وصفه تعالى بالمماسة / من كتاب التجسيم في الفكر الإسلامي للدكتور صهيب السقار
المسألة الثالثة: وصفه تعالى بالمماسة
أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن حكيم بن جابر قال: (إن الله تبارك وتعالى لم يمس بيده غير ثلاثة أشياء خلق الجنة بيده، ثم جعل ترابها الورْس([1]) والزعفران وجبالها المسك وخلق آدم بيده وكتب التوراة لموسى)([2])
وأخرج عبد الله بسنده عن عكرمة أنه قال (إن الله عز وجل لم يمس بيده إلا آدم صلوات الله عليه خلقه بيده والجنة والتوارة كتبها بيده قال ودملج([3])اللهعز وجل لؤلؤة بيده فغرس فيها قضيباً فقال امتدي حتى أرضي وأخرجي ما فيك بإذني فأخرجت الأنهار والثمار)([4])
وقد تناقض المنتسبون إلى السلف في إثبات ما يقتضيه هذا الخبر فقد أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة وتحمس في إثباته عثمان بن سعيد ([5]) واشتد على من تأولَه فقال: (فيقال لهذا المريسي الجاهل بالله وبآياته فهل علمت شيئا مما خلق الله ولِيَ خلْقَ ذلك غيرُه حتى خص آدم من بينهم أنه وليَ خلقَه من غير مسيس بيده فسمِّه. وإلا فمن ادعى أن الله لم يلِ خلْقَ شيء صغيرأو كبير فقد كفر، غيرأنه ولِيَ خلْقَ الأشياء بأمره وقوله وإرادته ووليَ خلْقَ آدم بيده مسيساً لم يخلق ذا روح بيديه غيره، فلذلك خصه وفضله وشرف بذلك ذكره لولا ذلك ما كانت له فضيلة من ذلك على شيء من خلقه إذ خلقهم بغير مسيس في دعواك.
وأما قولك تأكيد للخلق فلعمري إنه لتأكيد جهلت معناه فقلبته إنما هو تأكيد اليدين وتحقيقهما وتفسيرهما حتى يعلم العباد أنها تأكيدُ مسيسٍ بيد، لما أن الله قد خلق خلقاً كثيراً في السموات والأرض أكبرَ من آدم وأصغر وخلق الأنبياء والرسل وكيف لم يؤكد في خلق شيء منها ما أكد في آدم، إذ كان أمر المخلوقين في معنى يدي الله كمعنى آدم عند المريسي فإن يك صادقاً في دعواه فليسمِّ شيئاً نعرفه وإلا فإنه الجاحد بآيات الله المعطل ليدي الله)([6]) ولم يوافق محقق الكتاب مؤلفَه على إثبات المسيس، ولكن لسبب بارد هو أن الخبر لم يصح إسناده فقال رئيس جمعية أنصار السنة المحمدية محمد الفقي:(لفظ المسيس والمس لا نعرفها وردت في القرآن ولا في الحديث، بل نقول خلقه بيديه على ما يعلم الله ويليق بذاته العلية ولا نعلم الكيفية ولا نزيد على ما ورد)([7]) وقال محقق آخر بعد نقل كلام الأول:(وهو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه حتى يثبت ما يدل على ذلك)([8])
فلو أن المحققين نبها على ما فيه مما يخالف قواطع التنزيه بإثبات المسيس الذي يعد من خواص الأجسام. أما أن يقال نتوقف فيه حتى يثبت ما يدل عليه فهذا موقف بارد يوهم أن إثبات خواص الأجسام يمكن أن جائزاً ولا يحيل أن يأتي في كلام الله وكلام رسوله ما يثبت خواص الأجسام، فلا نَقْنع مِن مَن يحقق كتاباً يثبت مؤلفه المس والمسيس أن يتوقف في إثبات ما أثبته المؤلف بل يتعين الحكم على من أثبته والحكم على إثباته، خاصة وأنهم يقدمون المؤلف على أنه متبع لمنهج السلف، وأن في كتابيه من تقريرعقيدة السلف ما ليس في غيره. وخاصة أن هذا الخبر ثابت في كتاب السنة الذي ينسبونه إلى عبد الله بن أحمد وفي نحوه من الكتب التي تعد من مصادر عقيدة السلف. ألا يستحق من المحققين ولو أن يدفعا عن أنفسهما اتهام المؤلف لمن لم يثبت هذا الخبر بجحد آيات الله وتعطيل يديه؟
ولا بد من التنبيه على اضطراب أتباع هذا المنهج وعدم ثبوتهم على أصل واحد فمن العجيب أن يحتج بعضهم بما لا يصح عن التابعين كخبر مجاهد في الإقعاد على العرش وخبر عبيد بن عمير في إثبات البعض لله تعالى ويتوقفَ في خبرٍ يصح سنده إلى اثنين من التابعين.
وهذا القاضي أبو يعلى يذهب إلى أنه لابد من إثبات خبر التابعي في ما لا مجال للرأي فيه([9]) فكيف يستقيم على أصله أن ينكر إثبات المماسة مع ورودها بسند صحيح عن إثنين من التابعين؟ وكيف يكون هؤلاء منتسبين إلى منهج من سماته الاتفاق في العقيدة ومن أهدافه توحيد الاعتقاد
والذي يبدو لي والله أعلم أن هذا الخبر من الإسرائيليات فقد أخرج عثمان بن سعيد بسند صحيح عن كعب الأحبار أنه قال: (لم يخلق الله غير ثلاث خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس جنة عدن بيده ثم قال لها تكلمي قالت قد أفلح المؤمنون)([10])
فإن قيل هذا الخبر موافق لقول الله تعالى: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي)([11]) ويمتنع التأويل لأنه لو كانت اليد هي القدرة لأدى إلى إثبات قدرتين لأن اللفظ جاء على صيغة المثنى. وتأويله بالقدرة يمنع الخصوصية التي توجبها الآية لآدم كما أشار إلى ذلك الدارمي فله ثلاثة أجوبة ذكرها القاضي ابن جماعة فقال: (أحدها أن المراد مزيد العناية بإنعامه عليه في خلقه وإيجاده وتكريمه كما يقال خذ هذا الأمر بكلتا يديك، وأخذتُ وصيتك بكلتا يدي، ولا شك أن الاعتناء بخلق آدم حاصل بإيجاده وجعله خليفة في الأرض وتعليمه الأسماء وإسكانه الجنة وسجود الملائكة له فلذلك خصه بما يدل لغة على مزيد الاعتناء
الجواب الثاني أن المراد بيدي القدرة لأن غالب قدرة الإنسان في تصرفاته بيده وثُنيت اليد مبالغةً في عظم القدرة فإنها باليدين أكثر منها بالواحدة.
الثالث أن يكون ذكر اليدين صلة لقصد التخصيص به تعالى ومعناه لِما خلقت أنا دون غيري ومنه قوله تعالى: “ذلك بما قدمت يداك”([12]) أي بما قدمت أنت..
فإن قيل إن كان المراد بخلقت بيدي القدرة لم يكن لآدم مزية لأن الخلق كلهم بقدرته؟
قلنا المراد مزيته بالخلق في الإكرام بالأنواع التي ذكرناها. وكذلك قوله تعالى: “مما عملت أيدينا”([13])فليس لها مزية على غيرها باعتبار الخلق وحده بل بإعتبار ما جعل في خلقها من المنافع المعدومة في غيرها.
فإن قيل فالقدرة شيء واحد لا يثنى ولا يجمع وقد ثنيت وجمعت ؟
قلنا هذا غير ممنوع فقد نطقت العرب بذلك بقولهم: مالك بذلك يدان. وفي الحديث عن يأجوج ومأجوج (ما لأحد يدان بقتالهم)([14]) فثنوا عند قصد المبالغة ومنه (بين يدي نجواكم صدقة)([15]) وأيضاً فقد جاء (يد الله)([16]) وجاء:(بل يداه مبسوطتان)([17]) وجاء: (بأيدينا)([18]) فلو لم يحمل على القدرة وحمِل على الظاهر لزم من تصوير ذلك ما يتعالى الله عنه)([19])
([1]) نبات أصفر يصبغ به. انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 5/172.
([2]) المصنف 7/28(573) قال:(حدثنا عبد الله بن نمير قال حدثنا إسماعيل بن أبي خالد).وعبد الله هو أبو هشام الكوفى 199 هـ ثقة صاحب حديث من أهل السنة انظر ترجمته في تهذيب التهذيب 6/58. يرويه عن إسماعيل بن أبى خالد أبو عبد الله الكوفي 146 هـ وهو ثقة ثبت قال الحافظ فى تهذيب التهذيب1/292.ويرويه إسماعيل عن حكيم بن جابر بن طارق بن عوف الأحمسى الكوفى وهو ثقة وترجمته في تهذيب التهذيب 2/445. وذكره الذهبي في العلو 1/125 عن يعلى بن عبيد يرويه عن إسماعيل عن حكيم ويعلى وهو أبو يوسف الطنافسى الكوفى 209 هـ قال الحافظ فى تهذيب التهذيب 11/403:(وقال الدارقطنى: بنو عبيد كلهم ثقات. وقال ابن عمار الموصلى: أولاد عبيد كلهم ثبت، وأحفظهم يعلى)
وأخرجه عثمان بن سعيد في النقض على المريسي 1/263-266 بسند فيه عطاء بن السائب 136 هـ وهو صدوق اختلط انظر ترجمته فى تهذيب التهذيب 7/206. يرويه عطاء عن ميسرة بن يعقوب أبو جميلة الطهوى الكوفي وهو مقبول انظر ترجمته فى تهذيب التهذيب 1/345.وأخرجه عبد الله بن أحمد في السنة 1/296 (573) و2/525(1206) بسند فيه إبراهيم بن الحكم بن أبان، أبو إسحاق العدنى وهو ضعيف وصل مراسيل انظر ترجمته فى تهذيب التهذيب 1/116. وأخرجه من طريق عبد الله بن أحمد أبو بكر النجاد في الرد على من يقول القرآن مخلوق 1/67 (98)
([3]) قال ابن منظور في لسان العرب (دملج) 2/276 (الدملجة: تسوية الشيء كما يدملج السوار وفي حديث خالد بن معدان دملج الله لؤلؤة ودملج الشيء إذا سواه وأحسن صنعته).
([4]) السنة 1/297(574) بسند فيه عبدة بنت خالد بن معدان ولا يعرف لها ترجمة. وأخرجه من طريق عبد الله بن أحمد أبو بكر النجاد في الرد على من يقول القرآن مخلوق 1/67 (99). وأخرجه الطبري في تفسيره عن بعض أهل= الشام – =ولعله كعب- 13/147(قال إن ربك أخذ لؤلؤة فوضعها على راحتيه ثم دملجها بين كفيه ثم غرسها وسط أهل الجنة ثم قال لها وكفيت حتى تبلغي مرضاتي ففعلت فلما استوت تفجرت من أصولها أنهار الجنة وهي طوبى)
([5]) انظر موافقة محقق “إبطال التأويلات” على ما ذكره عثمان بن سعيد في حاشية 1/207. وانظر أيضاً شرح قصيدة ابن القيم لأحمد بن إبراهيم بن عيسى2/501
([6]) نقض الإمام عثمان بن سعيد 1/230
([7]) انظر نقض عثمان بن سعيد بتحقيق محمد حامد الفقي 25.
([8]) انظر نقض عثمان بن سعيد بتحقيق عبد العزيز بن عبد الله الراجحي 1/230.
([9]) انظر إبطال التأويلات1/209.قال: (فإن قيل مجاهد وابن سيرين ليسا بحجة ولا ممن يثبت يقولهما صفات لله ؟ قيل إثبات الصفات لا تؤخذ إلا توقيفا لأنه لا مجال للعقل والقياس فيه فإذا روي عن بعض السلف فيه قولاًعُلم أنه توقيف)
([10]) نقض عثمان بن سعيد 1/265. عن محمد بن المنهال قال:ثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس عن كعب. ومحمد بن المنهال أبو جعفرالضرير 231 هـ ثقة حافظ انظر ترجمته فى تهذيب التهذيب 9/476. يرويه عن يزيد بن زريع العيشى 182 هـ وهو ثقة ثبت انظر ترجمته فى تهذيب التهذيب 11/327. ويرويه يزيد عن سعيد بن أبى عروبة 156 هـ وهو ثقة حافظ و كان من أثبت الناس فى قتادة.انظر ترجمته فى تهذيب التهذيب 4/64. وقال ابن حبان فى الثقات 6/360: (وكان قد اختلط سنة خمس وأربعين ومائة وبقى خمس سنين في اختلاطه وأحب إلي أن لا يحتج به إلا بما روى عنه القدماء قبل اختلاطه مثل بن المبارك ويزيد بن زريع وذويهما). ويرويه سعيد عن قتادة بن دعامة السدوسى وهو ثقة ثبت انظر ترجمته فى تهذيب التهذيب 8/35.
([12]) الآية (10) من سورة الحج.
([14]) أخرجه الامام مسلم في صحيحه 4/2250 (2937)
([15]) الآية (13) من سورة المجادلة.
([16]) الآية (10) من سورة الفتح.
([17]) الآية (64) من سورة المائدة.
([18]) الآية (52) من سورة التوبة. (ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا) ولا يخفى أن الاستشهاد بقوله تعالى في الآية (71) من سورة يس: (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً) أصح.