمعنى أنها لا تحله ولا يحلها، ولا يمسها ولا يشبهها، وليست البينونة بالعزلة تعالى الله ربنا عن الحلول والمماسة علوا كبيرا. قال: وقد قال بعض أصحابنا: إن الاستواء صفة الله تعالى تنفي الاعوجاج عنه، وفيما كتب إلي الأستاذ أبو منصور بن أبي أيوب أن كثيرا من متأخري أصحابنا ذهبوا إلى أن الاستواء هو القهر والغلبة، ومعناه أن الرحمن غلب العرش وقهره، وفائدته الإخبار عن قهره مملوكاته، وأنها لم تقهره، وإنما خص العرش بالذكر لأنه أعظم المملوكات، فنبه بالأعلى على الأدنى، قال: والاستواء بمعنى القهر والغلبة شائع في اللغة، كما يقال: استوى فلان على الناحية إذا غلب أهلها، وقال الشاعر في بشر بن مروان:
[البحر الرجز]
قد استوى بشر على العراق … من غير سيف ودم مهراق

يريد: أنه غلب أهله من غير محاربة. قال: وليس ذلك في الآية بمعنى الاستيلاء، لأن الاستيلاء غلبة مع توقع ضعف، قال: ومما يؤيد ما قلناه قوله عز وجل: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} [فصلت: 11] والاستواء إلى السماء هو القصد إلى خلق السماء، فلما جاز أن يكون القصد إلى السماء استواء جاز أن تكون القدرة على العرش استواء.

===================
«تفسير السمعاني» (2/ 188):
{ثم استوى على العرش} أول المعتزلة الاستواء بالاستيلاء، وأنشدوا فيه:
(قد استوى بشر على العراق … من غير سيف ودم مهراق)
(وأما أهل السنة فيتبرءون من هذا التأويل، ويقولون: إن الاستواء على العرش صفة لله – تعالى – بلا كيف، والإيمان به واجب، كذلك يحكى عن مالك بن أنس، وغيره من السلف، أنهم قالوا في هذه الآية: الإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.

============================
وقال قوام السنة الأصفهاني في «الحجة في بيان المحجة» (2/ 112):
قال بعض علماء أهل السنة: إن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه.
وقالت المعتزلة: هو بذاته في كل مكان. وقالت الأشعرية: الاستواء عائد إلى العرش.
قال: ولو كان كما قالوا: لكانت القراءة برفع العرش، فلما كانت بخفض العرش دل على أنه عائد إلى الله تعالى.
وقال بعضهم: استوى بمعنى استولى قال الشاعر:
ومما يسأل عنه أن يقال: ففي أي شيء يقع المتشابه؟
قيل: في أمور الدين، كالتوحيد ونفي التشبيه، الآ ترى أن قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] يحتمل في اللغة أن يكون كاستواء الجالس على سريره، ويحتمل أن يكون بمعنى القهر والاستيلاء، كما قال الشاعر: قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
واستواء الجالس لا يجوز على الله – عز وجل – ونحو قوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق} [القلم: 42]، يحتمل في اللغة أن يكون ساق الإنسان وساق الشجرة، والشدة من قولهم: قامت الحرب على ساق. والوجهان الأولان لا يجوزان على الله في أشباه لذلك.
(استوى بشر على العراق … من غير سيف ودم مهراق)

والاستيلاء لا يوصف إلا من قدر على الشيء بعد العجز عنه، والله تعالى لم يزل قادرا على الأشياء ومستوليا عليها. ألا ترى أنه لا يوصف بشر بالاستيلاء على العراق إلا وهو عاجز عنه قبل ذلك.
قيل لذي النون المصري: ما أراد الله بخلق العرش؟ قال: أراد أن لا يتوه قلوب العارفين.

================================
وقال العمراني في «الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار» (2/ 619):
وتأولت المعتزلة ومن تابعهم فول الله سبحانه: {الرحمن على العرش استوى} على أن الاستواء هو الاستيلاء والقهر بقول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق … من غير سيف ولا دم مهراق1
والجواب: أنه لا يقال هذا إلا لمن كان عاجزا عن قهر شيء ثم قهره
واستولى عليه والله سبحانه قاهر ومستول على كل شيء.
وروي أن رجلا سأل ابن الأعرابي1 ما معناه قوله: {الرحمن على العرش استوى} فقال: “هو على عرشه كما أخبر، فقال: يا أبا عبد الله ليس هذا معناه2 استولى؟ فقال: اسكت ما أنت وهذا3 ولا يقال استولى على الشيء أو يكون له فيه مضاد فإذا غلب أحدهما على الآخر قيل استولى أما سمعت قول النابغة:
إلا لمثلك أو من أنت سابقه سبق الجواد إذا استولى على الأمد4
ولو كان ما ذكره صحيحا لجاز أن يقال: إن الله مستو على الحشوش والأمكنة التي يرغب عن ذكرها لأنه مستول عليها، ولو كان كذلك لم يكن لذكره للعرش معنى.
وأما الأشعرية فقالوا: إذا قلتم إنه على العرش أفضى إلى أنه يكون محدودا أو أنه يفتقر إلى مكان وجهة تحيط به وتعالى الله عن ذلك5.
والجواب: أنا وإن قلنا إنه على العرش كما أخبر بكتابه وأخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم فلا نقول إنه محدود، ولا إنه يفتقر إلى مكان، ولا تحيط به جهة ولا مكان، بل كان ولا مكان ولا زمان ثم خلق المكان والزمان، واستوى على العرش.

============================
وقال ابن الجوزي في «زاد المسير في علم التفسير» (2/ 128):

وقال كعب: إن السماوات في العرش كالقنديل معلق بين السماء والأرض. وروى إسماعيل بن أبي خالد عن سعد الطائي قال: العرش ياقوتة حمراء. وإجماع السلف منعقد على أن لا يزيدوا على قراءة الآية. وقد شذ قوم فقالوا: العرش بمعنى الملك. وهذا عدول عن الحقيقة الى التجوز، مع مخالفة الأثر ألم يسمعوا قوله عز وجل: وكان عرشه على الماء أتراه كان الملك على الماء؟
وكيف يكون الملك ياقوتة حمراء؟ وبعضهم يقول: استوى بمعنى استولى «1»، ويحتج بقول الشاعر:
حتى استوى بشر على العراق … من غير سيف ودم مهراق
وبقول الشاعر أيضا:
هما استويا بفضلهما جميعا … على عرش الملوك بغير زور
وهذا منكر عند اللغويين. قال ابن الاعرابي: العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى، ومن قال ذلك فقد أعظم. قالوا: وإنما يقال: استولى فلان على كذا، إذا كان بعيدا عنه غير متمكن منه، ثم تمكن منه والله عز وجل لم يزل مستوليا على الأشياء والبيتان لا يعرف قائلهما، كذا قال ابن فارس اللغوي. ولو صحا، فلا حجة فيهما لما بينا من استيلاء من لم يكن مستوليا. نعوذ بالله من تعطيل الملحدة وتشبيه المجسمة.

=============================
وقال الألباني في «سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة» (11/ 506):

  • مع بطلانه في نفسه عندنا – ما داموا هم أنفسهم لا يأخذون به إلا مع تأويله أيضاً؟!، ذلك لأنهم قد أورد عليهم أهل السنة حقاً أن تأويل الاستواء بالاستيلاء؛ معناه: أنه لم يكن مستولياً عليه من قبل، لا سيما بملاحظة الآية التي فيها: (ثم استوى على العرش)؛ فإن (ثم) تفيد التراخي كما هو معلوم، وهذا التأويل مما لا يقول به مسلم؛ لأنه صريح في أن الله لم يكن مستولياً عليه سابقاً؛ بل كان مغلوباً على أمره، ثم استولى عليه! لا سيما وهم يستشهدون بذاك الشعر:
    قد استوى بشر على العراق * * * بغير سيف ولا دم مهراق!
    تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً!

فلما أورد هذا عليهم؛ انفكوا عنه؛ فقال بعض متأخريهم – كما نقله هذا الأزهري (ص 25) -:
“ولكن لا يخفى عليك الفرق بين استيلاء المخلوق واستيلاء الخالق”!
وقال الكوثري في تعليقه على “الأسماء” (ص 406،410):
“ومن حمله على معنى الاستيلاء؛ حمله عليه بتجريده من معنى المغالبة“!
فأقول: إذا جردتم “الاستيلاء” من معنى المغالبة؛ فقد أبطلتم تأويلكم من أصله؛ لأن الاستيلاء يلازمه المغالبة عادة كما تدل عليه البيت المشار إليه، فإذا كان لا بد من التجريد تمسكاً بالتنزيه؛ فهلا قلتم كما قال السلف: “استوى: استعلى”؛ ثم جردتم الاستعلاء من كل ما لا يليق بالله تعالى؛ كالمكان، والاستقرار، ونحو ذلك، لا سيما وذلك غير لازم من الاستعلاء حتى في المخلوق.اهـ

============================
وقال القرطبي في «الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام» (ص132):
وأما من لبس منهم بأن مثل قولهم في الإتحاد بقولنا في إستوائه تعالى على العرش فذلك مما لا يقال عليه عندنا اتحاد ولا حلول ولا فيض ولا انطباع لأنا نريد بقولنا هو على العرش مستو واستوى على العرش أن العرش تحت قبضته ومسخر بقدرته والإستواء عليه إنما هو بمعنى الإستيلاء على ما يعرفه العرب من كلامها فإنها تقول … قد استوى بشر على العراق
بغير سيف ودم مهراق …

فإن أرادوا هذا المعنى فهو حق وصحيح لكنه لا يصح في حق عيسى وحده فإن الله تعالى مستول على عيسى وعلى غيره وأما من أطلق منهم لفظ النزوع فيستحيل على الحقيقة والتوسع وذلك أن هذا اللفظ يشعر بأن اللاهوت اتخذ الناسوت درعا أو كالدرع وهذا كله مستحيل على الإله تبارك وتعالى وعلى علمه وكل ما تقدم من المحالات على هذا المذهب يلزم

وعلى الجملة فهؤلاء القوم أغبياء جاهلون وعن التوفيق معزولون فهم عن المعقولات معرضون وبها مستهزءون لا يستحيون من خالقهم ولا يتأدبون مع مالكهم ورازقهم فسبحان الله عما يقول الجاهلون وتعالى عما ينسبه إليه المبطلون بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد}
ولولا ضرورة الحال ورجاء قمع أهل الضلال لما استجزت حكاية مثل هذا المقال وأنا أستغفر الله ذا العظمة الجلال إنه ذو العفو والأفضال

الكتاب: الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإظهار محاسن الإسلام
المؤلف: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي شمس الدين القرطبي (المتوفى: 671هـ)
المحقق: د. أحمد حجازي السقا
الناشر: دار التراث العربي – القاهرة

السابق
بعض الوهابية كابن عثيمين والأثيوبي ومحققي مطالع الأنوار لابن قرقول يثبتون الرداء والإزار حقيقة لله ولكن شيخهم ابن تيمية يرد عليهم ويبين فساد فهمهم ويلقنهم درسا مع إصراره أنه لا مجاز في الحديث خلافا للرازي وأبي يعلى الفراء ولسائر الشراح.
التالي
نصوص مفسري السلف والخلف والمتقدمين والمتأخرين والمعاصرين في آية الاستواء: {استوى على العرش} [الأعراف:54]/ج1