عقيدةأهل السنة
صفة_الاستواء
س: ما هي المعاني الجليلة التي فهمها أيمة التفسير المنزهة لله تعالى عن معاني الجسمية وسمات المحدثات من صفة الاستواء في حقه تبارك وتعالى؟.
ج: قال العلامة المفسر محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره لقوله تعالى: ?إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين? [الأعراف:54] ما نصه: ((والاستواء حقيقته الاعتدال، والذي يؤخذ من كلام المحققين من علماء اللغة والمفسرين أنه حقيقة في الارتفاع والاعتلاء، كما في قوله تعالى في صفة جبريل: ?فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى? [النجم:6 – 8].
والاستواء له معان متفرعة عن حقيقته، أشهرها القصد والاعتلاء، وقد التزم هذا اللفظ في القرآن مسندا إلى ضمير الجلالة عند الإخبار عن أحوال سماوية، كما في هذا الآية. ونظائرها سبع آيات من القرآن: هنا، وفي يونس، والرعد، وطه، والفرقان، وألم السجدة، والحديد، وفصلت. فظهر لي أن لهذا الفعل خصوصية في كلام العرب كان بسببها أجدر بالدلالة على المعنى المراد تبليغه مجملا مما يليق بصفات الله ويقرب إلى الأفهام معنى عظمته، ولذلك اختير في هذه الآيات دون غيره من الأفعال التي فسره بها المفسرون.
فالاستواء يعبر عن شأن عظيم من شؤون عظمة الخالق تعالى، اختير التعبير به على طريق الاستعارة والتمثيل: لأن معناه أقرب معاني المواد العربية إلى المعنى المعبر عنه من شؤونه تعالى، فإن الله لما أراد تعليم معان من عالم الغيب لم يكن يتأتى ذلك في اللغة إلا بأمثلة معلومة من عالم الشهادة، فلم يكن بد من التعبير عن المعاني المغيبة بعبارات تقربها مما يعبر به عن عالم الشهادة، ولذلك يكثر في القرآن ذكر الاستعارات التمثيلية والتخييلية في مثل هذا.
وقد كان السلف يتلقون أمثالها بلا بحث ولا سؤال لأنهم علموا المقصود الإجمالي منها فاقتنعوا بالمعنى مجملا، ويسمون أمثالها بالمتشابهات، ثم لما ظهر عصر ابتداء البحث كانوا إذا سئلوا عن هذه الآية يقولون: استوى الله على العرش ولا نعرف لذلك كيفا، وقد بينت أن مثل هذا من القسم الثاني من المتشابه عند قوله تعالى: ?وأخر متشابهات? في سورة [آل عمران:7]، فكانوا يأبون تأويلها. وقد حكى عياض في “المدارك” عن سفيان بن عيينة أنه قال: سأل رجل مالكا فقال: الرحمان على العرش استوى. كيف استوى يا أبا عبد الله؟ فسكت مالك مليا حتى علاه الرحضاء ثم سري عنه، فقال: “الاستواء معلوم، والكيف غير معقول، والسؤال عن هذا بدعة، والإيمان به واجب، وإني لأظنك ضالا”، واشتهر هذا عن مالك في روايات كثيرة، وفي بعضها أنه قال لمن سأله: “وأظنك رجل سوء أخرجوه عني” وأنه قال: “والسؤال عنه بدعة”. وعن سفيان الثوري أنه سئل عنها: ” فقال: فعل الله فعلا في العرش سماه استواء”. قد تأوله المتأخرون من الأشاعرة تأويلات، أحسنها: ما جنح إليه إمام الحرمين أن المراد بالاستواء الاستيلاء بقرينة تعديته بحرف “على”، وأنشدوا على وجه الاستيناس لذلك قول الأخطل:
قد استوى بشر على العراق … بغير سيف ودم مهراق
وأراه بعيدا، لأن العرش ما هو إلا من مخلوقاته فلا وجه للإخبار باستيلائه عليه، مع احتمال أن يكون الأخطل قد انتزعه من هذه الآية، وقد قال أهل اللغة: إن معانيه تختلف باختلاف تعديته بـ: “على” أو بـ: “إلى”، قال البخاري، عن مجاهد: “استوى”: علا على العرش، وعن أبي العالية: “استوى إلى السماء”: ارتفع فسوى خلقهن.
وأحسب أن استعارته تختلف بقرينة الحرف الذي يعدى به فعله، فإن عدي بحرف “على” كما في هذه الآية ونظائرها فهو مستعار من معنى الاعتلاء، مستعمل في اعتلاء مجازي يدل على معنى التمكن، فيحتمل أنه أريد منه التمثيل، وهو تمثيل شأن تصرفه تعالى بتدبير العوالم، ولذلك نجده بهذا التركيب في الآيات السبع واقعا عقب ذكر خلق السماوات والأرض، فالمعنى حينئذ: خلقها ثم هو يدبر أمورها تدبير الملك أمور مملكته مستويا على عرشه. ومما يقرب هذا المعنى قول النبيء – صلى الله عليه [وآله] وسلم -: “يقبض الله الأرض ويطوي السماوات يوم القيامة ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض”. ولذلك أيضا عقب هذا التركيب في مواقعه كلها بما فيه معنى التصرف كقوله هنا: ?يغشي الليل النهار? إلخ [الأعراف:54]، وقوله في سورة [يونس:3]: ?يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه?، وقوله في سورة [الرعد:2]: ?وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات?، وقوله في سورة [ألم السجدة:4، 5]: ?ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الأمر من السماء إلى الأرض?، وكمال هذا التمثيل يقتضي أن يكون كل جزء من أجزاء الهيئة الممثلة مشبها بجزء من أجزاء الهيئة الممثل بها، فيقتضي أن يكون ثمة موجود من أجزاء الهيئة الممثلة مشابها لعرش الملك في العظمة، وكونه مصدر التدبير والتصرف الإلهي يفيض على العوالم قوى تدبيرها. وقد دلت الآثار الصحيحة من أقوال الرسول -عليه الصلاة والسلام- على وجود هذا المخلوق العظيم المسمى بالعرش كما سنبينه.
فأما إذا عدي فعل الاستواء بحرف اللام فهو مستعار من معنى القصد والتوجه إلى معنى تعلق الإرادة، كما في قوله: ?ثم استوى إلى السماء? [البقرة:29]. وقد نحا صاحب “الكشاف” نحوا من هذا المعنى، إلا أنه سلك به طريقة الكناية عن الملك: يقولون استوى فلان على العرش يريدون ملك.
والعرش حقيقته الكرسي المرتفع الذي يجلس عليه الملك، قال تعالى: ?ولها عرش عظيم? [النمل:23] وقال: ?ورفع أبويه على العرش? [يوسف:100]، وهو في هذه الآية ونظائرها مستعمل جزءا من التشبيه المركب، ومن بداعة هذا التشبيه أن كان كل جزء من أجزاء الهيئة المشبهة مماثلا لجزء من أجزاء الهيئة المشبه بها، وذلك أكمل التمثيل في البلاغة العربية، كما قدمته آنفا. وإذ قد كان هذا التمثيل مقصودا لتقريب شأن من شؤون عظمة ملك الله بحال هيئة من الهيئات المتعارفة، ناسب أن يشتمل على ما هو شعار أعظم المدبرين للأمور المتعارفة أعني الملوك، وذلك شعار العرش الذي من حوله تصدر تصرفات الملك، فإن تدبير الله لمخلوقاته بأمر التكوين يكون صدوره بواسطة الملائكة، وقد بين القرآن عمل بعضهم مثل جبريل – عليه السلام – وملك الموت، وبينت السنة بعضها: فذكرت ملك الجبال، وملك الرياح، والملك الذي يباشر تكوين الجنين، ويكتب رزقه وأجله وعاقبته، وكذلك أشار القرآن إلى أن من الموجودات العلوية موجودا منوها به سماه العرش ذكره القرآن في آيات كثيرة. ولما ذكر خلق السماوات والأرض وذكر العرش ذكره بما يشعر بأنه موجود قبل هذا الخلق. وبينت السنة أن العرش أعظم من السماوات وما فيهن، من ذلك حديث عمران بن حصين أن النبيء – صلى الله عليه [وآله] وسلم – قال: “كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض” وحديث أبي هريرة عن رسول الله – صلى الله عليه [وآله] وسلم – أنه قال في حديث طويل: “فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمان ومنه تفجر أنهار الجنة” وقد قيل إن العرش هو الكرسي وأنه المراد في قوله تعالى: ?وسع كرسيه السماوات والأرض? كما تقدم الكلام عليه في سورة] البقرة:255].
وقد دلت “ثم” في قوله: ?ثم استوى على العرش? [الأعراف:54] على التراخي الرتبي أي: وأعظم من خلق السماوات والأرض استواءه على العرش، تنبيها على أن خلق السماوات والأرض لم يحدث تغييرا في تصرفات الله بزيادة ولا نقصان، ولذلك ذكر الاستواء على العرش عقب ذكر خلق السماوات والأرض في آيات كثيرة، ولعل المقصد من ذلك إبطال ما يقوله اليهود: إن الله استراح في اليوم السابع! فهو كالمقصد من قوله تعالى: ?ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب? [ق:38])) (1).
(1) “تفسير التحرير والتنوير” الجزء: 18، القسم: الثاني، ص: 162 إلى 166، الدار التونسية للنشر: 1984 م.