رابط هذه المناظرة على الفيس بوك:
متابعة المناظرة مع أخي الفاضل أبو رقية الدمشقية حول حديث الجارية[1]
أجيب هنا عن الكلام الأخير الذي علّق به الأخ الكريم أبو رقية على حديث الجارية فأقول وبالله التوفيق: أما اعتراضك على قولي بأن لفظ “أين الله..فقالت في السماء” هو “رواية مسلم” وتكراري لذلك[2]…
فجوابي هو أن قولي “رواية مسلم” لا يعني أن مسلما انفرد بها كما فهمتَ أخي أبو رقية، لأن النص على الشيء لا ينفي ما عداه كما هي القاعدة… لذلك لا أحد يَفهم من تخريج الحفّاظ لحديثٍ أنه عند مسلم أن مسلما انفرد به عن الحفاظ كاف…!!! نعم يُفهم منه انفراده عن البخاري فقط.
هذا أولا…. ثانيا: هبْ أن قولي “رواية مسلم” يُفهم منه أنّ مسلما انفرد بها، ولكني قد صرحتُ في موضع آخر بأنه قد أخرجها كثيرون سوى مسلم، فقلتُ في حالة سابقة “.. فمسلِمٌ لم يتفرد بهذا اللفظ وبهذا الحديث، بل أخرجه كثيرون غيره كالذين أشرتَ إلى بعضهم..” وأنت نفسك نقلتَ ذلك عني … والقاعدة أن المنطوق مقدَّم على المفهوم ، وبالتالي فمنطوق قولي الذي نقلتَه عني وهو ” فمسلِم لم يتفرد بهذا اللفظ وبهذا الحديث، بل أخرجه كثيرون ” مقدَّمٌ على المفهوم من قولي “رواية مسلم”….
هذا كله إن سلّمنا أن قولي “رواية مسلم” يُفهم منه أن مسلما انفرد بها ولم يخرجها أحد سواه …. وإلا فهذا غير مُسلّم أصلا … كيف؟ وكبار الحفاظ اعتادوا في تخاريجهم أنه إذا كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما اقتصروا غالبا على عزو الحديث لهما أو إلى أحدهما لا سيما إذ كان التخريج مختصرا …. وهذا ما أردتُه هنا وهو الاختصار، وإلا فليس من المعقول أن أكرر في كل مرة فأذكر كل من أخرج الحديث سوى مسلم …..!!! وإنما اكتفيت مرة واحدة بالقول بأن كثيرين أخرجوا حديث الجارية باللفظ الذي أخرجه مسلم….وفيما سوى ذلك اكتفيتُ بعزو الحديث إلى مسلم اختصارا … والمطلق يُحمل على المقيد…أي حين أطلقتُ بأن مسلما أخرجه فهذا محمول على ما قيدتُه في موضع آخر من أن مسلما وكثيرون أخرجوه بلفظ “أين الله؟ فقالت في السماء”.
وأما اعتراضك الثاني وقولك فيه ((فرواية “الأكثرية” لحديث الجارية موضوعها “..ليختبر إيمانها”، والأدلة الأخرى موضوعها “ما يجزئ في الدخول في الإسلام”، وما يجزئ في “الاختبار” أوسع مما يجزئ في “الدخول في الإسلام” كما لا يخفاك، وهذا واضح إن شاء الله)).اهـ
فعذرا منك أخي الكريم فإن هذا ليس بواضح ولا مُسلّم عندي، ولنقاشه موضع آخر … ولكن على التسليم به هنا فهو غير مغنٍ فيما نحن فيه لأنه لا يجيب عن الإشكال الذي طرحتُه من قبل … وهو أنه إذا كانت البشرية والناس كافّة بكفارهم ومؤمنيهم، بصغارهم وكبارهم يعتقدون ويقولون بأن الله في السماء، حسب ما يدعي ابن تيمية رحمه الله…. بل يدعي بأن الناس جميعا مفطرون منذ الولادة على هذه العقيدة وأنها عقيدة بدهية عند كل العقلاء….!!! وقد سبق أن نقلتُ نصوصَ ابن تيمية وأتباعه في ذلك[3] …. فإذا كان ذلك كذلك فكيف دلّ قول الجارية بأن الله في السماء حين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله ؟ كيف دل قولها هذا على أنها مؤمنة لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعتقها فإنها مؤمنة، حسب اللفظ الذي أخرجه مسلم وغيره… ؟!!!!
أي إذا كان المؤمن والكافر والصغير والكبير والبشرية جمعاء يقولون ويعتقدون بأن الله في السماء حسب ادعاء ابن تيمية فكيف يكون قول الجارية : بأن الله في السماء دليلا على إيمانها ….؟!!!!!!
وسواء قلنا بأن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية هو لاختبار إيمانها السابق أو لدخولها في الإسلام بداية… فالإشكال السابق يبقى قائما، فالأمر سيان كما هو ظاهر.
وهذا كله لو سلمتُ لك بقولك (((ما يجزئ في الدخول في الإسلام”، وما يجزئ في “الإختبار” أوسع مما يجزئ في “الدخول في الإسلام”))).اهـ وإلا فلا أسلّمه أصلا كما سبق حتى تقيم لي أدلة ناهضة عليه… وهذا له موضع آخر كما قلتُ آنفا.
وأما كلام النووي الذي نقلتَه وفوجئتَ به وهو قوله ” وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ، أَوْ إِلَّا مَلِكُ السَّمَاءِ، كَانَ مُؤْمِنًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ. وَلَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا سَاكِنُ السَّمَاءِ، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، وَكَذَا لَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ سَاكِنُ السَّمَاءِ ; لِأَنَّ السُّكُونَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى”.اهـ فغير مفيد فيما نحن فيه لأنه لا يجيب عن الإشكال السابق هذا أولا.
ثانيا: لأنني نصبتُ الخلافَ بين حديث الجارية بلفظ مسلم من جهة وبين الألفاظ الأخرى لحديث الجارية والأحاديث الأخرى التي فيها أن الشهادتين هي التي تُدخل في الإسلام من جهة أخرى…. ولم أنصبْ الخلافَ بين حديث الجارية بلفظ مسلم وبين أقوال الفقهاء حتى تأتيني بقول من قال منهم بأن من قال بأن الله في السماء كان مؤمنا….. لذلك أنا سقتُ كلامَ الإمامِ النووي في المرة السابقة في الحاشية فنبهتُ فيها على أن من العلماء من جعلوا بعضَ العبارات الأخرى تقوم مقامَ الشهادتين في دخول الإسلام … ولكن هذا يخالف مذهبَ ابنِ تيمية وأتباعه لأنه لا يجزئ عندهم في الدخول في الإسلام إلا قول لا إله إلا الله حصرا، وأنه لا تجزئ عبارة أخرى لا سيما ما يعبر به عن توحيد الربوبية مثل: لا خالق إلا الله، أو لا رازق إلا الله، فهذه العبارات وأمثالها لا تُدخل في الإسلام عندهم كما سبق أن نقلتُ عنهم ذلك[4] … ولكن النووي في نص في الموضع السابق ذاته أن ذلك يجزئ في الدخول في الإسلام فقال في روضة الطالبين للنووي (7/ 303): ولو قال: لا مالك إلا الله، أو لا رازق إلا الله، كان مؤمنا.اهـ وأنت نقلته أيضا.
وأما المثال الذي ضربتَه أخي وهو الجاريتان المجوسيتان وأن قاضيا لو سألهما ((“ليختبر إيمانهما” فقال: أين ربك! أين الله يا جارية؟ فأجابت الأولى وقالت: ربي هنا في الفانوس، وقالت الأخرى: بل ربنا الذي في السماء)) فهو مثال غير مستقيم أصلا … لأن المفروض أن كِلا الجاريتين سوف يجيبان القاضيَ بالقول: بأن الله في السماء … لما سبق بيانه وهو أن الناس أجمعين أكتعين أبصعين من جميع الملل والنحل ومن جميع الأعمار والأزمان والأمكنة يقولون بأن الله في السماء حسب ادعاء ابن تيمية وأتباعه كما سبق .
والحاصل أن ثمة إشكالا لم تجب عليه أخي الفاضل أبو رقية وهو أنه إذا كان الناس كلهم بمن فيهم الكفرة يقولون بأن الله في السماء فكيف صح أن تكون علامة الإيمان هو نفس القول المشترك بين المؤمنين والكفار وهو القول بأن الله في السماء وفقا لحديث الجارية؟!!!!
وهذا أظهرُ على أصل ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في تقسيمه للتوحيد إلى ربوبية وألوهية كما سبق بيانه بتوسع[5] .. وهو :أن من أصول ابن تيمية ـ وأتباعه ـ ، هو أن توحيد الألوهية ـ حسب تسميته ـ : هو الذي جاءت به الرسل عليهم السلام وهو الذي ينجّي المكلفَ يوم القيامة، وهو المعبّر عنه بشهادة التوحيد (لا إله إلا الله) فشهادة التوحيد هذه بهذه الصيغة هي الوحيدة التي تُدخل في الإسلام دون توحيد الربوبية المعبر عنه بصيغة “لا رب أو لا خالق إلا الله” ونحوها، بحجة أن هذه الصيغة الأخيرة وهي “لا رب أو لا خالق إلا الله” ونحوها كان يقولها ويقر بها المشركون ومع ذلك لم تُدخلهم في الإسلام…. وبناء على مذهب ابن تيمية هذا فإن القول بأن الله في السماء أيضا لا يُدخِل في الإسلام ولا حتى يصلح أن يكون علامة على أن قائلها مسلم[6] ….وذلك لنفس السبب السابق وهو أن المؤمن والمشرك وكل الناس يقولون بأن الله السماء كما سبق…. فكيف سيتميز لنا المؤمن من الكافر بمقولة : الله في السماء …طالما أنها مقولة مشتركة بينهما ؟!!!!
وهكذا يتبين لنا أن حديث الجارية ـ بلفظ مسلم ومن معه ـ مخالف لأصول ابن تيمية ومذهبه أكثر من مخالفته لمذهب الأشاعرة ومن معهم . والله الموفق.
========================================
[1] انظر السابق:
وانظر المناظرة من أولها وتعليقات الأخ أبي رقية ، على :
[2] حيث قال أخي أبو رقية (((أن الرواية واللفظ الذي تزعم أنه مضطرب لم يقع عند مسلم فقط، فليست هي “رواية مسلم” كما أراك تكرر، بل هي “رواية الأكثرية” وقد قلتَ: “.. فمسلِم لم يتفرد بهذا اللفظ وبهذا الحديث، بل أخرجه كثيرون غيره كالذين أشرتَ إلى بعضهم..” فما لي أراك تكرر كونها رواية مسلم!!)))
[3] فقد نقل ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل (6/ 194) عن ابن كلاب مقرا له قوله: “لأنك لا تسأل أحدا من الناس عنه عربيا ولا عجميا ولا مؤمنا ولا كافرا فتقول : أين ربك ؟ إلا قال : ( في السماء ) إن أفصح أو أومأ بيده أو أشار بطرفه إذا كان لا يفصح لا يشير إلى غير ذلك من أرض ولا سهل ولا جبل ولا رأينا أحدا داعيا له إلا رافعا يديه إلى السماء”.اهـ
وانظره في الصور (1، 2)، وانظر المزيد من نصوص ابن تيمية وأتباعه في نقلهم إجماع البشرية كافة على أن الله في السماء …على :
[4] فقد سبق أن نقلتُ عن أحد الوهابية وهو ابن قيصر الأفغاني في رسالته للدكتوراة وهي بعنوان جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية (1/ 200): أن كلمة الإسلام هي: ((لا إله إلا الله)) ؛ وأنه لا يمكن لأحد أن يدخل في دين الإسلام إلا بكلمة:
((لا إله إلا الله)) .
وأما غيرها من الكلمات مثل:
1 – ((لا رب إلا الله)) .
2 – ((لا خالق إلا الله)) .
3 – ((لا رازق إلا الله)) .
4 – ((لا موجود إلا الله)) .
5 – ((لا مقصود إلا الله)) .
6 – ((الله موجود)) .
7 – ((الله إله)) .
ونحو ذلك من الكلمات.
فلا يدخل بها المرء في الإسلام البتة؛ لأن هذه الكلمات لا تفرق بين الإسلام والكفر؛ وليست هي مفترق الطرق بين المسلمين والكافرين؛ لأن جميع الكفار يعترفون بهذه الكلمات.اهـ
وانظر الصور: 3، 4، 5.
[5] انظر ذلك على:
[6] هذا على التسليم جدلا بأن ثمة فرقا بين العبارات التي تُدخِل في الإسلام وبين العبارات التي تشير إلى أن صاحبها مسلم ، وأنه يُقبل في الثانية ما لا يقبل في الأولى كما يدعي الأخ أبو رقية.
السلام عليكم كيف حالكم
هل لك مناظرات حول مسألة الاستغاثة و العبادة