تحليل نقدي لنظرية الفيض عند الفارابي وابن سينا (مقال قيم)
دعوة الحق
110 العدد
تمهيـد:
يحتل الفارابي( 259هـ 339هـ) وابن سينا (370هـ428هـ) مكانة ممتازة في الفكر الإنساني، ولا يختلف اثنان في عبقريتهما أو الإشادة بسعة علمهما وعميق نظرهما فالإجماع من الخصوم والأصدقاء على ذلك، وإنما يقع الاختلاف حولهما حين يوزن إنتاجهما الفلسفي بمقياس الإسلام عند جماعة، وبالابتكار والاستقلال الفكري عند جماعة أخرى، ولأجل هذا اعتبرا في حساب البعض من الصوفية المخلصين، ونشازا في الفكر الإسلامي، بل وكفرة مارقين في حساب البعض الآخر، أو تلامذة مخلصين لليونان على أحسن الفروض.
ولكل من هؤلاء وأولئك وغيرهم سند من حياتهما وتراثهما، غير أنهما، ورغما عن كل شيء، ستمكث عبقريتهما وأصالتهما في جل ما كتباه فوق الشبهات، ولعل من أبرز الآراء التي أخذ عليهما بسببها, وأثيرت حولهما الظنون والشبهات وقيل فيهما أكثر ما قيل، هي محاولتها لتفسير نوع الاتصال بين الله والعالم، وهي المحاولة التي عرفت في الفكر الفلسفي بنظرية الفيض الإلهي، وارتبطت باسمهما، وكانا يهدفان من ورائها إلى التوفيق بين الفلسفة اليونانية والإسلامية في قضية من أهم وأعوص قضايا الفلسفة، إلا أنهما رغم ما بذلاه من جهد جهيد في هذا السبيل لم يوفقا لهدفهما وتخلى عنهما النجاح كلية، وأثارت نظريتهما من الشكوك والتساؤلات أكثر مما بعثته من الاطمئنان إن كان هناك من اطمأن بها ورضيها لنفسه شرعة ومنهاجا…
بين يدى النظرية
يستحسن أن نمهد لعرض النظرية بكلمة توضح الأساس الذي انطلقت منه الفكرة، مقتصرين على الأساس المباشر دون استقراء للتفصيلات وأسبابها، لهذا سنترك جانبا قضية الألوهية وما دار حولها من جدل طويل ومتشعب، لنتعرض لجوهر موضوعنا الذي هو محاولة تفسير الصلة التي تربط بين الإله والعالم، وهي محاولة اختلفت فيها الآراء وتخاصمت فيما بينها، وأدْلت كلُ فرقة بدلوها في الموضوع سواء كانت فلسفية أو فرقة صوفية أو كلامية، والنظرية التي نحاول عرضها الآن تعتبر رأيا في الموضوع لجماعة من الفلاسفة المسلمين بهرم الفكر اليوناني ووقعوا تحت تأثيره، فكان لذلك – كما سنرى- رأيهم تجسيدا لهذا التأثير القوي الخارق.
ويلاحظ أن الحلول التي قدمت في هذه المضمار تتخذ اتجاهين:
1) الاتجاه الأول :
وهو يرتضي صلة السببية أي أن الارتباط بين الله والعالم هو ارتباط المسبب بسببه والمعلول بعلته، ويقرر أيضا بوضوح أن العالم حادث ومخلوق لله تعالى بإرادته وعلمه وأنه تعالى ما فعل ذلك عبثا وأن خلقه للعالم من العدم مع التفسير العدم بالنفي المطلق الذي لا تشوبه أية شائبة من أنواع الوجود، وعلى هذا الاتجاه علماء الإسلام متكلمين وفقهاء وصوفية صادقين، مع ملاحظة أنه يؤخذ من آراء بعض المعتزلة رحمهم الله أنهم يرون أن العدم الذي توجد منه الأشياء لا يعني الفراغ المطلق، وإنما هو ذات يحتوي جواهر الأشياء قبل أن توجد، وهو منهم تأثر بالفلسفة اليونانية لا يقدح في سلامة معتمد مذهبهم مذهب المسلمين جميعا.
2) الاتجاه الثاني:
وهو لا يرتضي ك الأول صلة المعلولية، ويرى بدلها أن الارتباط متصل بين الله والعالم، ويضعون بين الوجودين وسائط عقلية يفترضونها وفق شكل معين كما سنرى- وهذا الاتجاه نصادفه عند فلاسفة اليونان الذين لم يقولوا بحدوث العالم بما فيهم أفلاطون المعروف بين المتكلمين أنه قال بحدوثه وهو أمر- كما يقول علي سامي النشار- لم يقل به أفلاطون أبدا، ولكنهم هكذا شاءوا فهمه كما شاءوا فهم أرسطو في صورة أفلاطون
وقد تبنى هذا الاتجاه مع اختلاف بسيط الفارابي وابن سينا في نظرياتهما التي هوجمت من طرف علماء الإسلام على اختلاف مشاربهم، وبينوا تهافتها ومصادمتها للإسلام في كثير من عناصرها.
نتيجة الاختيار
إن الفارابي وقد اختار الاتجاه الأخير وجد نفسه في موقف حرج، وأنه مطالب بتبرير اختياره تبريرا مقبولا من طرف الإسلام، فقام بجرأة كبيرة وأعلن بادئ ذي بدء أن الحكمة اليونانية – التي وصلته مشوهة- وكذلك درسها- لا تصادم الدين الإسلامي، ومن ذلك فإنه يمكن الجمع بينهما إذا ما فسرت الآيات القرآنية تفسيرا فلسفيا وفهمت إشاراته ورموزه! ذلك أن النظر حق والدين حق، ومحال أن يتضاد الحق مع حق آخر، لأن الحق واحد لا يتعدد، وليس بعد الحق إلا الضلال.
وانطلاقا من استنتاجه هذا الغير المسلم- لأنه نفسه لا يستطيع البرهنة على دلالة الأفكار التي اعتمدها على الحق دلالة قطعية حتى يلزم الغير- نقول انطلاقا من استنتاجه المتقدم يقوم بمحاولات كبيرة للتوفيق بين الدين الإسلامي والحكمة اليونانية، وفي سبيل ذلك سعى أولا للتوفيق بين الفلسفة اليونانية وإزالة ما فيها من تناقض، فجمع بين آراء الحكيم أفلاطون وأرسطو…
لقد كان الفارابي شغوفا بعمليات التوفيق بين الآراء، وما نظريته في الفيض الإلاهي إلا من هذا القبيل، فهي ترمي إلى إيجاد تفسير مشترك بين الحكمة اليونانية والإسلام لصلة الله بالعالم، ونكرر أن محاولته لم تلق أي نجاح يذكر في حظيرة الفكر الإسلامي الذي أوصد أبوابه دونها فتساقطت من تلقاء نفسها، وما عاشت إلا كفكرة مجردة عن كل تطبيق، وما كانت لتثير ما أثارته لولا أن أصحابها وحفنة من المغرضين أرادوا إقحامها في دنيا الإسلام وجعلوها منه، وبسبب ذلك هوجمت وانتقدت حتى من طرف ابن رشد أكبر المدافعين عن الفلسفة ورجالها.
الفيض عند الفارابي
سنحاول عرض النظرية مشيرين أثناء ذلك إلى ارتباطها بالفلسفة اليونانية وخاصة الأفلاطونية المحدثة مع التنبيه لبعض مآخذ الفكر الإسلامي على النظرية قدر المستطاع، ومعتذرين عن عدم الإشارة لمصادر البحث لغيابها عنا أثناء الكتابة وبالله التوفيق.
يؤمن الفارابي بصدق وكباقي المسلمين بالإله وبوحدانيته، ويشرح مفهومه للوحدانية بأن الله «واحد لا فرق بين ذاته وعقله… فهو العقل والعاقل والمعقول وهو العلم والعالم والمعلوم… ولا يدخل تحت تحديد من التحديدات التي تنطبق على الممكنات» وهو نفس المفهوم الذي نجده عند ابن سينا الذي يرى أنه تعالى «هو الوجود المحض والخير المحض والعلم المحض.. من غير أن يدل بكل واحد من هذه الألفاظ على معنى مفرد على حدة، لأن المعنى والذات شيء واحد…»، وهذا مفهوم يخالف مخالفة محمودة أرسطو الذي قرر أن واجبي الوجود هما الله والمادة، إلا أنه يخالف أيضا علماء الكلام في إثباتهم للصفات معتزلة وغيرهم مع فرق في درجة الخلاف، ويظهر أصحابه بمظهر من يسلم بقدم العالم، لأنهم – فيما سنرى- يقولون بأن الموجودات صادرة عن الله بسبب علمه لذاته، وحيث أن علمه هو نفس ذاته فعلمه قديم قدم ذاته، وبالتالي قدم ما يصدر عن علمه بطريق الفيض، وهي الموجودات أو على الٌل الموجود الأول بعد الله!
ويضطر الفارابي بسبب تفسيره السالف للوحدانية- ما دام يرفض صلة العلية- إلى تكلف الإجابة على التناقض الذي يسوقه إليه إيمانه بمسلمات فلسفية مثل إيمانه بأن الكثرة لا توجد من الواحد، والشيء لا يوجد من غير جنسه، والمتغير(العالم) لا يصدر عن غير المتغير(الله)… الخ، فكيف إذا يفسر الفارابي صدور العالم عن الله وهو واحد والعالم كثرة متغيرة والله واحد لا يتغير والعالم من غير جنسه؟، إن فيلسوفنا الكبير لا ينكر حقائق هذه الأشياء، ولكنه لا يسلم بما يبدو بينهما من تناقض، بل يؤكد أن مصدر الكل هو الله لكن بطريق غير مباشر، إلا أن شرحه لطريقة صدور الأشياء عن الله بواسطة يضطره لرفض الاتجاه الإسلامي القائم على تفسير السببية، أي أن صلة الله بالعالم هي صلة الصانع بمصنوعه، وبدلا من ذلك وانسجاما مع مسلماته يقدم كجواب للتساؤلات أعلاه- وكبديل لنظرية علماء الكلام نظرية « الفيض» المتناسقة، وهي ترتكز على أنه إذا كان الواحد لا تصدر عنه الكثرة فالواحد قد يصدر عن الواحد، وبعدها يعلن الفارابي أن الذي صدر عن الله مباشرة هو واحد أسماه بالعقل الأول أو المبدع الأول ، وعنه صدر العقل الثاني، وصدر عن الثاني عقل ثالث، وهكذا إلى العقل العاشر واهب الصور والذي صدر عنه العالم السفلي عالمنا الأرضي
إن الفارابي بهذا التحليل ملأ الفراغ أو العدم الذي سبق الكون بهذه العقول العشرة التي جعلها واسطة بين الله والعالم، ولم يتصور أن بينهما فراغا مطلقا وعدما محضا قد وجدت منه الكائنات، ومنحاه هذا- كما هو واضح- يخالف الفريق الذي يصرح بحدوث العالم من العدم المحض بعلم الله وإرادته.
أما كيفية صدور هذه العقول عن الله فانه يذهب إلى أن الأشياء تصدر عنه تعالى بمجرد علمه لذاته لا بإرادة أو قصد أو غرض.. الخ، وقد اختار هذا لينفي عن الله- فيما يعتقد- أن تكون له مصلحة أو غرض من وراء أفعاله أو يكون متغيرا… تعالى عن ذلك علوا كبيرا- ويعبر عن ذلك بقوله «إن وجود الأشياء عنه لا من جهة قصْدٍ يشبه قصودنا، ولا يكون له قصد الأشياء ولا صدرت الأشياء عنه على سبيل الطبع من دون أن يكون له معرفة ورضا بصدورها وحصولها، وإنما ظهرت الأشياء عنه لكونه عالما بذاته وأنه مبدأ الخير في الوجود على ما يجب أن يكون عليه، فإذًا علْمه علةٌ لوجود الشيء الذي يعلمه»، فبعلمه لذاته فاض عنه العقل الأول الذي يشتمل على نوعين من الكثرة هما:
أ- ثنائية: وهي آتية من تفرقته بين الماهية والوجود.
ب- ثلاثية: وهي آتية من الإدراكات الثلاثة المتخيلة للعقل، فهو:
1) يدرك المبدأ الذي فاض عنه، وهنا يفيض عنه بدوره عقلٌ ثانٍ خاص به
2) يدرك ذاته وأنها واجبة الوجود لعلة، وهنا تفيض نفس الفلك الأول
3) يدرك ذاته وأنها ممكنة الوجود، فيفيض عنه جسم الفلك الأول .
وعن العقل الثاني وبنفس التصور يفيض عقل ثالث وفلك ثان ونفس هذا الفلك، وعن العقل لثالث يفيض عقل رابع وفلك ثالث ونفس للفلك الثالث، وهكذا تتسلسل عملية فيض العقول والأفلاك والنفوس، إلى أن تصل إلى العقل العاشر أو العقل الفعال، وهو يدرك العقل الأول فتفيض عنه النفوس البشرية، ويدرك كل العقول قبله فتفيض صور الأشياء، وعند إدراكه لذاته تفيض عنه العناصر التي تنشأ عنها الأشياء.
والعقل العاشر هو الذي يتحكم في عالم الأرض عالم العناصر الأربعة، وعن طريقه تتصل العقول البشرية بعالم الغيب حيث تنكشف أمامها أسرار الكون وتطلع على الغيب وتتم سعادتها، وهي منزلة لا تصل إليها إلا العقول البشرية المستفادة، ويتم حصول العقل المستفاد إما:
أ- بطريق الحكمة والبحث والنظر، وهو طريق الحكماء كما يعتبر أحسن الطرق، وربما أخذ عليه البعض بسبب هذا أنه ينكر النبوة…
ب- الطريق الثاني للحصول على العقل المستفاد من العقل العاشر هو طريق النبوة بواسطة المخيلة القوية أو الإلهام…
والعقول المستفادة التي تستطيع الوصول إلى هذه المنزلة التي لا مطمح بعدها .. تأتي في طليعة العقول البشرية التي صنفها تصنيفا تصاعديا، على خلاف ترتيب العقول السماوية، مبتدئا بالعقل بالقوة عند الطفل منذ ولادته، ثم العقل بالفعل، ويحصل بالتعلم والإحساس، ثم العقل المستفاد، ويحصل بالتعمق في البحث والتفكير والممارسة عند الحكماء، وبالمخيلة القوية عند الأنبياء، فالعقل الإنساني يمر إذًا بالمراحل الثلاثة ليتصل بالعقول السماوية ويعلم أسرار الكون ويطلع على صور الأشياء قبل أن توجد.
تلك بإجمال نظرية الفيض الإلهي عند الفارابي الذي اعتقَد أنه بفضلها يستطيع دون كبير مشقة وضعَ العمامة على رأس أفلاطون وأرسطو وجعلنا نعتتقد أنهما من شيوخ الموحدين، وفي سبيل ذلك لا نراه يتردد في استخدام كلمات قاسية مثل القبح والاستنكار في حق من فهم عن أفلاطون أنه يقول بقدم العالم، مع أنه في واقع الأمر ما قال إلا بقدمه لو تحقق الفارابي كما فعل بعده ابن رشد.
وهذا التعصب الشديد لفلاسفة اليونان وتنزيههم حتى عن أقوالهم نلحظه لدى كثير من الفلاسفة المسلمين وأكرر عبارة الفلاسفة المسلمين، فهذا مثلا رأس المذهب الإشراقي السهروردي يجعلهم من جملة الأصفياء والأنبياء والأولياء كأغاديمون وسقراط وأفلاطون وأمثالهم… وذلك.. لتخلقهم بأخلاق الباري بتجردهم عن المادة من جميع الوجوه…!!
ولئن استطاع الفارابي أن يحل مشكلة المادة عند أرسطو ويظهر الفكر اليوناني في شكل أكثر تناسقا عما كان، فإنه في صميم هدفه لم ينجح مطلقا ولم يستطع التوفيق بين الفكر اليوناني والإسلامي، وعاد بعد جهد جهيد إلى النقطة التي انطلق منها وحاول نكرانها وهي نقطة تعارض الفكرين.
سبب الفشل:
إن سبب فشل الفارابي في محاولته التوفيقية يعود إلى الاختلاف – الذي لا يمكن تفاديه بين طبيعة الفكر الإسلامي واليوناني- فطبيعة الميتافيزيقيا الإسلامية مؤمنة وهادفة، كما رسمها القرآن الكريم وسنة النبي الأمين، ولا تسمح بفسح المجال للتلاعب بالأفكار أو الخوض في تصورات فوق طاقة العقل الإنساني… أما الميتافيزيقيا اليوناينة فملحدة بطبيعتها تعتقد بفناء الفرد وخلود النوع، ولا تدري من أمر البعث شيئا أو ما يستتبعه، ولا تتصور قوة تعلو على الوجود العقلي، ومن ثم لم تدرك فكرة الإله الذي يبدع الأشياء من العدم المحض وصرحت بقدم المادة، وهو تناقض حاول الفارابي تجنبه بالعقول المتخيلة فلم يفلح في مسعاه وظل الإسلام إسلاما والفلسفة اليونانية يونانية، ولن يكون الأمر على خلاف ذلك.
النظرية عند ابن سينا: ….’’’’’ انتظره
كذا في: