إنك بهذا الرَّتْقِ كأنك تقول أنت وابن تيمية : أنا احتج على العلو المكاني لله بفطرة اليهود والنصارى الفاسدة بشرط أن تكون سليمة….!!!!!!!
(6) متابعة المناظرة مع أخي الفاضل أبو رقية الدمشقية حول حديث الجارية.
https://www.facebook.com/groups/385445711569457/posts/871903769590313/
النقطة الثانية: تذكر أخي أبو رقية أن تقرير ابن تيمية ومن وافقه عن قضية إقرار البشر كافة بالعلو المكاني لله، إنما هو مقيد بمن سَلمت فطرتُهم من البشر، أي أنه ليس المراد أن كل البشر يُقرّون بذلك لأن من البشر من انحرفت فطرتهم.
وجوابي وبالله التوفيق هو أن تقييد ابن تيمية هنا للفطرة بقيد “السليمة” ينقض استدلال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بما يسميه دليل الفطرة، نعم ينقضه برمته، وذلك لأن ادعاء ابن تيمية بأن الناس أجمعين بمن فيهم الكفرة وأهل الملل والنحل الأخرى بمن فيهم اليهود والنصارى والمجوس وووووو…. كلهم يقرون بأن الله في السماء بحكم فطرتهم …. كما جاء في درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (6/ 194) نقلا عن ابن كلاب قوله: “لأنك لا تسأل أحدا من الناس عنه عربيا ولا عجميا ولا مؤمنا ولا كافرا فتقول : أين ربك ؟ إلا قال : ( في السماء ) إن أفصح أو أومأ بيده أو أشار بطرفه إذا كان لا يفصح لا يشير إلى غير ذلك من أرض ولا سهل ولا جبل ولا رأينا أحدا داعيا له إلا رافعا يديه إلى السماء”….!!!![1]
وكما سبق أن نقلت ما جاء في بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (1/ 427) نقلا عن عثمان الدارمي: وقد اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله في السماء وحدوده بذلك إلا المريسي الضال وأصحابه حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحنث قد عرفوه بذلك إذا حزب الصبي شيء يرفع يديه إلى ربه يدعوه في السماء دون ما سواها فكل أحد بالله تعالى وبمكانه أعلم من الجهمية.اهـ
أقول: ادعاء ابن تيمية هذا لا يستقيم قط مع قولك إن هذا محمول على من سلمت فطرته ولم تنحرف، لقول ابن تيمية نفسه: “.. ولهذا كان جميع العقلاء السالمي الفطرة يحكمون بموجب هده القضية الضرورية -يعني علو الله على خلقه- قبل أن يعلموا أن في الوجود من ينكرها ، ويخالفها..”؟!!!
ذلك لأن تقييد الفطرة بالسلمية هنا سوف يُخرج كلَّ أهل كل الديانات والملل والنحل الآخرى سوى الإسلام، لأن الإسلام وحده هو دين الفطرة، وأما الديانات الأخرى فليست من الفطرة في شيء بل هي تضاد الفطرة وفقا لحديث الفطرة نفسه ووفقا لتفسير ابن تيمية نفسه له، وتعالوا لنرجع إلى نص حديث الفطرة وتفسير ابن تيمية نفسه له .
روى الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا” مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ، ثُمَّ يَقُولُ : فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ “.
فنلاحظ أن هذا الحديث يصرّح فإن المولود يولد على الفطرة … والفطرة هنا هي دين الإسلام بحسب تفسير ابن تيمية[2] وآخرين، ولكن هل هذه الفطرة تبقى على حالها أم أنها تُغيّر؟ ومن ذا الذي يغيّرها؟
الجواب: نعم تُغيّر بفعل الأبوين غير المسلمين، فإن كانا يهوديين جَعلا ابنيهما يهوديا، وكذا إن كانا من النصار أو المجوس كما هو نص هذا الحديث، وتعالوا لنسمع تقرير ذلك من ابن تيمية نفسه حيث يقول في هذا الحديث في مجموع الفتاوى (4/ 243): ” ثم قال: فتمثيله صلى الله عليه وسلم بالبهيمة التي ولدت جمعاء؛ ثم جدعت” يبين أن أبويه غيّرا ما ولد عليه. اهـ
وقال أيضا في مجموع الفتاوى (8/ 48): فقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ضربه أن البهيمة تولد سليمة ثم تجدع والجدع كان مقدرا عليها؛ كذلك العبد يولد على الفطرة سليما ثم يفسد بالتهود والتنصير.اهـ
وجاء في درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (8/ 372): وكذلك قوله : [ فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] بيّن فيه أنهم يغيرون الفطرة التي فطر الناس عليها وأيضا فإنه شبه ذلك بالبهيمة التي تولد مجتمعة الخلق لا نقص فيه ثم تجدع بعد ذلك فعلم أن التغيير وارد على الفطرة السليمة التي ولد العبد عليها.اهـ
وقال أيضا في مجموع الفتاوى (10/ 135): فالله سبحانه فطر عباده على محبته وعبادته وحده؛ فإذا تركت الفطرة بلا فساد كان القلب عارفا بالله محبا له عابدا له وحده لكن تفسد فطرته من مرضه كأبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه وهذه كلها تغير فطرته التي فطره عليها وإن كانت بقضاء الله وقدره – كما يغير البدن بالجدع – ثم قد يعود إلى الفطرة إذا يسر الله تعالى لها من يسعى في إعادتها إلى الفطرة.اهـ (انظر الصورتين أدناه)
فتأمل قوله ” كذلك العبد يولد على الفطرة سليما ثم يفسد بالتهود والتنصير “، وقوله: ” بيّن فيه أنهم يغيرون الفطرة التي فطر الناس عليها “، وقوله: ” لكن تفسد فطرته من مرضه كأبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه وهذه كلها تغير فطرته التي فطره عليها ” ففي ذلك كلهم تصريح وإقرار من ابن تيمية ـ وفقا للحديث ـ بأن الفطر تُغيّر بفعل الأبوين، وأن الأبوين اليهوديين أو النصرانيين ـ وغيرهما من أهل الملل الأخرى سوى الإسلام ـ يغيران ويُفسدان فطرةَ ابنيهما حين يلقنانه اليهوديةَ أو النصرانية أو أي ملة أخرى سوى الإسلام …. أي أن اليهود والنصارى والمجوس وغيرها من الملل والنحلل الأخرى سوى الإسلام ليسوا على الفطرة السليمة بل فسدت فطرتهم بنص الحديث السابق وبإقرار ابن تيمية … فكيف بعد هذا كله يستدل ابن تيمية بفطرة أهل هذه الديانات والملل والنحل على ثبوت العلو المكاني لله استدلالا بالفطرة الفاسدة لهؤلاء…؟!!! وكيف تحاول أن تُصلح وترتِق هذا يا أخي الفاضل أبا رقية بأن ذلك مقيد بالفطرة السليمة لهؤلاء كما صرح ابن تيمية بذلك في موضع آخر…؟ إنك بهذا الرَّتْقِ كأنك تقول أنت وابن تيمية : أنا احتج بفطرة اليهود والنصارى الفاسدة ـ كما اعترف بذلك ابن تيمية في قوله السابق ” لكن تفسد فطرته من مرضه كأبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ” ـ بشرط أن تكون سليمة….!!!!!!!
ولمزيد من البيان أقول: إن حديث الفطرة ـ الذي لا يفتأ ابن تيمية يكرره ـ مصرح بأن هذه الديانات التي يستدل بفطرة أهلها هم أصلا ليسوا على الفطرة السليمة بل فطرتهم تغيرت ونكست وفسدت بفعل الأبوين، وهذا بإقرار ابن تيمية كما سبق؛ فهل يغيّر من الأمر شيئا تقييد ابن تيمية للفطرة بقيد “السليمة”؟!!!!! كما أن هذا التقييد سيكون تناقضا صارخا كما سبق بيانه؟!!!
أصلا هل هناك أحد من النصارى أو اليهود أو الملل الأخرى سوى الإسلام فطرتُه سليمة بعد أن تهود أو تنصر أو نحو ذلك بفعل أبويه بنص الحديث السابق، وبإقرار ابن تيمية بأن تهويد أو تنصير الأبوين للابن هو إفساد لفطرته كما قال ابن تيمية ” لكن تفسد فطرته من مرضه كأبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ” وقوله ” كذلك العبد يولد على الفطرة سليما ثم يفسد بالتهود والتنصير “؟!!!!!
والإشكال لا ينتهي هنا حتى لو سلّمتَ لي بأن الاستدلال على العلو المكاني لله بفطرة أهل الملل والنحل الأخرى: استدلال باطل لما سبق بيانه …. فإنك لو ذهبتَ تزعم أنك تحتج على العلو المكاني بفطرة المسلمين فقط دون غيرهم من أهل الملل والنحل الباطلة ….. فإنه سيرد عليه إشكال آخر….. وهو أنه من المعلوم أن المسلمين تفرقوا في العقيدة ـ وللأسف ـ وانقسموا إلى فرق كثيرة، وكل فرقة لها معتقدها الخاص بها التي تلقنها لأولادها وأتباعها ….وكل فرقة تزعم أن معتقدها هو الحق وما سواه باطل وربما تذهب أبعد من ذلك فتزعم أن عقيدتها هي التي تمليها الفطرة السليمة، وأن ما سواها هو انحراف عن الفطرة السليمة ومغير لها، تماما كما يزعم ابن تيمية هنا، فاسمع إليه وهو يقول في مجموع الفتاوى (5/ 260): وأما أعداء الرسل كالجهمية الفرعونية ونحوهم: فيريدون أن يغيروا فطرةَ الله ويوردون على الناس شبهات بكلمات مشتبهات لا يفهم كثير من الناس مقصودهم بها؛ ولا يحسن أن يجيبهم. وأصل ضلالتهم تكلمهم بكلمات مجملة؛ لا أصل لها في كتابه؛ ولا سنة رسوله؛ ولا قالها أحد من أئمة المسلمين كلفظ التحيز والجسم والجهة ونحو ذلك.اهـ
إذن فوفقا لكلام ابن تيمية هذا فإن فطرة المسلمين أيضا قابلة لأن تنحرف بفعل الأبوين المنحرفين في العقيدة، وهنا يفترض ابن تيمية أن الجهمية هم من انحرفت فطرتهم وأنهم هم من يريدون أن يغيروا هذه الفطرةَ ويحرفوها …..!!!!
ولكن ما أنكرتَ أن يقول لك خصمك: بل المجسمة هم من يريدون أن يغيروا فطرةَ المسلمين ….؟!!!
وحينها سندخل في جدل بيزنطي لا ينتهي حول من هم الجهمية؟ ومن هم المجسمة؟ ومن هو ذو الفطرة السلمية، ومن هو ذو الفطرة السقيمة؟!! وكلٌ سيصادر على المطلوب ويدعي أن فطرته هي السليمة المستقيمة، وأن فطرة خصمه هي السقيمة المنحرفة … وما أسهل هذا الادعاء حينئذ على أي من الطرفين …. وهذا كله عبث ومراء وجدال بالباطل حتى نرجع إلى الاستدلال بالكتاب والسنة والبراهين العقلية، ونضع دليل الفطرة جانبا!!!!
طبعا هذا كله إن سلّمنا أصلا بوجود دليل اسمه دليل الفطرة وأنه حجة في العقائد، وإلا فلا نسلم أصلا بهذا الدليل برمته، ولا نسلّم أيضا أن كلمة الفطرة الواردة في الكتاب والسنة هي بهذا المعنى الذي يريده ابن تيمية ، وليس هنا موضع هذا الكلام ولبسطه موضع آخر.
وهكذا نرى أن تقييد ابن تيمية للفطرة بالفطرة السليمة لا يفيده شيئا بل سيبطل استدلاله بالفطرة برمتها لما سبق بيانه. والله الموفق.
النقطة الثالثة والأخيرة: أنك وعدتني بإثبات قاعدة وهي … انتظره.
وانظر السابق: https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/869581816489175/
[1] وقال ابن قيصر الأفغاني في كتابه "عداء الماتريدية للعقيدة السلفية تحت عنوان خروج الماتريدية على إجماع جميع بني آدم: إن الماتريدية وأمثالهم وكل من نفى "علو" الله تعالى على خلقه من جميع طوائف المعطلة قديماً وحديثاً قد خالفوا إجماع جميع بني آدم على "علو الله تعالى" فإن جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين على إثبات علو الله سبحانه وتعالى....إلى أن يقول: واتفقت بذلك كلمة المسلمين والكافرين، وكل عاقل من مسلم وكافر، وجميع بني آدم، وعلى ذلك إجماع الأولين والأخرين، العالمين منهم والجاهلين، وكل من مضى ومن غير، حتى فرعون ونمرود، وعليه فطرة المسلمين علمائهم وجهالهم، أحرارهم ومماليكهم، ذكرانهم وإناثهم، بالغيهم وأطفالهم.
وانظر المزيد من نصوص ابن تيمية وأتباعه على نقلهم لإجماع الخلق كافة على اعتقادهم العلو المكاني ، http://walidebnsalah.blogspot.com.tr/2015/10/1_18.html
[2] جاء في درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (8/ 361): قلت : أحمد لم يذكر العهد الأول وإنما قال : الفطرة الأولى التي فطر الناس عليها وهي الدين وقد قال في غير هذا موضع : إن الكافر إذا مات أبواه أو أحدهما حكم بإسلامه؛ واستدل بهذا الحديث : كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، فدل على أنه فسر الحديث : بأنه يولد على فطرة الإسلام كما جاء ذلك مصرحا به في الحديث : ولو لم يكن كذلك لما صح استدلاله بالحديث.اهـ