أما أنه يخالف الأحاديث التي أجازت تخصيص بعض القربات بهيئة ما، فمنها ما رواه البخاري عن رفاعة بن رافع الزرقي قال : كنا يوما نصلي وراء النبي صلى الله عليه و سلم فلما رفع رأسه من الركعة قال ( سمع الله لمن حمده ). قال رجل وراءه ربنا ولك الحمد حمدا طيبا مباركا فيه. فلما انصرف قال ( من المتكلم ) . قال أنا قال ( رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول )([1])
فهذا الصحابي قد زاد في الاعتدال ذكرا لم يؤثر عن النبي وأقره النبي بأعلى درجات الإقرار والرضا، قال ابن حجر: واستدل به على جواز إحداث ذكر في الصلاة غير ماثور إذا كان غير مخالف للمأثور([2]).اهـ
ومنها عن انس رضي الله عنه كان رجل من الانصار يؤمهم في مسجد قباء وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح { قل هو الله أحد } . حتى يفرغ منه ثم يقرأ سورة أخرى معها وكان يصنع ذلك في كل ركعة فكلمه أصحابه ( وجرى بينهم جدال حول ما فعله إلى أن إلى أن سألوا رسول الله فقال له) : “ما يحملك على لزوم هذة السورة في كل ركعة. فقال إني أحبها فقال: “حبك إياها ادخلك الجنة”([3])
وجه الدلالة: أن هذا الصحابي قد التزم من عند نفسه قراءة الإخلاص في كل ركعة، ومع ذلك أقره الرسول بأن بشره بالجنة([4]). فأي فرق بين من خصص سورة الإخلاص في كل ركعة ومن خصص الفاتحة لتقرأ على روح الميت، فإن قلتم لأن قراءة الفاتحة على الميت لم يفعلها رسول الله ولا أمر بها، قلنا: وكذلك قراءة سورة الإخلاص لم يفعلها رسول الله في كل ركعة ولا أمر بها، فإن قلتم: ولكن رسول الله أقر من قرأها كل ركعة فخرجت بذلك عن أن يكون قراءتها بدعة. قلنا: هذا يبطل ادعاءكم لعموم حديث كل بدعة ضلالة، فالحديث إذن ليس عاما بدليل إقرار الرسول لمن أحدث هيئة ما في العبادة، فثبت أن الحديث خاص بإحدث شيء يخالف نصا أو إجماعا. ثم إن إقراره لتخصيص قراءة هذه السورة يستفاد منه جواز تخصيص سورة ما بقراءتها في الصلاة ونحو ذلك، وقراءة الفاتحة على الميت لا تخرج عن ذلك؛ ثم إن هذا الصحابي قد خصص قراءة الإخلاص في كل ركعة قبل أن يقره رسول الله، وهذا دليل على أن الصحابة لم يكن يرون بأسا بإحداث ما لم يفعله أو يحض عليه الرسول بعينه وليس هذا فحسب بل إن رسول أقرهم على ذلك كما في هذا الحديث، فكيف لم تفهموا من هذا الحديث إقرار النبي لفهم الصحابة بجواز الإحداث، وفهمت من حديث الضب أن رسول الله أقر خالدا على ما ادعيتم أنه كان يفهم من تركه التحريم مع أن النبي ألغى هذا الفهم وأبطله، وهنا ـ أي في حديث أنس ـ أقره وأيده.
ومنها ما رواه مالك في الموطأ عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى، والناس يسألونه، فجاءه رجل فقال له : يا رسول الله ، لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( انحر ولا حرج ) ، ثم جاءه آخر فقال : يا رسول الله، لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي . قال : ( ارم ولا حرج ) قال : فما سئل صلى الله عليه وسلم عن شيء قُدِّمَ ولا أُخِّرَ إلا قال : ( افعل ولا حرج )([5]).
فهذا تصريح من النبي أن ترتيبه في فعل النسك غير لازم، بدليل أنه أقر من قدم أو أخر بعض النسك يوم النحر على بعض ونفى الحرج على فاعله؛ قال النووي: أفعال يوم النحر أربعة رمى جمرة العقبة ثم الذبح ثم الحلق ثم طواف الافاضة وأن السنة ترتيبها هكذا فلو خالف وقدم بعضها على بعض جاز ولا فدية عليه لهذه الأحاديث([6]).
ومنها ما أخرجه مسلم عن عمر بن الخطاب مرفوعا: “من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل[7]. قال القاضي عياض: “حزبه” هو ما يجعله الإنسان على نفسه من صلاة أو قراءة[8].اهـ إذن فالنبي الذي قال “كل بدعة ضلالة” هو نفسه قال أيضا “من نام عن حزبه..” فدل على جواز أن يُخصص الإنسان لنفسه قدرا ووِردا من الذكر يقوله في جزء من الليل، ولم يلزمنا النبي بشيء محدد، بل وَكَل ذلك إلى كل شخص وما يناسب حاله ووقته، فالقول بحظر تحديد شيء من الأذكار أو الصلوات أو الأدعية هو قول مبتدع مخالف لهذا الحديث وأمثاله[9].
ومنها ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لبلال عند صلاة الفجر ( يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة ) . قال ما عملت عملا أرجى عندي أني لم أتطهر طهورا في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي([10]).
فهذا بلال قد خصص صلاة ركعتين بعد الوضوء ولم يفعلهما رسول الله ولا أمر بهما ولا سنهما، إذ لو كانتا مشرعتين لتسابق إليهما كل الصحابة ولم يكن لبلال مزية عليهم، فثبت أن بلال انفرد بفعل هاتين الركعتين واطلع عليه النبي فأقره بل بشره بدخوله الجنة ولم يعنفه ولم يقل له إنهما بدعة وأنت مبتدع كما لم يقل له ما يردده السلفية دائما: لو كانت هاتين الركعتين خيرا لفعلتهما أنا اهـ فهذا الحديث يبطل دعوى بدعية تخصيص عبادة بوقت أو مكان معين لم ينه عن الشارع. قال الحافظ ابن حجر معلقا على حديث بلال:ويستفاد منه جواز الاجتهاد في توقيت العبادة لأن بلالا توصل إلى ما ذكرنا بالاستنباط فصوبه النبي صلى الله عليه و سلم([11]).
لا يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم أقر بلال على الركعتين فصارا سنة بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم، لأننا نقول: إن النبي علم بعظم ثواب بلال على ركعتي الوضوء اللتين أحدثهما قبل أن يقره عليهما هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن النبي ما أقره على الركعتين فقط بل أقره على الركعتين وعلى تخصيص بلال للركعتين بعد الوضوء.
وأصرح مما سبق كله ما جاء في حادثة الرجيع وفيها أن المشركين لما أسروا خبيبا بن عدي ثم أخرجوه من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيب: “ذروني أركع ركعتين فتركوه فركع ركعتين…فكان خبيب هو سن الركعتين لكل امرئ مسلم قتل صبرا”([12]) فهذا تصريح بأن خبيب هو من سن الصلاة لمن يقتل صبرا وهذا اجتهاد منه، وإنما قلنا بأن هذا الخبر أصرح مما سبق، لأن تلك الأحاديث فيه شبهة إقرار النبي وإن كان هذا لا يؤثر في الاستدلال لما سبق، وأما هذا الخبر فليس فيه إقرار لخبيب على فعله إلا بعد موته، فثبت أن النبي أقر ما فعله خبيب باجتهاده المحض، والصلاة عبادة وقد خصصها خبيب فجعلها قبل القتل، فأصلها مشروع ولكن تخصيصها بزمان أو مكان فهذا موكول إلى المكلف، وهذا الخبر دليل قاطع على ذلك، فهل بعد هذه النصوص الصريحة الصحيحة يبقى للنزاع في جواز استحداث هيئات مخصوصة للقربات المطلقة؟!
([1]) صحيح البخاري، كتاب الأذان، أبواب صفة الصلاة، باب فضل اللهم ربنا لك الحمد، حديث:778.
([3]) أخرجه البخاري تعليقا بصيغة الجزم، ووصله الترمذي؛ انظر: صحيح البخاري – كتاب الأذان أبواب صفة الصلاة؛ سنن الترمذي الجامع الصحيح – الذبائح، أبواب فضائل القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم – باب ما جاء في سورة الإخلاص، حديث:2902. وما بين قوسين من زيادتي لاختصار القصة.
([4]) انظر بحث في مجلة الأحمدية الصادرة في دبي، العدد الرابع 1999م: الهيئات المستحدثة في العبادة ص195 و196، د. عبد السميع محمد الأنيس،
([5]) أخرجه الشيخان؛ انظر: صحيح البخاري – كتاب العلم، باب الفتيا وهو واقف على الدابة وغيرها – حديث:83؛ صحيح مسلم – كتاب الحج، باب من حلق قبل النحر – حديث:2376 .
([6]) شرح النووي على مسلم – (9 / 55)
([7]) انظر: صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض – حديث: 747 .
([8]) انظر: مشارق الأنوار للقاضي عياض (1 / 190).
([9]) وكم بدّع السلفيةُ عوامَ الناس وعلمائهم من أجل حزب يقرؤونه أو وِرد يلتزمون به! ومن العجائب أن بعض السلفية ـ وهو محمد الشنشوري ـ أورد حديث عمر السابق، ثم أقر بأنه يدل على جواز أن يكون للإنسان قدْر من الذكر والدعاء والصلاة وقراءة القرآن؛ ولكنه سرعان ما قال بعد ذلك: “أما التوسع بمدلول هذا الحديث إلى الأحزاب والأوراد التي شُغل المسلمون بها عن كتاب الله وأذكاره…فمن الابتداع الذي ما أنزل الله به من سلطان…..إلخ. فتأمل كيف نقض غزله، وضيق ما وسعه رسول الله!! انظر: فقه الذكر والدعاء ص73، تأليف محمد بن أحمد الدسوقي الشنشوري، دار الجيل ببيروت، ط1/ 1992م.
([10]) انظر: صحيح البخاري، كتاب الجمعة، أبواب تقصير الصلاة، باب فضل الطهور بالليل والنهار، حديث:1111. صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل بلال رضي الله عنه، حديث:4602.
([11]) فتح الباري – – (3 / 34)
([12]) أخرجه البخاري (2880)،كتاب الجهاد والسير، باب هل يستأسر الرجل ومن لم يستأسر ومن ركع ركعتين عند القتل.