من عجائب النابتة -ولا نهاية لعجائبهم-: ما اشتهر عن كبار مشايخهم ومرجعياتهم المعاصرة التي ليس بعدها مرجعية عندهم في زماننا= من الفتوى بكفر من لا يستيقظ لصلاة الفجر وقد نام قبلها مستغرقا الوقت، ولم يضبط منبهه مثلا!
وهذه الفتوى التكفيرية التي ينبني عليها كفر مئات ملايين المسلمين= ظلمات بعضها فوق بعض، وكم بني عليها من فساد وخراب للبيوت وقطع للأرحام!
فإذا عدينا عن تكفير تارك الصلاة بإطلاق الذي هو مخالف للمذاهب الأربعة، حتى الحنابلة الذين يكفرون بقيود معروفة=
فإن تكفير النائم عن الصلاة في هذه الصورة= ضلال مبين لم يقل به عالم أصلا!
بل نصوص كثير من فقهاء المذاهب الأربعة على عدم تحريم ذلك أصلا!
وحتى ابن تيمية فقد ذكر الكراهة فقط، فقال: “إذا نام قبل العشاء ولم يوكل به من يوقظه= كره له ذلك؛ لأنه يخاف أن يدوم النوم فيفضي إلى فوت الوقت أو فوت الجماعة”.
وهذه المسألة كنت أتندر بها على قول هؤلاء فأقول لبعض من سألني: فيها قولان: قول بالجواز (بالمعنى الأعم)، وقول بالكفر!
ولله في خلقه شؤون.
نقل العلامة العدوي عن العلامة الأجهوري رحمهما الله قوله: “يجوز للإنسان أن ينام بالليل وإن جوز -أي: اعتقد أو ظن- أن نومه يبقى حتى يخرج وقت صلاة الصبح؛ إذ لا يترك أمرا جائزا لشيء لم يجب عليه، كما نقله الباجي عن الأصحاب.
وأما النوم بعد دخول الوقت: فإن علم أو ظن أنه يبقى حتى يخرج الوقت= فإنه لا يجوز. انتهى. أي: ما لم يوكل من يوقظه ممن يثق به. ومفاده: أنه لو شك في الخروج= فإنه يجوز له”.
وقال العلامة الدردير رحمه الله: “ولا يحرم النوم قبل الوقت ولو علم استغراقه الوقت، بخلافه بعد دخول الوقت إن ظن الاستغراق لآخر الاختياري”.
وللجمل من الشافعية نحوه، وخالفه بعض الشافعية.
وسيأتي بعض كلام الحنابلة إن شاء الله.
وأما كلام الحنابلة في هذه المسألة؛ فمنه:
ما صرح به الشيخ في شرح العمدة من الكراهة فحسب، فقال: “إذا نام قبل العشاء ولم يوكل به من يوقظه= كره له ذلك؛ لأنه يخاف أن يدوم النوم فيفضي إلى فوت الوقت أو فوت الجماعة”.
وقال في المنتهى: (ويلزم إعلام نائم بدخول وقتها مع ضيقه).
قال العلامة البهوتي: “وظاهره: ولو نام قبل دخوله”.
وفيه: أن الوجوب إنما هو على المستيقظ عنده أن يعلمه، وليس يجب على النائم قبل الوقت أن يأخذ أسباب الاستيقاظ، ولا أن لا ينام قبل الوقت لخشيته استغراق الوقت بالنوم.
ويؤيده قول البهوتي بعد ذلك: عند قول الماتن: (ولا يجوز لمن لزمته: تأخيرها أو بعضها عن وقت الجواز ذاكرا قادرا على فعلها)= قال البهوتي: “بخلاف نحو نائم”.
وقال عثمان في حاشيته: إذا نام بعد دخول الوقت وظن أنه لا يفيق إلا بعد خروج الوقت= فإنه يحرم عليه.
ومفهومه: عدم التحريم لو كان ذلك قبل الوقت.
ومما يدل على ذلك: قولهم بكراهة النوم قبل العشاء.
فعمومه يقتضي أن الكراهة تشمل من نام قبلها ولو علم أنه لا يستيقظ لها، ويوضحه قول البهوتي في شرح المنتهى: “ولو كان له من يوقظه”، فإنه يدل أن من ليس له من يوقظه أولى بالدخول.
وكذلك فقد ذكروا في مسألة السفر قبل الجمعة في يومها كراهته بعد الفجر وقبل الزوال، وحرمته بعد الزوال إن لم يصلها في الطريق.
وعللوا الكراهة في الأولى بعدم وجوبها، مع جواز فعلها هذا الوقت، فكذلك هنا من باب أولى؛ لأنه لم يخاطَب بها أصلا حين نام إذ لم يدخل وقتها، ورُفع عنه القلم وقت نومه.
التلغرام: الرواق المنهجي والحنبلي( بإشراف الشيخ محمد عبد الواحد الأزهري الحنبلي).