أدب ومُلح وطرائف

حول عبارة “وليس لنا إلى غير الله تعالى حاجة ولا مذهب” (مقال قيم لشيخنا د. سعيد فودة حفظه الله)

رأيت هذه العبارة أول ما رأيتها في كلام الإمام الجويني في بعض كتبه، من قبل حوالي ثلاثين سنة لما كنت في ريعان الصبا، وقد أعجبتني وراقت لي، واتخذتها توقيعا لي في كتب ومقالاتي، ثم غيرت فيها كلمة أو كلمتين، بعد ذلك وأبقيت النظم والأصل على ما كان ومن هنا صحت نسبتي إياها للجويني فكلامه كان أصل مأخذي لها…

وقد سألني بعض الناس عن هذه العبارة من أين مصدرها ومن أين أخذتها، وذلك منذ حوالي 14 عاما وذلك في عام 2006 فأخبرته أن أصل هذه العبارة أخذناها من كلام للإمام الجويني كنت قد قرأته قبل ذلك الزمان في بعض كتب الجويني، فأعجبتني واتخذتها شعارا لي، وأن بعض الإخوة آنذاك كان قد سأل عن العبارة أنها كانت (ليس وراء) فلم غيرتها أنا إلى (ليس لنا إلى غير الله)، فقلت له آنئذ: كلتاهما تؤدي المعنى نفسه، والغرض يقع بهما.

وهذا هو الرابط لمن أراد مراجعة الحوار القديم الذي حصل مع بعض الإخوة في عام 2006م في منتدى الأصلين:

http://www.aslein.net/showthread.php?t=3898

وقد كنت استعملت صيغة (وليس لنا وراء الله تعالى مقصد ولا غاية) في ختام كتاب الكاشف الصغير توقيعاً، ذلك الكتاب الذي كشفت فيه مذهب ابن تيمية البدعي المنحرف عن نهج أهل السنة، ولم أكن أدري أن هذه العبارة أو أن ذلك الكتاب سيلهب أيضاً جوف بعض المنتسبين لأهل السنة لغرض في نفوسهم.

ثم بدا لي بعد ذلك أن أغيرها إلى الصيغة (وليس لنا إلى غير الله تعالى حاجة ولا مذهب) ربما لأنه ظهر لي أن كلمة [غير] أوضح في الدلالة، وربما لأنه ورد في عمدة الحفاظ :”قوله: {ويكفرون بما وراءه} [البقرة: 91] أي سواه؛ قاله الفراء”، فكلمة وراء ههنا تم تفسيرها بمعنى السوى، والسوى هو الغير، فربما اخترت كلمة غير لذلك المعنى، وربما تركت ذلك التعبير لأن كلمة وراء في ذلك الموضع قد تكون مجازا، كما قال في التحرير والتنوير: “وهو مجاز ؛ لأنّ الوراء هو الجهة التي هي جهة ظهر ما يضاف إليه”، وذكر ذلك غيره أيضا، فربما فضلت وقتها الحقيقة على المجاز مع ظهوره، وهذا جائز لا إشكال فيه، وربما انتقلت من كلمة [وراء] إلى كلمة [غير] لأن كلمة غير واردة أيضا في بعض الأحاديث النبوي في حق الله تعالى وهي قول النبي عليه الصلاة والسلام :”كان الله ولم يكن شيء غيره” ، وربما كان ذلك لأمر آخر وقتها لا أذكره الآن، كل ذلك محتمل.

ومهما كان السبب الذي غيرت لأجله العبارة وبدلت فيها، فهذا أمر مشروع لا يصح أن يتسبب في ظنون السوء في بعض الصدور، فأنا عندما أنظر في العبارتين لا أرى بينهما فارقا كبيراً في المعنى. وقد سألني عن ذلك بعضهم في منتدى الأصلين فقلت وقتها كل منهما تؤدي المعنى المقصود. لا يوجد وراء استعمالي لهذا العبارة أو التوقيع أبعد من ذلك…والرجل قد يغير توقيعه للكتب لأمر يبدو لها، وقد يعدل فيها، وهذا كله معلوم، كما قد يثبت عليها.

وقد وردت هذه العبارة أو أصلها في كلام الإمام الجويني في غير موضع منها:

وردت هذه العبارة في كتاب البرهان، قال الجويني:”…ولكنه مشعر بتبليغ قول الله تعالى حقا صدقا وهو المطلوب المقصود وليس وراء الله للمرء مذهب…”.

ووردت في كتاب غياث الأمم للإمام الجويني أيضا قال: ” فنقول مستمسكين بحبل الله المتين وفضله المبين وهو المعتصم في كل مطلب وليس وراء الله للمرء مذهب ثبوت الاختيار يستدعي تقديم إثبات الإجماع على منكريه”.

وقد وردت بهذه الصيغة أيضا في كتاب الجويني نهاية المطلب في بعض المواضع.

وقد وردت أصول هذه العبارة وأمثالها بصيغ كثيرة في بعض الأحاديث وفي كلام البلغاء وكلام العلماء أيضاً:

وردت في شعر النابغة على النحو التالي:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً … وليس وراء الله للمرء مذهب

وبعض المتهورين يحسب أن ورودها في شعر النابغة من شانه أن يزري بمن يستعملها في الإسلام أو يتخذها شعاراً، وهذا لا يلتفت إليه ولا يعبأ به، بل لا ينبغي أن يخاطب أصلاً. وسيأتي قريبا أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل عن هذا البيت على وجه الخصوص إعجابا به، فضلا عن مديح علماء البلاغة به وجريه على الألسن.

واختلفت روايات بيت النابغة: فحينا رويت كلمة [مذهب]، وحينا [مطلب]. ولا فرق بينهما كبيرا من الناحية اللغوية كثيراً فكلتاهما تؤدي الغرض المطلوب، هذا كله ظاهر.

وقد وردت هذه العبارة في صيغ مختلفة في مواضع شتى، ولنذكر بعضا من تلك الصيغ:

وليس وراء الله للمرء مذهب

وليس وراء الله للمرء مطلب

وليس وراء الله للمرء مرمى

وليس وراء الله للمرء مهرب

وليس وراء الله للمرء منتهى

وليس وراء الله للعبد مطمع

وجاء: سمع الله لمن دعا ليس من الله ملجأ ولا وراء الله ملتجأ

وكلها يراد منها: لا مقصد تًرْمَى إليه الآمال ويوجه نحوه الرجاء إلا الله تعالى، أي حسبي الله ونعم والكيل، وليس وراء الله شيء يقصد ويُعبد ويُتَأله”.

ولنورد الآن بعض هذه النصوص التي اشتملت على الصيغ السابقة:

وفي بعض الكتب: قال محمد بن أبان: بينما رجل يصلي في المسجد إذا هو بشيء إلى جنبه فجفل منه فقال: ليس عليك مني بأس إنما جئتك في الله تعالى ائت عروة فسله: ما الذي يتعوذه؟ يعني من إبليس الأباليس قال: قل آمنت بالله العظيم وحده وكفرت بالجبت والطاغوت واعتصمت بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم حسبي الله وكفى سمع الله لمن دعا ( ليس وراء الله منتهى)….

وفي موطأ مالك رحمه الله تعالى: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى، عَنْ مَالِكٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ كَمَا يَنْبَغِي، الَّذِي لاَ يَعْجَلُ شَيْءٌ أَنَاهُ وَقَدَّرَهُ، حَسْبِىَ اللَّهُ وَكَفَى، سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ دَعَا، لَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ مَرْمَى.

ومرمى هنا أي: غاية يرمى إليها أي يقصد بدعاء أو أمل أو رجاء. أو: مقْصِد تُرْمَى إليه الآمَالُ ويوجَّه نحوَه الرَّجاءُ. والمرْمَى: موضع الرمي، تشبيها بالهدَف الذي تُرْمى إليه السّهام

وورد في بعض صيغ الأدعية: وليقل بسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله حسبي الله توكلت على الله ما شاء الله لا يأتي بالخيرات إلا الله ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله حسبي الله وكفى سمع الله لمن دعا ( ليس وراء الله منتهى ) ولا دون الله ملجأ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز. [وأورد الإمام الغزالي هذا في الإحياء]

وورد في بعض الكتب: أراد جعفر بن محمد الحج، فمنعه المنصور، فقال: الحمد لله الكافي، سبحان الله الأعلى، حسبي الله وكفى، ليس من الله منجى، ما شاء الله قضى، ليس وراء الله منتهى، توكلت على الله ربي وربكم، ما من دابة إلا وهو آخذ بناصيتها، إن ربي على سراط مستقيم…الخ [الفرج بعد الشدة]

وفي كتاب الاستذكار لابن عبد البر عن مالك أنه بلغه مالك أنه بلغه أنه كان يقال الحمد لله الذي خلق كل شيء كما ينبغي الذي لا يعجل شيء أناه وقدره حسبي الله وكفى سمع الله لمن دعا (ليس وراء الله مرمى).

وفي الاستذكار أيضا: عن عبد الرحمن بن عوف قال قال رسول الله يا أبا عبد الرحمن ألا أعلمك عوذة كان إبراهيم يعوذ بها بنيه إسماعيل وإسحاق وأنا أعوذ بها الحسن والحسين قال قلت بلى يا رسول الله قال كفى بسمع الله داعيا لمن دعاه لا مرمى وراء الله لرام

وفي الثقات لابن حبان: “يحيى بن يزيد قال سمعت الربيع بن أنس يقول من راعه شيء فليقل حسبي الله وكفى ليس وراء الله مرمى سمع الله لمن دعا”

وجاء في طبقات فحول الشعراء: أَن عمر بن الْخطاب سَأَلَ عَن بَيت النَّابِغَة

(حَلَفت فَلم أترك لنَفسك رِيبَة … وَلَيْسَ وَرَاء الله للمرء مَذْهَب)

وإنما سأل عنه إعجابا بمعناه البليغ، لا تنفيراً منه، ومع ذلك لم نكن نتخيل أن أحدا يدفعه التعصب وكراهيتُه بمُخالِفِه لأنْ يُزْرِيْ لأجل ذلك فقط بهذا البيت!! وعجباً من هذا الزمان..!؟

وجاء في تاريخ دمشق:

قال ربعي بن حراش: وفدنا إلى عمر بن الخطاب فقال: مَن الذي يقول:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً … وليس وراء الله للمرء مذهب

فلست بمستبقٍ أخاً لا تلمه … على شعثٍ أي الرجال المهذب

قالوا: النابغة.

وإنما سألهم عن ذلك لما اشتمل عليه البيت من معانٍ عالية.

وجاء في كتاب العمدة في محاسن الشعر: “وزعم أن حماد الراوية سئل: بأي شيء فضل النابغة؟ فقال: إن النابغة إن تمثلت ببيت من شعره اكتفيت به، مثل قوله:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة … وليس وراء الله للمرء مذهب

بل لو تمثلت بنصف بيت من شعره اكتفيت به، وهو قوله ليس وراء الله للمرء مذهب بل لو تمثلت بربع بيت من شعره اكتفيت به”.

وفي مختصر تاريخ دمشق: وفد على عبد الملك بن مروان. قال عمر بن المنتشر المرادي: وفدنا على عبد الملك بن مروان، فدخلنا عليه، فقام رجل فاعتذر من أمر وحلف عليه؛ فقال له عبد الملك: ما كنت حريّاً أن تفعل ولا تعتذر. ثم أقبل على أهل الشّام فقال: أيّكم يروي من اعتذار النابغة إلى النّعمان: من الطويل

حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً … وليس وراء الله مذهب

فلم يجد فيهم من يرويه، فأقبل عليّ، فقال: أترويه؟ قلت: نعم. فأنشدته القصيدة كلّها، فقال: هذا أشعر العرب.

وجاء في الفتوحات المكية لابن عربي الحاتمي:”… فيرميه بالحصاة السادسة وهو دليل افتقار النفس الكلية إلى الله من الوجه الخاص أيضاً فيصدّقه في الافتقار ولكن يقول له بل افتقارها إلى العقل الأول وهو القلم الأعلى الذي عنه انبعثت هذه النفس فيرميه بالحصاة السابعة وهو دليل افتقار العقل الأول إلى الله وليس وراء الله مرمى…”

وجاء في الفتوحات أيضا: “وعلم عند ذلك العارف ان تلك الأعيان مظاهر الحق فكان منتهاهم إليه وبدأهم منه وليس وراء الله مرمى فان قلت فالذات الغنية عن العالمين وراء الله قلنا ليس الأمر كما زعمت بل الله وراء الذات وليس وراء الله مرمى فان الذات متقدمة على المرتبة في كل شيء بما هي مرتبة لها فليس وراء الله مرمى فحصلوا من العلم بالله مالم يكن عندهم بالقصد الأول…”

وجاء في الفتوحات أيضاً: “…والدرس الرابع هو ما يلقيه من العلم الإلهي وما يجب ان يكون عليه هذا المفتقر إليه الذي هو الله سبحانه وما يستحيل ان ينعت به وما يجوز فعله في خلقه وما ثم درس خامس أصلاً لأنه ليس وراء الله مرمى غير ان كل نوع من انواع هذه العلوم ينقسم إلى علوم جزئية كثيرة يتسع المجال…”

وجاء في نظم الدرر: “{للطائفين} به الذين فعلهم فعل العارف بأنه ليس وراء الله مرمى ولا مهرب منه إلا إليه…”

وجاء في نظم الدرر أيضا: “{لا يأتيه الباطل} أي البين البطلان إيتان غلبة فيصير أو شيء منه باطلاً بيّنا ، ولما كان المراد تعميم النفي ،لا نفي العموم، أدخل الجار فقال : {من بين يديه} أي من جهة الظاهر مثل ما أمر أخبر به عما كان قبله {ولا من خلفه} من جهة العلم الباطن مثل علم ما لم يشتهر من الكائن والآتي سواء كان حكماً أو خبراً لأنه في غاية الحقية والصدق ، والحاصل أنه لا يأتيه من جهة من الجهات ، لأن ما قدام اوضح يكون ، وما خلف أخفى ما يكون ، فما بين ذلك من باب الأولى ، فالعبارة كناية عن ذلك لأن صفة الله لا وراء لها ولا أمام على الحقيقة ، ومثل ذلك ليس وراء الله مرمى، ولا دون الله منتهى، ونحوه مما تفهم العرب ومن علم لسانها المراد به دون لبس”.

وجاء في تفسير الرازي: “قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ «وَرَاءَ» بِمَعْنَى بَعْدَ. قَالَ الشَّاعِرُ:

وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبُ أَيْ وَلَيْسَ بَعْدَ اللَّهِ مَذْهَبٌ”.

خاتمة لهذه المقالة:

وإنما ذكرنا ذلك لأن بعض الناس -غفر الله لهم وطهر قلوبهم مما علق فيها- لوَوا عنق الكلام وحملوا هذه العبارة -التي اخترتها رمزا للالتزام بأوامر الله تعالى وعدم الحيد عنها لأجل خاطر إنسان أو لأجل الهوى- على غرض التسيب والتفلت من مذاهب أهل السنة، وزعموا أن من يقول بهذه الكلمة يتابع الوهابية المتفلتة من المذاهب في قولهم، أو أنها تكون مسوغا له للاعتراض على كل العلماء كيفما كان بلا رباط ولا أمان ولا قيد من دليل أو برهان، أو أنه عجب بالنفس أو غرور، أو نحو ذلك من معاني فاسدة، وزعموا مزاعم فاسدة، وزعموا أن الكلمة التي قلت أني قرأتها أصلا من كتب الجويني، واتخذتها لنفسي، لم أحتفظ بنظم الجويني لها، بل غيرتها، كما أسلفت آنفا، مع علمهم أني أنا من قلت ذلك ربما قبل أن يولدوا أو قبل أن يعرفوا اسم الجويني أصلا وربما قبل أن يقرأوا كتابا له أو يشموا رائحته.

وطاش بهم الخيال وطاشوا بأحلامهم أنهم وقعوا على شيء يرمونني به! وليس بشيء أصلاً، وإن هذا إلا زخرف القول غروراً.

ولا يخفى على العقلاء أن هذه الأوهام والظنون مما لا ينبغي بمن في قلبه مقدار ذرة من حكمة أن يقف عندها، أو يحتمل إرادتنا لها.

فأحببت أن أنير بصائرهم بهذه النبذة التي أردت أن لا تخلو من فائدة أدبية أو نقل غريب، أو تنبيه مفيد، فنقلت هذه النقول، وذكرت هذه القصة المثيرة بما اعتورها من الأوهام والقصور، بالإضافة إلى لفت النظر إلى هذه الأفهام الحائرة الجائرة. عازفا عن استئناف الكلام معهم بغير هذا النحو لما أنه لا يليق.

ونأمل أن يكون في هذه الحكاية موعظة. والله الكافي

وليس لنا إلى غير الله تعالى حاجة ولا مذهب ولا مطلب، ولا غاية ولا ملجأ وإليه المآب في يوم الحساب يوم يزول الستر عن بواطن النفوس وما اعتورت عليه الألباب، وتكشف النوايا والأعمال ليظهر ما يليق بها من حساب ثواب أو عقاب.

والحمد لله أولا وآخرا والصلاة والسلام على خير نبي بعثه الله تعالى وارتضاه وأمر بالتزام شرعه إلى يوم الحساب.

كتبه

الفقير إلى الله تعالى

سعيد فودة

وليس لنا إلى غير الله تعالى حاجة ولا مذهب

19-4-2020م

السابق
مَنْ خَدَعَنَا بِاللَّهِ انْخَدَعْنَا لَهُ
التالي
مقال حول بيت: أنا ابنُ جَلا وطلاّع الثنايا …متَى أضَعِ العِمامَةَ تَعرِفُوني