قال: لا يعقل موجود ليس في جهة ولا مكان، ومن هذه صقته فهو معدوم.
.
قلت: دعك من هذا الآن وأجبني: ما هو تعريف العالَم والعالمين الذي جاء في نحو قوله تعالى: (رب العالمين)؟
.
فقال: العالَم هو ما سوى الله.
.
فقلت: حسنٌ، فهل الجهة والمكان هي الله، أم من غيره الذي هو العالم؟
.
فقال: بل غيره.
.
فقلت: إذن هو غني عنها ولا يحتاج لها.
.
فقال: كيف؟
.
فقلت: لأن الله سبحانه قال في القرآن: (فإن الله غني عن العالمين)، وقد قلت: إن الجهة والمكان من العالم، وهو غني عنه.
.
فعاد وقال: لكن تصور موجودٍ لا في جهة ولا مكان لا يعقل.
.
فقلت: هذا من سبق وَهْمِك لا حكم العقل؛ فقل لي: من حدَّدَ الجهات وأوجدها، هل كان في جهة قبل تحديدها، أو لم يكن؟
.
فسكت.
.
فقلت: لو كان قبلُ في جهةٍ؛ لكانت قديمة أزلية مثله، وهذا قول بقدم العالم لأنها من العالم، وأجمعوا على كفر القائل به، وحينئذٍ لم يكن غنيًّا عنها بل محتاجاً لها؛ لأنه لا ينفك عنها، والمحتاج والمفتقر لا يكون إلهاً، وهو ردٌّ للنص المحكم كذلك، فبطل كونه في جهةٍ أزلاً.
وإذا ثبت كونه غنياً عنها في الأزل.. لا يكون محتاجاً لها فيما لا يزال؛ لأنها حينئذ: إما أن تكون كمالاً له أو نقصاً، فإن كانت نقصاً استحالت عليه لتنزهه تعالى عن النقائص، وإن كانت كمالاً لزم نقصه قبل ذلك وتكمله بها فيما لا يزال، وهو محال أيضاً، وما استلزم المحال محال، فبطل كونه تعالى في جهةٍ أو مكان أزلاً وأبداً لأنه غني عن العالمين أزلاً وأبداً.
.
فقال: إذن نحن نعجز عن إدراك الله.
.
فقلت: العجز عن الإدراك إدراك، هذه مقولة صديق الأمة أبي بكر رضي الله عنه، كيف وقد عجزنا عن إدراك كنه مخلوق له تعالى كالروح مثلا! ألا نعجز عن إدراكنا وتصورنا لكنهه تعالى؟! وهذا لا يمنع أنا عرفناه تعالى بصفاته وأيقنَّا بوجوده، ولذا قال ﷺ: «تفكروا في آلاء الله ولا تتفكروا في الله»، وفي رواية: «تفكروا في كل شيء ، ولا تفكروا في ذات الله »، وفي رواية: « تفكروا في خلقه ولا تفكروا في الخالق ، لا تقدرون قدره ».
.
فقال: إذن لماذا ينكر البعض على هذا ويرفض تعقله؟
.
فقلت: هذا من قبيل سيطرة الوهم لا العقل، فهو من قبيل الحكم بما اعتاده الشخص في الشاهد المرئي والمحسوس عنده على ما غاب عنه، فتوهَّم أن ما يغيب عن حسه المادي مثلُه لابد له من مكان وحيز.
فهو كمن نشأ وعاش حياة بدوية لم ير بحراً ولا نهراً ولم يسمع بهما، ولم ير الماء إلا في البئر، ورأى كل من سقط فيه أو غمره من طير أو إنسان أو بهيمة يموت، فإذا أخبر بحياة لحيوانات تعيش عشرات السنين تحت الماء في مساحات شاسعة منه لأنكر على قائله ولم يقبله، وليس إنكاره هذا من قبيل حكم العقل، بل من قبيل الوهم وقياس الغائب على الشاهد.
.
فقال: من يقول بخلاف قولك يعتمد أيضاً على آيات ونصوص.
.
فقلت له: أولاً ليس هذا قولي وحدي، بل هو قول أهل السنة جميعاً، نعم القائل يعتمد على آيات، ولكن يترك آيات أخرى وأحاديث كذلك، وهو مع ذلك يرفض التأويل والمجاز رأساً ويأخذ بالظاهر فقط، فيلزمه تناقض الآيات والنصوص وتعارضها، والله تعالى يقول: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً).
.
فقال: وكيف ذلك؟
.
فقلت: لأن الله تعالى يقول: (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه) ويقول (فأينما تولوا فثم وجه الله) كما يقول: (أأمنتم من في السماء)، وهكذا من هذا القبيل، وهو ظاهر التعارض، فإن رفضَ التأويل وقال بالظاهر يتناقض، وإن أوّل البعض وأخذ بظاهر البعض فتحكمٌ منه بلا دليل.
.
فقال: وما الحل؟
.
فقلت: برد المتشابه إلى المحكم، كقوله تعالى: (فإن الله غني عن العالمين)، (ليس كمثله شيء) (ولا يحيطون به علماً) الخ، وتصرف معاني هذه الآيات إلى ما يليق به سبحانه من الكمالات بما تحتمله اللغة في كناياتها ومجازاتها التي نزل بها القرآن الكريم بما يتفق مع صحيح العقل ومحكم الآيات، أو نكل أمرها إلى الله مع تنزيهه تعالى عن المعاني الحسية التي للمخلوقات والمحدثات، أما اتباع المتشابه واعتقاد ظاهره وترك المحكم.. فقد قال الله تعالى فيه: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه).