قال الإمام فخر الدين الرازي في المطالب العالية:
بيان أن إثبات موجود ليس بجسم ولا حال في الجسم ليس بممتنع الوجود في بديهة العقل
****
إعلم . أن كثيرا من الناس، يَزعمون:
1 – أن كل موجودين. فلا بد وأن يكون أحدهما: ساريا في الآخر، أو مباينا عنه في جهة من الجهات الست.
2 – وزعموا: أن إثبات موجود لا يكون حالا في هذا العالم الجسماني، ولا مباينا عنه بحسب شيء من الجهات: ممتنع الوجود.
3 – ثم زعموا: أن العلم بهذا الامتناع: علم بديهي ضروري، غني عن الحجة والدليل.
وأما الجمهور الأعظم من العقلاء فإنهم اتفقوا:
على أن إثبات موجود ليس بمتحيز، ولا حال في المتحيز، وليس في العالم، ولا خارج العالم: ليس معلومَ الامتناع في بديهة العقل، بل الأمر في إثباته ونفيه موقوفٌ على الدليل. فإن دلَّ الدليلُ على إثباته وجب القضاءُ به، وإلا وجب التوقف في إثباته ونفيه.
وهذا القولُ هو الذي نذهبُ إليه ونقولُ به.
والذي يدل على أن الأمر كذلك وجوهٌ:
الحجة الأولى:
أن نقول: لو كانت هذه القضيةُ بديهيةً لامتنع وقوع الاختلاف فيها بين العقلاءِ، لكنَّ الاختلاف واقعٌ فيها، فوجبَ أن لا يكونَ بديهياً.
بيان الملازمة:
أن الجمعَ العظيمَ من العقلاءِ لا يجوزُ إطباقُهُم على إنكارِ الضرورياتِ. ونعني البديهيات.
وبيان أن هذا الاختلاف واقعٌ:
هو أن الفلاسفةَ اتفقوا على إثباتِ موجوداتٍ ليست بمتحيزةٍ، ولا حالةٍ في المتحيزِ مثلُ: العقولُ والنفوسُ والهيولي. واتفقوا على أن الشيء الذي يشيرُ إليه كلُّ إنسانٍ بقولِهِ: {أنا}. فهو موجودٌ، وليس بجسمٍ ولا بجسماني.
ولم يقل أحد من العقلاء:
إنهم في هذا القول منكرون للبديهيات، بل نقول: إن جمعا من أكابر المسلمين اختاروا هذا المذهبَ.
1 – مثل: معمر بن عباد السلمي من المعتزلة،
2 – ومثل أبي سهل النوبختي، ومحمد بن النعمان من الرافضة.
3 – ومثل أبي القاسم الراغب، وأبي حامد الغزالي من أهل السنة والجماعة.
4 – وايضا: فأكثر العقلاء من أرباب الملل والنحل المختلفة أطبقوا على تنزيه الله تعالى عن كونه متحيزا، وعن كونه حالا في المتحيز، وعن كونه داخل العالم، وخارجا عنه.
فيثبت بما ذكرنا:
أن هذه القضية لو كانت بديهية لامتنع الاختلاف فيها، ولما ثبت أنَّ الاختلاف واقعٌ فيها، بل الأكثرون ينكرون تلك القضية ( التي إدعوها هؤلاء وقالوا هي قضية ضرورية بديهية) ويقطعون بفسادها، لَزِمَ القطعُ بأنها ليست من البديهياتِ.
الحجة الثانية: في الرد على قولهم. أن الموجود إمّا أن يكون متحيزا أو حالا في المتحيز، فنقول:
إن صريح العقل شاهد بأن التقسيم الصحيح أن يُقال: الموجود إما أن يكون:
1 – متحيزا
2 – أو حالا في المتحيز.
3 – أو لا يكون متحيزا ولا حالا في المتحيز.
ولو أنا قلنا:
الموجود إما أن يكون متحيزا، أو حالا في المتحيز. واقتصرنا على هذا القدر. فإن بدائِهَ العقولِ قاطعةٌ بأن هذا التقسيم غيرُ تام. بل لا بد وأن نَضُمَ إليه القسمَ الثالثَ، وهو الذي لا يكون متحيزا ولا حالا في المتحيز حتى يتم ذلك التقسيمُ.
لأن الإحتمال إذا تعين على ركنين، كان التقسيم ثلاثيا.
ولو أن قائلا قال: هَبْ أن هذا التقسيم معتبر بحسب التقسيم، إلا أنه معلومُ الامتناع بالبديهة.
فنقول:
ليس الأمر كذلك، لأنا لو عرضنا على بديهة العقل قولَنا:
1 – إن هذا القسم ممتنعُ الوجودِ، وعرضنا أيضا على البديهة: أن الواحد ضعف الإثنين.
2 – فإنا نجدُ البديهةَ جازمةٌ بكذِبِ هذه الثانيةِ، وغيرَ جازمةٍ بالأولى.
ومن أنكر التفاوت بين الصورتين كان مكابرا في أجلى البديهيات وأقواها.
فيثبت بما ذكرنا:
أن إثبات موجود ليس بمتحيزٍ ولا حالَ في المتحيز ليس على خلاف البديهياتِ البتةَ.
الحجة الثالثة:
إنا نعلم بالضرورة: أن أشخاص الناس مشتركةٌ في المعنى المفهوم من قولنا: إنسان، ومتباينة بتعيناتها وخصوصياتها، وما به المشاركةُ غير ما به المخالفة. وهذا يدل على أن الإنسان من حيث هو إنسانٌ: مفهومٌ مجردٌ عن الشكلِ المعيَّنِ، والحيز المعين.
فثبت:
أن الإنسان معقولٌ مفهومٌ مجردٌ، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يُستبعد في العقل أن يكون خالقُ المخلوقاتِ منزهاً عن لواحقِ الحِسِّ وعلائقِ الخيالِ؟
فإن قيل:
هذا الكلام مغالطةٌ، وذلك لأن القدر المشترك بين أشخاص الناس ليس له وجود خارجَ الذهنِ، بل الموجودُ في الخارجِ هو الذوات المتعينةُ، والأشخاصُ المتباينةُ، فأما القدرُ المشتَرَكُ فلا وجود له إلا في الذِّهنِ. والنزاعُ إنما وقعَ في أنَّهُ: هل يوجدُ في الأعيان موجودٌ مجردٌ عن الوضعِ والحيزِ؟ فأين احدُ البابين من الآخرِ؟
فيثبت: أن هذا الكلام مغالطة محضة.
والجواب عنه من وجهين:
الأول:
إنه ثبت بالدليل الذي ذكرناه: أن القدر المشترك بين الأشخاص الإنسانية هو مجرد المفهوم من معنى لفظِ الإنسانِ. نقول: هذا المفهوم إما أن يكون:
1 – موجودا،
2 -وإما أن يكون معدوما محضا.
والثاني { وهو ان يكون هذا المفهوم معدوما محضا} باطل.
لأن المفهوم من كون الإنسان إنسانا، جزءٌ من ماهية هذا الإنسان، والعدمُ المحضُ يمتنع أن يكون جزءاً من ماهيَّةِ الموجودِ.
فيثبت أنه موجود.
فإما أن يكون موجودا في الأعيان، وإما أن لا يكون.
والثاني { وهو أن لا يكون موجودا في الأعيان} باطل.
لأن الإنسان المعين موجود في الأعيان، وما كان موجودا في الأعيان كان جزء ماهيته أيضا موجودا في الأعيان لأن بديهة العقل شاهدةٌ بأن المركبَ لا يوجد إلا عند وجود جميعِ اجزائه. فلما كان المفهوم من الإنسان جزءا من ماهية هذا الإنسان، وثبت أن هذا الإنسان موجود في الأعيان، لزم أن يكون الإنسان من حيث هو إنسان موجودا في الأعيان.
ولكن الإنسان من حيث هو إنسان مغاير لمعنى الوضع والحيز.
فيثبت :
أن الإنسان من حيثُ هو مع قطع النظرِ عن لواحقه، وعن عوارضه: مجرد عن الوضع والحيز.
هذا غاية ما يمكن ذكره في تقرير الكلام، مع ان البحث باق فيه.
فإن لقائل أن يقول:
هذا الكلام يفيد أن الإنسان من حيث هو إنسان، مغاير لمعنى الوضع والحيز، ولا يفيد أن المفهوم من الإنسان ينفك عن هذه المعاني.
والمطلوب:
إثبات موجود تنفك حقيقته في الوجود الخارجي عن هذه المفهومات. وما ذكرتموه لا يدل عليه.
الوجه الثاني في الجواب أن نقول:
هب أن هذا المفهوم المجرد لا وجود له إلا في الذهن، إلا أن هذا يدل على أن صريح العقل لا يستبعد تصور موجود مجرد عن الوضع والحيز ونحن لا نطلب في هذا المقام إلا هذا القدر.
فأما الجزم، بأن هذا الشيء موجود أو ليس بموجود فذاك موقوف على الدليل المنفصل.
ولقائل أن يقول:
إن العقل إذا فهم معنى الإنسانية فإنه يحكم بأن هذا المعنى إذا وجد في الأعيان فإنه لا ينفك عن الوضع والحيز.
والمقصود من هذا البحث:
أن العقل هل يُجوّز إثباتَ موجودٍ في الأعيانِ بشرطِ كونِهِ مُجرداً عن الوضع والحيز؟ وهذا الكلامُ لا يفيد هذا المطلوبَ.
فيثبت:
أن هذا الدليل ليس بقوي في إفادة هذا المطلوب. والشيخ الرئيس أبو علي ذكره في الإشارات وعول عليه في هذا الباب، إلا أن البحث ما ذكرناه.
الحجة الرابعة:
إن الواحد منا حال ما يكون مستغرقَ الفِكرِ والرؤية في استخراجِ مسألةٍ معضلةٍ. فقد يقول في نفسِهِ: إني حكمت بكذا أو اعترفت بكذا فهو حالَ ما يقول في نفسه إني عقلتُ كذا وحكمتُ بكذا. لا بد وأن يكون عارفا بنفسه إذ لو لم يعرفْ نفسَهُ لامتنعَ منهُ أن يحكم على نفسه بأنه حكم بكذا، أو عرف كذا. ثم إنا نعلم بالضرورة: أنه في تلك الحالة قد يكون غافلا عن معنى الشكل {والوضع والحيز} والمقدار، فضلا عن أن يعلم كونَ ذاتِهِ في حيزٍ وموصوفٍة،
بشكلِ ومقدارِ.
فيثبت:
أن العلم بالشيء الموجودِ في الأعيان قد يحصلُ عند عدم العلم بحيِّزه أو بشكلِهِ أو بمقدارِهِ. وذلك يفيدُ القطعَ بأن الشيءَ المجرَّدَ عن هذه الأشياءِ يَصِحُ أن يكونَ معقولاً.
الحجة الخامسة:
أن نقول:
إن خصومنا في هذا الباب:
1 – إما الكراميةُ
2 – وإما الحنابلةُ.
أما الكرَّاميَّةُ: فإنا نقول لهم:
لو كان الله مشارا إليه بالحس لكان ذلك الشيء إما أن يكون:
1 – منقسما فيكونَ مركبا مؤلفا من الأبعاضِ والأجزاءِ {وأنتم لا تقولون} به،
2 – وإما أن يكون غيرَ منقسم فيكونَ في الصغر والحقارة مثل النقطةِ التي لا تنقسم ومثلَ الجزء الذي لا يتجزأ. وأنتم لا تقولون به.
وعند هذا الكلام قالت الكرامية:
إنه واحدٌ منزهٌ عن التركيب والتبعيض. ومع ذلك فإنه ليس بصغير ولا بحقير. ومعلوم أن هذا الذي ذكروه مما لا يقبله الحس والخيال البتة، بل لا يقبله العقل البتة.
1 – لأن المشار إليه بحسب الحس. إن حصلَ له امتدادٌ في الجهات والأحياز كان أحدُ جانبيه مغايرا للثاني، وذلك يوجبُ الإنقسامَ.
2 – وإن لم يحصل له امتداد في شيء من الجهات لا في اليمين ولا في اليسار ولا في الفوق ولا في التحت ولا في القدام ولا في الخلف، كان نقطةً غيرَ منقسمةٍ، وكان في غايةِ الصِّغرِ والحقارةِ.
وإذا لم يبعدْ عندهم التزامُ كونِهِ تعالى غيرَ قابل للقسمة، مع القول بكونه عظيما غير متناه فكيف حكموا بأن القول بكونه تعالى ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز مدفوعٌ في بديهة العقل؟
فيثبت أن الذاهب إلى هذا القول: متعنتٌ، يحكمُ على ما كان بديهيَ البُطلانِ بالصِّحةِ، ويَحْكُمُ على غيرِ البديهي بكونِهِ بديهياً.
وأما الحنابلة الذين التزموا الأجزاء والأبعاض.
فهم أيضا معترفون بأن ذات الله تعالى مخالفةٌ لذوات هذه المحسوسات. فإنه تعالى لا يساوي هذه الذوات في قبول الإجتماع والإفتراق، وفي الصحة والمرض وفي الحياة والموت والصلابة واللين والإستئناس بالغير، والتوحش بسبب الوحدة. فهم معترفون بأن هذه الأشياء ممتنعة الثبوت في حق الله تعالى.
فإنا لو قلنا لهم:
لو وصل شيء إلى ذاته. فهل يمكنه أن يغوص فيه أو لا يمكنه؟
1 – فإن أمكنه كانت ذاتُه بمنزلة الماء والهواء. فتتمزق وتتفرق تلك الذات.
2 – وإن تعذر عليه كانت ذاته بمنزلة الحجر الصلد.
وأيضا:
الحي الذي لا يأكل ولا يشرب ولا يطيب قلبه بسبب الإستئناس بالغير، ولا تستوحش نفسه بسبب التفرد: غير معقول.
فإن قيل للحنابلة: هذه الكلماتُ.
قالوا:
إنه تعالى يخالف خلقه. فلا يجوز أن يقاس حاله بحال غيره.
وإذا ثبت هذا فنقول:
إنهم قد اعترفوا في هذا المقام:
بأن حكم الوهم والخيال غيرُ مقبولٍ في حقِّ الله تعالى. وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يمكنهم أن يحكموا بأن حكمَ الوهمِ والخيالِ في أن كل موجود إما أن يكون متحيزا، وإما أن يكون حالا في المتحيز: يجب أن يكون مقبولا؟
وحاصل الكلام:
أن حكم الوهم والخيال في حق الله تعالى.
1 – إن كان (حكم الوهم والخيال} مقبولا، وجب أن يُقبل على الإطلاق. وذلك باطل بالإتفاق.
2 – وإن لم يكن (حكم الوهم والخيال} مقبولا وجبَ أن لا يُلتفتَ إليه البتة.
فأما قبوله في بعض المواضع ورده في سائرها فهو حكمٌ باطلٌ.
الحجة السادسة:
ان نقول: إن معرفة {أفعال الله تعالى} وصفاتِه أقرب إلى العقل من معرفة ذات الله تعالى.
ثم إن المشبهة وافقونا على أن معرفة {أفعال الله ومعرفة صفاته}، على خلاف حكم الحس والخيال.
أما تقرير هذا المعنى في أفعال الله تعالى فذلك من وجوه:
الأول:
إن الذي رأيناه وشاهدناه ليس إلا تغيرُ الصِّفاتِ مثل انقلاب الماء المذاب نباتا وانقلاب النبات حيوانا فأما حدوث الذوات والأجسام فهذا شيء ما شاهدناه وما عرفناه البتة.
الثاني:
إنا لا نعقل حدوث شيء يصاغ إلا عن مادة مخصوصة وإلا في زمان مخصوص. فإن تكونَ الخاتم والسوار من غير شيء يصاغ ذلك الخاتم والسوار منه، غير مفهوم ولا محسوس.
وأيضا:
فيكون حدوث الخاتم والسوار من غير زمان ووقت غير معقول.
ثم إن أرباب الملل والأديان أقروا بذلك واعترفوا به مع أنه غير موهوم ولا محسوس.
والثالث:
إنا لا نعقل فاعلا يفعل بعد أن لم يكن فاعلا إلا لأجل تغير حالة وتبدل صفته. ثم إن ارباب الملل اعترفوا بانه خالقٌ للعالم من غير تغير شيء في صفاته ولا تبدلٍ في احواله.
والرابع:
إنا لا نعقل فاعلا يفعل فعلا إلا لجلب منفعة أو لدفع مضرة. ثم إنا اعترفنا بأنه تعالى خلق هذا العالم من غير شيء من هذه الأحوال.
فيثبت:
أن الوهم والخيال معزولان في معرفة أفعال الله تعالى.
وأما تقرير هذا العجز في الصفات: فذلك من وجوه:
الأول :
إنا لا نعقل ذاتا يكون عالما بمعلومات لا نهاية لها على التفصيل دفعة واحدة. فإنا إذا جربنا أنفسنا وجدنا انها متى اشتغلت باستحضار معلوم معين، امتنع عليها في تلك الحالة استحضارُ معلومٍ آخر، ثم إنا مع ذلك نعتقد بأنه تعالى عالمٌ بجميع المعلومات على التفصيل من غير أن يحصلَ في ذلك العلم اشتباهٌ والتباسٌ، فكان كونُه تعالى عالما بجميع المعلومات أمرا على خلاف مقتضى الوهم والخيال.
الثاني:
إن كل من فعل فعلا فلا بد له من آلة أو أداة. وأن الأفعال الشاقة تكون سببا للكلال واللغوب والتعب. ثم إنا نعتقد أنه يدبر من العرش إلى ما تحت الثرى مع أنه منزه عن المشقة والتعب.
والثالث:
إنا نعتقد أنه تعالى يسمع أصوات الخلق من العرش إلى ما تحت الثرى، ويرى الصغير والكبير فوق أطباق السماوات العُلى وتحت الأرض السُّفلى. ومعلوم أن الوهم والخيال لا يتصوران هذه الأحوال.
فيثبت بما ذكرنا:
أن الوهم والخيال قاصران عن معرفة أفعال الله تعالى وصفاته. ومع ذلك فإنا نثبت أن أفعالَ الله تعالى وصفاتِه على مخالفةِ الوهمِ والخيالِ.
ومن المعلوم بالبديهة:
أن معرفة كنه الذات أعلى وأجلُ واغمضُ من معرفة الأفعال والصفات. فلما عزلنا الوهم والخيال في المقام الأقربِ الأظهرِ، فلأن نعزلَهما في المقام الأغمض الأصعب كان أولى.
الحجة السابعة:
إن العقول والأفهام اضطربت في معرفة جوهر النفس الإنسانية، مع أنا بينا في أول هذا الكتاب: أنها أظهر المعلومات وأقربها إلى العقل والعلم والفهم. ولما عجزت النفس عن معرفة نفسها فلأن تعجز عن معرفة خالق الكل – مع انه لا نزاع في كونه مخالفا لجميع المخلوقات بالحقيقة والماهية – كان أولى.
بل نقول:
الإنسان حال ما يكون يقظان فإنه لا يمكنه الوقوف على شيء من أحوال الغيب. فإذا نام وزال عقله واستولت الغفلة على جسده قدر على الإتصال بعالم الغيب والإستفادة من تلك الأسرار. وذلك على خلاف حكم الوهم والخيال لأن الإنسان في حالة اليقظة أكمل منه حال النوم. فلما عجز عن معرفة الغيب حال كماله فلأن يعجز عنها حال كماله في الغفلة والنقصان كان أولى. فعلمنا: أن حكم الوهم والخيال قد يكون باطلا مردودا.
الحجة الثامنة:
إنا نبصر الأشياء. إلا أن القوة الباصرة لا ترى نفسها وكذلك القوة الخيالية تتخيل الأشياء إلا أن هذه القوة لا يمكنها أن تتخيل نفسها، فوجود القوة الباصرة والقوة الخيالية يدل على أنه لا يجب أن يكون كل شيء محسوسا متخيلا.
الحجة التاسعة:
أن نقول: المكان والزمان {موجودان. ولم يحصلا البتة في المكان واوالزمان. فقد يثبت وجود لا يحيط به المكان والزمان} فنفتقر ههنا إلى تقرير أمرين:
الأول:
إن الزمان والمكان {موجودان} ونقول:
أما المكان فالمراد منه الفضاء والخلاء الذي يحصل الجسم فيه.
والدليل عليه:
أنا إذا فرضنا أن الجبل قد انقلع من موضعه وانتقل بكليته إلى جانب آخر، فإن المنتقل هو الجبل. وأما تلك الجهة التي كان الجبل حاصلا فيها فإنها لم تنتقل البتة. والعلم بذلك ضروري.
إذا ثبت هذا فنقول:
تلك الجهة موجود من الموجودات. والدليل عليه:
أن تلك الجهة مغايرة لما سواها من الجهات بالعدد وبالإشارة الحسية. ولذلك فإنا نقول: إن هذا الجبل انتقل من تلك الجهة إلى جهة أخرى ولولا أن الجهة الأولى مغايرة للجهة الثانية وإلا لكان انتقال الجبل من إحداهما إلى الأخرى محالا.
والذي يقوله المتكلمون:
إن الجهة والحيز لا وجود لها في أنفسها وإنما هي أمور يفرضها العقل ويقدرها الوهم. وهذا كلام باطل.
وذلك لأن هذا الإنتقال حاصل في نفس الأمر سواء وجد العقل والذهن أو لم يوجد. وإذا كان كذلك وجب أن تكون الجهة موجودةً في نفسها سواء وجد الذهن أو لم يوجد.
فثبت:
أن الفضاء والخلاء أمر موجود.
وظاهر أنه ليس مكانا آخر، وإلا لزم التسلسل. فقد حصل في الوجود موجود ليس حاصلا في المكان والحيز.
وأما الزمان فهو أيضا موجود.
والدليل عليه :
هو أنا نقسمه إلى السنين ونقسم السنين إلى الشهور وتقسم الشهور إلى الأيام. ونقسم اليوم إلى الساعات. ونحكم بأن الساعة الواحدة أقل قدرا من اليوم، الذي هو أقل من الشهر، الذي هو أقل من السنة. والعدم المحض والنفي الصرف، يمتنع كونه قابلا للتقسيم إلى الأجزاء، ويمتنع وصفه بكونه أقل من الأجزاء أو أكثر منها.
فيثبت أنه شيء موجود.
وذلك الموجود إما أن يكون:
1 – متحيزا أو حالا في المتحيز،
2 – أو لا متحيزا ولا حالا في المتحيز.
ويمتنع كونه متحيزا وإلا لكان:
1 – شيء يكون أقرب إلى ذلك المتحيز، كان أقرب إلى الزمان،
2 – وكل ما كان أبعد عن ذلك المتحيز، كان أبعد من الزمان.
ومعلوم بالضرورة :
أن ذلك باطل قطعا. لأن الأشياء الموجودة في هذا اليوم وليس بعضها في المفهوم من الحضور في هذا اليوم أكمل من بعض، والعلم به ضروري.
وبهذا الطريق ثبت أيضا:
أنه يمتنع أن يكون عرضا حالا في المتحيز، وإذا بطل هذان القسمان، ثبت أن الزمان والمدة موجود من الموجودات مع أنه غير متحيز ولا حال في المتحيز. وذلك هو المطلوب.
واعلم:
أنك إذا تأملت ما لخصناه في مسألة الخلاء والمدة في هذا الكتاب، ووقفت على مذاهب الناس فيهما، ووقفت على أن الحق هو القول بإثبات الخلاء، وعلى أن الحق هو أن المدة ليس بمتحيز ولا حركة، ولكنه موجود مجرد. عرفت قطعا أن القول بإثبات موجود مجرد عن الجسمية: أمر واجب الإعتراف به. وهذا الوجه أقوى الوجوه المذكورة في هذا الباب.
الحجة العاشرة :
إن المجسم يقول :
كل موجودين فلا بد وأن يكون أحدهما
1 – ساريا في الآخر سريان العَرَضِ في الجسم،
2 – أو يكون مباينا عنه بجهة من الجهات.
فأما إثبات موجودين لا يكون أحدهما ساريا في الآخر، ولا مباينا عنه بجهة من الجهات فهذا مما لا يقبله العقل.
وأما الدهري . فإنه يقول :
كل موجودين ، فلا بد:
1 – وأن يوجدا معا ،
2 – أو ان يوجد أحدهما قبل الآخر.
والذي يكون قبل الآخر،
1 – إما أن لا توجد بينهما فاصلة بمدة متناهية،
2 – أو فاصلة بمدة غير متناهية.
إذا ثبت هذا التقسيم، فنقول:
الباري والعالم.
1 – إن وجدا معا، لزم أن يكونا قديمين معا، أو محدثين معا.
2 – فأما القول بقدم الله تعالى وحدوث العالم على هذا التقدير: فهو غير مقبول.
3 – وأما القول بكون العالم محدثا، مع أن الله تقدمه من غير فاصلة أو تقدمه بمدة غير متناهية. فهذا التقدم بمدة غير متناهية أيضا يقتضي حدوثَ ذات الله تعالى. لأن المدة حادثة وتعينت بسبق الله للعالم.
4 – واما القول بكون العالم محدثا، مع أن الله تقدمه بمدة غير متناهية. فهذا يقتضي قدمَ المدة والزمان.
5 – وأما فرض كونه تعالى متقدما على العالم، لا على أحد هذه الأقسام، فذاك مما لا يقبله العقل.
فالحاصل : 1 – أن المجسم لا يمكنه أن يعقل كونه تعالى مباينا للعالم إلا بالحيز والجهة.
2 – والدهري لا يعقل كونه تعالى متقدما على العالم إلا بالمدة والزمان.
ثم إن المجسم مُقرٌ:
1 – بأن الذي يقوله الدهري من عمل الوهم والخيال. وأنه في نفسه ليس بحق.
2 – والدهري معترف بأن الذي يقوله المجسم من عمل الوهم والخيال. وأنه في نفسه كاذب.
فصار قول كل منهما معارَضا بقول الآخر، ويظهر منه بطلانُ كلا القولين وان الحق: أنه تعالى مباين للعالم لا بسبب الحيز والجهة. وانه تعالى سابق على العالم لا بسبب المدة والزمان.
بل نقول:
إن الجهة المعينة مباينة لسائر الجهات لا بسبب الحيز والجهة، والزمان المعين مباين لسائر الأزمنة لا بسبب المدة والزمان، فإن الزمان غير حاصل في زمان آخر.
وإذا كان الأمر كذلك في الجهة وفي المدة. فبأن يكون خالق الجهة والمدة منزها عن المباينة بالمكان والجهة، ومنزها عن السبق على العالم بالزمان والمدة كان أولى.
ولهذا قال الإمام الأجل علي بن أبي طالب عليه السلام { ” الذي أيـّن الأين. لا يقال له أين؟ والذي كيّف الكيف، لا يقال له: كيف؟”}
ونقل عن الفيلسوف أرسطاطاليس أنه كتب في أول كتابه الإلهيات:
{” من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية، فليستحدث لنفسه فطرة أخرى“}
ومراده :
أن الإنسان ألِفَ أحكام الوهم والخيال، والمباحث الإلهية لا يوافقها أحكام الأوهام والخيالات. فلهذا السبب وجب على الطالب استحداث فطرة أخرى.
فهذا جملة الكلام في بيان أن ادعاء البديهة في نفي موجود، لا يكون موجودا داخل العالم ولا خارجه: قول باطل.
و اما القائلون بان هذه المقدمة بديهية. فقد يذكرون في تقريرها عبارات مختلفة.
فالعبارة الأولى: قالوا :
1 – إنه تعالى خلق العالم في ذاته
2 – أو خارج ذاته
3 – أو لا في ذاته ولا خارج ذاته؟
ء – والأول باطل وإلا لزم أن تكون ذاته مخالطة الأجسام المستقذرة.
بـ – والثاني يوجب القول بانه تعالى مباين للعالم بالحيز والجهة.
وأما الثالث :
جـ – وهو أنه تعالى خلق العالم لا في ذاته ولا خارج ذاته فهذا: قول لا يقبله العقل البتة فكان باطلا.
والعبارة الثانية:
قالوا: الموجودان لا يعقلان إلا أن يكون أحدهما ساريا في الآخر.
1 – مثل العرض والجوهر،
2 – أو مباينا عنه في جهة من الجهات الست، مثل الجوهرين والجسمين.
فأما القسم الثالث:
وهو أن لا يكون أحدهما ساريا في الآخر ولا مباينا عنه بشيء من الجهات فهذا مما لا
يقبله العقل.
والعبارة الثالثة: قالوا:
إن صريح العقل حاكم بأن الشيء إذا لم يكن:
حاصلا في هذه الجهة البتة، ولم يكن حاصلا في شيء من الجهات الست المحيطة بنا. كان هذا نفيا لوجوده، وحكما بكونه عدما محضا وسلبا صرفا. ولذلك فإننا إذا قلنا: إن فلانا لا يوجد في الدار ولا خارج الدار: كان هذا نفيا لوجوده، وإذا كان لا طريق إلى تقرير النفي المحض والسلب الصرف إلا هذا، ثبت أنا لو نفينا كونه تعالى على أحد هذه الوجوه فإنه يلزم منه نفيُ وجوده.
فهذا جملة كلمات الخصوم في تقرير أن هذه المقدمة بديهية.
وأعلم أنه إن كان المقصود من هذه الكلمات:
1 – إدعاء أن إثبات موجود لا في داخل العالم ولا في خارج العالم قول معلوم الفساد بالضرورة والبديهة. فنحن قد بينا بالوجوه العشرة الكاملة أن ادعاء البديهة ههنا فاسد باطل.
2 – وإن كان المقصود منها ذكر الدليل على وجوب كون الله تعالى في الجهة.
فنقول هذا باطل:
لأن بتقدير أن يكون الحق هو أن الله تعالى غير مختص بالحيز والجهة أصلا. فهل يصح على هذا التقدير أن يقال: إنه تعالى خلق العالم في ذاته او خارج ذاته؟ لا أظن ان العاقل يحكم بصحة هذا التقسيم على تقدير سبق الإعتقاد بانه مختص بالحيز والجهة أصلا. لأن على هذا التقدير يكون الحق هو أنه تعالى خلق العالم لا في ذاته ولا مباينا عن ذاته بالحيز والجهة.
فيثبت : أن قوله :
إنه تعالى خلق العالم في ذاته أو خارج ذاته، إنما يظهر كونه حقا بتقدير أن يثبت أنه يجب كونه تعالى مختصا بالحيز والجهة.
فلو أثبتنا صحة هذه المقدمة بالبناء على تلك المقدمة لزم توقيف الدليل على المدلول وتوقيف المدلول على الدليل، وانه يوجب الدور. والدور باطل.
فيثبت
ء – أنه إن كان مقصودهم من تلك الكلمات مجرد ادعاء البديهة فهو باطل قطعا. لأن الشيء المختلف فيه بين العقلاء قديما وحديثا. كيف يمكن ادعاء البديهة فيه؟ لاسيما وجمهور العقلاء المحققين مصرون على فساده،
بـ – وإما إن كان مقصودهم منه ذكر الدليل فهو يوجب الدور، لأجل أن هذه المقدمة لا يمكن الإعتراف بصحتها إلا بعد إثبات هذا المطلوب، فلو حاولنا إثبات هذا المطلوب بتلك المقدمة لزم الدور.
وهذا كلام واف بالكشف عن حقيقة الحال في هذه المباحث.
أما الشيخ الرئيس أبو علي ابن سينا فإنه سلم أن الجزم بهذه المقدمة حاصل. إلا أنه زعم أن الجازم بها هو الوهم لا العقل. وزعم أن حكم الوهم في غير المحسوسات غير موثوق به.
ولقائل أن يقول:
إما أن تقولوا:
1 – إن الجزم الحاصل في هذه المقدمة يساوي الجزم الحاصل في سائر البديهيات. كقولنا: الواحد نصف الإثنين، وان النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان.
2 – وإما ان تنكروا هذه المساواة.
فإن ذهبتم إلى القسم الأول، وهو: إذا كانت قوة الجزم في الصورتين بالتساوي. فالعلم بكون أحداهما حقة والأخرى باطلة، إما أن يكون:
ء – علما ضروريا
بـ – أو نظريا.
1 – فإن كان العلم الضروري بالفرق بينهما حاصلا، كان ذلك مانعا من حصول الجزم القوي لكل واحد منهما.
2 – وإن كان الفرق لا يعرف إلا بالنظر والدليل، فحينئذ تصير صحة البديهيات موقوفة على الدليل، إلا أن صحة الدليل موقوفة على البديهيات فيلزم الدور وهو باطل. 3 – وإما إن ذهبتم إلى القسم الثاني وهو أن الجزم بهذه القضية ليس في القوة والشدة مثل جزم العقل بالبديهيات فحينئذ تخرج هذه القضية عن أن يكون مجزوما بها ابتداء. وذلك يوجب سقوطها بالكلية. {فهذا تمام الكلام في هذا الباب}.