واعترض السلفية فقالوا: التمسك بالعمومات مع الغفلة عن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم بفعله وتركه هو من اتباع المتشابه الذي نهى الله عنه ، ولو عوّلنا على العمومات وصرَفْنا النظر عن البيان لانفتح باب كبير من أبواب البدعة لا يمكن سده([1]).اهـ
قلنا: أولا: نقلب هذا الاستدلال عليكم، فإنكم أنفسكم خالفتم هذا الكلام في استدلالكم بحديث الباب، فهذا أحد السلفية وهو الغامدي الذي ألّف كتابا ضخما في البدعة وتأصيلها والتحذير منها، قد قال بعد أن استشهد بعموم حديث “كل بدعة ضلالة” ومنع تخصيصه: إن اللفظ العام يجب اعتقاد عمومه في الحال والعمل به مباشرة من غير توقف، لأن اللفظ للعموم فيجب العمل بمقتضاه([2]).اهـ
وعليه فاستدلالكم بعموم حديث “كل بدعة ضلالة” هو غفلة عن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا العموم فقد جاءت نصوص تقيّد هذا العموم وتفيد جواز إحداث أذكار وتخصيصات في العبادات بهيئات معينة كحديث بلال وغيره من الأحاديث التي سبقت، فانقلب الدليل عليكم بحمد الله.
والحاصل أن حظْرَكم لفعل القربات المطلقة على هيئة معينة هو قول باطل وابتداع في الدين، لأن التحريم لا بد له من دليل، ولا يكفي في ذلك حديث “كل بدعة ضلالة” بدليل أن الشارع نهى عن هيئات معينة لبعض القربات، ولو كان عموم حديث “كل بدعة ضلالة” كافيا في النهي عن جميع الهيئات غير المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في العبادات لكانت تلك الأحاديث التي تنهى عن هيئات مخصوصة: لغوا؛ وهذا باطل كما هو ظاهر.
ولبيان ذلك نضرب بعض الأمثلة؛ منها نوافل الصلاة ؛ فقد رغّب الشارع في صلاة النوافل وحض عليها المكلفين، إلا أنه نهى عنها في الأوقات الخمسة([3])، كما أن الصلاة تكره عند الجمهور ولا تصح عند الحنابلة([4]) في أماكن معينة ـ مثل الصلاة في المزبلة ، والمجزرة ، والمقبرة، وغيرها ـ لورود النهي عن ذلك([5])، فهذا النهي من الشارع عن الصلاة في هذه الأوقات والأماكن المعينة هو تقييد لمطلق النصوص الحاضّة على فعل القربات، بل هو بمثابة استثناء منها، فيبقى بقية الأوقات وبقية الأمكنة على إطلاقها، يصح للمكلف تحري الصلاة فيها؛ وعليه فمن زعم أن صلاة النصف من شعبان مثلا: بدعة محرمة[6]، كان هذا الزعم نفسه هو البدعة؛ لأنه زاد في الدين النهي عن صلاة لم ينه عنها الشارع فضاهى بذلك نهيَ الشارعِ عن الصلاة في هيئة معينة، وهذه المضاهاة هي جوهر الابتداع، بل إن الشاطبي جعلها جزءا من تعريف البدعة حيث قال: البدعة: طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية([7]). ولمزيد البيان نقول: إن من يَنهى عن تحري الصلاة في شهر رجب أو شعبان أو في ليلة النصف من شعبان تحديدا أو في ليلة العيدين أو في أي وقت لم يأت نهي خاص من الشارع عنه … فقد ضاهى الشارعَ في نهيه عن تحري الصلاة عند الزوال والغروب ونحوه، كما في حديث الشيخين عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها([8])” قال السندي: التحري القصدُ والاجتهاد في الطلب والعزم على تخصيص الشيء بالفعل والقول، فالمتبادر من حديث التحري أن المنهى عنه تخصيص الوقتين المذكورين بالصلاة واعتقادهما أولى وأحرى بالصلاة([9]).اهـ
فأفاد أن الشارع حين يريد النهي عن تخصيص الصلاة في وقت معين أو مكان معين أو عدد معين فإنه ينص على ذلك نصا خاصا، ومعنى هذا أن عموم حديث “كل بدعة ضلالة” لا يكفي لحظر هيئات معينة للقربات المطلقة، لأنه لو كفى لما كان لنهي الشارع عن تحري الصلاة في الأوقات الخمسة مثلا: معنى، ولكان اكتفى بعموم حديث “كل بدعة ضلالة”، فظهر أن التمسك بعمومه لحظر التخصيص في العبادات لا يصح.ومثال آخر: وهو الصوم فقد رغب في نوافل الصوم في كل الأيام واستثنى من ذلك …..وانظر اللاحق: https://www.facebook.com/groups/202140309853552/permalink/809626779104899/ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*انظر السابق:
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=578513068846219&id=551774174853442
([1]) انظر:الرد على كتاب (اللمع في تجلية البدع) ص22، وانظر صلاة التراويح للألباني ص32، نقلا عن الإبداع لعلي محفوظ ص25
([2]) انظر: حقيقة البدعة وأحكامها 1/289
([3]) أخرج الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا: ” لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس ، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس ” صحيح البخاري – كتاب مواقيت الصلاة، باب : لا تتحرى الصلاة قبل غروب الشمس – حديث:570 ، صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها – حديث:1410. وأخرج مسلم من حديث عقبة بن عامر الجهني مرفوعا: ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن ، أو أن نقبر فيهن موتانا : ” حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع ، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس ، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب “. انظر: صحيح مسلم – كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها – حديث:1415.([4]) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح 196 ، 197 ، حاشية الدسوقي 1 / 188 ، 189 ، ومغني المحتاج 1 / 203 ، وكشاف القناع 1 / 293 .([5]) أخرج الترمذي عن ابن عمر ” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في سبعة مواطن : في المزبلة ، والمجزرة ، والمقبرة ، وقارعة الطريق ، وفي الحمام ، وفي معاطن الإبل ، وفوق ظهر بيت الله “. انظر: سنن الترمذي، أبواب الصلاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم – باب ما جاء في كراهية ما يصلى إليه وفيه، حديث:324.
[6] مثل الغامدي حيث قال في كتابه حقيقة البدعة وأحكامها (1/ 295): والعبادة التي هي حق لله سبحانه وتعالى لا يتصور فيها غير إرادة القربة فالإحداث فيها يسمى ابتداعا ً، سواء قصد القربة أو افترض أنه لم يقصد القربة، فلو أحيا ليلة النصف من شعبان بعبادة ٍمخصوصة كالصلاة والذكر فهو مبتدع، حتى مع افتراض عدم قصده للقربة.. مع أن هذا الافتراض تخيلي لا يمكن وقوعه.اهـقال وليد: بل هذا الكلام هو عين الابتداع كما هو موضح في النص أعلاه. والله أعلم.
([7]) الاعتصام للشاطبي 1/37.
([8]) صحيح البخاري – كتاب مواقيت الصلاة، باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس – حديث:566 ؛ صحيح مسلم – كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها – حديث:1411([9]) حاشية السندى على صحيح البخارى – (1 / 105)
وانظر المنشور على :
https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/513541425426551/