خصومهم المذهبيين والفكريين. وكيف كانت نظيرية ابن تيمية في التوحيد البوابة الكبرى لتكفير عامة المسلمين، وغرس روح الكراهية والتمييز ضد أصحاب الديانات الأخرى، وشرعنة الاستبداد السياسي، وقد كان جل علماء عصره على تجهيله وتناقضه وعدوانيته. وقد حمل تلامذته الحنابلة راية تغييب العقل وإصدار الفتاوى التكفيرية وكان أشهرهم ابن القيم الجوزية. ثم تطرقنا لنشأة الوهابية في مقالة متصلة بعنوان (نشأة الوهابية 1-2)، وبينا فيها كيف ورث بن عبد الوهاب هذا التراث التكفيري الهائل بعد خمسة قرون من وفاة بن تيمية، مستغلًا الأوضاع الاجتماعية والحضارية المزرية لمنطقة الجزيرة العربية إبان الهيمنة الكاملة للإمبراطورية العثمانية البغيضة، وخاصة منطقة نجد شرقي الجزيرة العربية، وقام بترجمة أفكار وفتاوى التيار الحنبلي ونظرية التوحيد لابن تيمية إلى حركة اجتماعية ساسية، وقد لاقت حركتة الرجعية والظلامية والتكفيرية قبولًا وسط تلك الأوضاع شديدة البؤس والتخلف والشقاء، وألقينا الضوء على الظروف الموضوعية والذاتية التي أدت إلى ولادة تلك الظاهرة. ومقالتنا هذه الثانية في نشأة الحركة الوهابية.
بعد أن عرض بن عبد الوهاب رؤيته الخاصة لنظرية (التوحيد) لابن تيمية والتي كانت البوابة الكبرى للتكفير لدى الرجلين، في شكل نظيرية خاصة به، دون أن ينسبها لصاحبها شيخ التكفير ابن تيمية، وحاول التسويق لها بغية تطبيقها على أرض الواقع كدين جديد. أعلن بن عبد الوهاب وهو في العيينة، في رسالة مفتوحة بعث بها إلى القرى المجاورة (الرياض ومنفوحة والدرعية وحريملاء) قائلا “أنا أخبركم عن نفسي.. وأنا ذلك الوقت لا أعرف معنى (لا إله إلا الله) ولا أعرف دين الإسلام، قبل هذا الخير الذي مَنَّ الله به، وكذلك مشايخي ما منهم رجل عرف ذلك. فمن زعم من علماء “العارض” أنه عرف معنى (لا إله إلا الله) أو عرف معنى الإسلام قبل هذا الوقت، أو زعم عن مشايخه أن أحدًا عرف ذلك، فقد كذب وافترى ولبّس على الناس ومدح نفسه بما ليس فيه”. وقال أيضًا “الله.. ألله.. عباد الله!.. لا تغتروا بمن لا يعرف شهادة أن لا إله إلا الله، وتلطخ بالشرك وهو لا يشعر، فقد مضى أكثر حياتي ولم أعرف من أنواعه ما أعرفه اليوم، فلله الحمد على ما علمنا من دينه”. وقال منتقدًا علماء زمانه “إن الله سبحانه لما أظهر شيئًا من نور النبوة في هذا الزمان، وعرف العامة شيئًا من الإسلام، وافق أنه قد ترأس على الناس رجال من أجهل العالمين وأبعدهم من معرفة ما جاء به محمد (ص)… ويدعون أنهم يعملون بالشرع ولا يعرفون شيئًا من الدين إلا شيئًا من كلام بعض الفقهاء.. وأما العلم الذي بعث الله به محمد (ص) فلم يعرفوا منه خبرًا ولم يقفوا منه على عين ولا أثر… فهؤلاء الذين يزعمون أنهم علماء أشتد إنكارهم علينا لما تكلمنا بذلك، وزعموا أنهم لم يسمعوا من مشايخهم ومن قبلهم. فلما ظهر هذا الأمر اجتهدوا في عداوته وإطفائه بما أمكنهم وجاهدوا في ذلك بأيديهم وألسنتهم”. وكتب إلى شيخ أهل (رغبة) أحمد بن يحيى، قائلًا “هذه الفتنة الواقعة ليست في مسائل الفروع ولكن في شهادة أن لا إله إلا الله”. وأن “من عبد الله ليلًا ونهارًا، ثم دعا نبيًا أو وليًا عند قبره، فقد اتخذ إلهين اثنين، ولم يشهد أن لا إله إلا الله، لأن الإله هو (المدعو)… وهذا الشرك قد طبق اليوم مشارق الأرض ومغاربها، إلا الغرباء المذكورين في الحديث (وقليل ما هم). وكتب إلى قاض الرياض الشيخ سليمان بن سحمان، قائلًا “… إلى الآن، أنت وأبوك، لا تفهمون شهادة لا إله إلا الله.. ونكشف لك هذا، لعلك تتوب إلى الله وتدخل في دين الإسلام، إن هداك الله… ولكن أنت رجل جاهل مشرك مبغض لدين الله وتلبّس على الجهال الذين يكرهون دين الإسلام ويحبون الشرك ودين آبائهم” (الكاتب والباحث العراقي أحمد الكاتب – جذور الاستبداد في الفكر السياسي الوهابي). كما قام بن عبد الوهاب بتكفير بعض الناس على التعيين، حيث أعلن كفر بعض الأشراف والزهاد ومشايخ الصوفية الأحياء، الذين كان ينذر لهم الناس ويطلبون منهم الدعاء من الله لشفاء المرضى والتفريج عن المكروب، من أمثال (آل شمسان وتاج وحطاب وطالب الحمضي وحسين وإدريس) واعتبرهم شركاء لله في توحيد الربوبية والإلهيه. وحكم على من شك في كفرهم بالكفر أو الفسق، فقال “إذا عرفتم ذلك فهؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم من أهل (الخرج) وغيرهم… كلهم كفار مرتدون عن الإسلام، ومن جادل عنهم، أو أنكر على من كفرهم، أو زعم ان فعلهم هذا لو كان باطلًا فلا يخرجهم إلى الكفر. فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق، لا يُقبل خطه ولا شهادته ولا يُصلى خلفه، بل لا يصح دين الإسلام إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم”. وقال “… أما الكلام في الطواغيت مثل إدريس وآل شمسان، فالكلام على هذا طويل… ونقل الإجماع على أن من فعل عشر معشار فعل هؤلاء الطواغيت أنه كافر حلال الدم والمال، وقد صرح بأن من شك في كفرهم فهو كافر، فكيف إذا مدحهم وأثنى عليهم؟.. وكفر هؤلاء وادعاؤهم الربوبية متواتر عند الخاص والعام والرجال والنساء، وهم الآن يُعبدون ويدعون الناس إلى ذلك” (المصدر السابق – أحمد الكاتب ). ولم يكن يجد حرجًا في تكفير قاضي الرياض سليمان بن سحيم وأمثاله لمجرد الاختلاف معه ورفض مفهومه الخاص للشرك والتوحيد. وعندما توقف بعض أتباع ابن عبد الوهاب، في مسألة التكفير لعامة المسلمين أو لبعضهم على التعيين، وطرحوا عليه موضوع عدم قيام الحجة عليهم، وسألوه عن قول ابن تيمية “من جحد ما جاء به الرسول وقامت عليه الحجة فهو كافر” أجابهم قائلًا “ما ذكرتموه من قول الشيخ “من جحد كذا وكذا” وأنكم شاكون في هؤلاء الطواغيت وأتباعهم: هل قامت عليهم الحجة؟ أم لا؟ فهذا من العجب العجاب، كيف تشكون في هذا وقد أوضحته لكم مرارًا؟! فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة خفية… فإن حجة الله هي القرآن، فمن بلغه فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وبين فهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم… إذا علمتم هذا فهذا الذي أنتم فيه، وهو الشك في أناس يعبدون الطواغيت ويعادون “دين الإسلام” ويزعمون أنه ردة لأجل أنهم ما فهموا، كل هذا أظهر وأبين مما تقدم”. وأرسل بن عبد الوهاب أيضا رسالة عنيفة إلى أحد تلامذته في الأحساء وهو أحمد عبد الكريم، الذي تراجع عن التكفير واستشكل في الحكم بكفر من يعارض الوهابية، وقال فيها “نسأل الله أن يهديك لدين الإسلام… قرناء السوء أضلوك، كما هي عادتهم، وأنت – والعياذ بالله – تنزل درجة درجة، أول مرة في الشك وبلد الشرك، وموالاتهم والصلاة خلفهم وبراءتك من “المسلمين” مداهنة لهم. ثم بعد ذلك طحت على ابن غنام وغيره وتبرأت من “ملة إبراهيم” وأشهدتهم على نفسك باتباع “المشركين” من غير إكراه لكن خوف ومداراة. تذكر أنك عثرت على كلام للشيخ (ابن تيمية) أزال عنك الإشكال. العبارة صريحة واضحة في تكفير مثل ابن فيروز وصالح بن عبد الله وأمثالهما كفرًا ظاهرًا ينقل عن الملة، فضلا عن غيرهما”. وقال “من لم يكفر (المشركين) أو يشك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر… ولا فرق بين جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف والمكره”. أو ” من لم يكفر (المشركين) أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم فهو كافر” (كتاب محمد جلال كشك – السعوديين والحل الإسلامي.. مصدر الشرعية للنظام السعودي).
أمام سيل التكفير الذي أتى به بن عبد الوهاب، تولدت حركة رفض واسعة وقوية لحركته التكفيرية العدوانية. ومن أشهر معارضي هذه الحركة الشيخ مربد بن أحمد التميمي (توفي 1757م) وهو واحدًا من كبار علماء نجد، وقتله الوهابيون في مدينة رغبة. وقد رد الشيخ أحمد بن علي النصراني القباني وهو من سنة العراق على بن عبد الوهاب بكتاب “فصل الخطاب في رد ضلالات ابن عبد الوهاب”. وعارضه عبد الله بن عيسى المويس التميمي (توفى 1761م) من شيوخ نجد وفقيه أهل حريملة رحل إلى الشام وأخذ عن العلامة السفاريني، وهو الذي استطاع أن يقنع الشيخ عبد الله بن سحيم بالتوقف عن تأييد بن عبد الوهاب بعد أن كان مؤيدًا له، لذلك غضب عليه بن عبد الوهاب فكفره. وكان محمد بن سليمان الكردي مفتي الشافعية في المدينة المنورة من معارضي دعوة بن عبد الوهاب، وله ردود باسم “مسائل وأجوبه وردود على الخوارج “. ومن بين المعارضين أيضًا صالح بن عبد الله الصائغ (توفي 1769م) وسيف بن أحمد العتيقي (توفي 1775م)، وعبد الله بن داوود الزبيري (توفي 1810م)، وعلوي بن أحمد الحداد الحضرمي (توفي 1817م)، ومحمد بن عبد الله كيران المغربي (توفي 1812م)، كما عارض الوهابيون عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عدوان (توفي 1765م) والشيخ حسن بن عمر الشطي الدمشقي (توفي 1831م). في حين يرى عثمان بن سند البصري (توفي 1834م) أن بن عبد الوهاب يكفر عموم المسلمين. وعندما أرسل الأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود، رسالة إلى سليمان باشا الكبير والي بغداد العثماني، مع نسخة من كتاب محمد بن عبد الوهاب (التوحيد الذي هو حق الله على العبيد) وطلب منه أن يجمع العلماء للنظر في كتاب بن عبد الوهاب، والإيمان بما جاء فيه. أنكر علماء بغداد بزعامة الشيخ عبد الله أفندي الراوي، ما جاء في الكتاب من أفكار. ورد المرجع الديني الشيعي النجفي الشيخ جعفر كاشف الغطاء على نظرية محمد بن عبد الوهاب، بكتاب تحت عنوان (منهج الرشاد لمن أراد السداد) فند فيه النظرية الوهابية التي تتهم عامة المسلمين بالشرك والكفر. وفرق بين المشركين الذين كانوا يعبدون الصالحين ويعتقدون انهم شركاء لله، وبين المسلمين الذين يوحدون الله ويتوسلون بالأولياء الذين يعتقدون أن لهم مكانة خاصة عنده.
تمادى بن عبد الوهاب في التكفير والعدوانية وفاق من علموه تغييب العقل والتكفير والاستبداد، حتى عارضة وكفره أئمة الحنابلة في عصرة، وهو المذهب الذي يشتق منه ابن عبد الوهاب حججه الفقهية ومبررات فتاراه التكفيرية، باعتبار الوهابية تمثل الطائفة الأكثر تطرفا داخل المذهب الحنبلي، وأشهرهم سليمان بن عبد الوهاب التميمي النجدي (توفى عام 1793م)، وهو أخو محمد بن عبد الوهاب لأبيه وأمه وكان أعلم منه، وهو فقيه حنبلي أيضًا من قضاة نجد ومن علمائهم، وله كتاب (الصواعق الإلهية) في الرد على أخيه، وهو من أقوى الردود على الوهابية، حيث انتقد أخاه قائلا “إذا طلبت منه أن يعرض كلامه على أهل العلم لم يفعل بل يوجب على الناس الأخذ بقوله وبمفهومه، ومن خالفه فهو عنده كافر… إن الأمة كلها تصيح بلسان واحد ومع هذا لا يرد لهم في كلمة بل كلهم كفار أو جهال”. وقد قال للوهابيين بصراحة “إنكم الآن تكفرون من شهد أن لا إله إلا الله وحده وأن محمدًا عبده ورسوله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحج البيت مؤمنًا بالله وملائكته وكتبه ورسوله ملتزمًا لجميع شعائر الإسلام وتجعلونهم كفارًا أو بلادهم بلاد حرب”. وقال “… لكنكم أخذتم هذا بمفاهيمكم وفارقتم الإجماع وكفرتم أمة محمد (ص) كلهم حيث قلتم من فعل هذه الأفاعيل فهو كافر ومن لم يكفره فهو كافر”. “كل هذه البلاد عندكم بلاد حرب، كفار أهلها، لأنهم عبدوا الأصنام على قولكم، وكلهم عندكم مشركون شركًا مخرجًا عن الملة فإنا لله وانا إليه راجعون”.
وقال أيضًا “أنتم اليوم تكفرون من ليس فيه خصلة واحدة مما في اولئك المشركين”. وحذرهم قائلًا “ياعباد الله تنبهوا وارجعو إلى الحق وامشوا حيث مشى السلف الصالح وقفوا حيث وقفوا، ولا يستغركم الشيطان ويزين لكم تكفير أهل الإسلام وتجعلون ميزان كفر الناس مخالفتكم وميزان الإسلام موافقتكم”. وقال “يا عباد الله.. اتقوا الله خافوا ذا البطش الشديد لقد آذيتم المؤمنين والمؤمنات (إن الذين يرمون المومنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا واثمًا مبينًا) والله ما لعباد الله عند الله ذنب إلا أنهم لم يتبعوكم على تكفير من شهدت النصوص الصحيحة بإسلامه وأجمع المسلمون على إسلامه فإن اتبعوكم أغضبوا الله تعالى ورسوله (ص) وإن عصوا آراءكم حكمتم بكفرهم وردتهم”. وقال “فأنتم الآن تكفرون بأقل القليل من الكفر، بل تكفرون بما تظنون أنتم أنه كفر، بل تكفرون بصريح الإسلام، فإن عندكم أن من توقف عن تكفير من كفرتموه خايفًا من الله تعالى في تكفير من رأى عليه علامات الإسلام فهو عندكم كافر”. كما عارض الوهابية محمد بن عبد الرحمن بن عفالق الحنبلي الإحسائي (توفي عام 1751م) من علماء الإحساء الكبار، فقيهًا له كتب في الفقه والفلك، وكان السبب في صرف عثمان بن معمر أمير العيينة عن بن عبد الوهاب ومع أن بن عبد الوهاب كان عند ابن معمر لكن قوة حجج بن عفالق دفعت بن معمر للتخلي عن بن عبد الوهاب ونصرته، وقد كفره بن عبد الوهاب كفرًا أكبر يخرج من الملة. وعارضه عبد الله بن أحمد بن سحيم (توفي 1714م) فقيه أهل المجمعة بالقصيم وكان فقيهًا حنبليًا وقاضيًا لبلدان سدير كلها عارض غلوها في التكفير. كما كان عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الأحسائي وكان قبل ذلك من أتباع بن عبد الوهاب من أشد معارضي هذه دعوة. كما رفض الوهابية الشيخ محمد بن عبد الله بن حميد (توفي 1781م) إمام الحنابلة بمكة المكرمة. أما محمد بن عبد الله بن فيروز الأحسائي (توفي 1801م) كان وأبوه وجده من العلماء الحنابلة وكانت له مكانه كبيرة عند السلطان العثماني، وكان يعارض الشيخ محمد بقوة، لذا كفره بن عبد الوهاب كفرًا أكبر ينقل عن ملة الإسلام. كما كفر محمد بن علي بن سلوم (توفي 1788م) من فقهاء الحنابلة بعد أن عارضه بقوة.
لذا كان التكفير أبرز التهم التي وجهها العلماء (حتى الحنابلة منهم) لابن عبد الوهاب وهي أقوى وأصح وأبلغ وأخطر تهمة وجهها خصومه له ولأتباعه. فهذا الشيخ الحنبلي ابن عفالق يقول عن بن عبد الوهاب إنه “حلف يمينا فاجرة بأن اليهود والمشركين أحسن حالًا من هذه الأمة”، والشيخ الحنبلي سليمان ابن سحيم يقول عن بن عبد الوهاب “ومن لم يوافقه في كل ما قال ويشهد أن ذلك حق، يقطع بكفره، ومن وافقه وصدقه في كل ما قال، قال أنت موحد ولو كان فاسقًا محضًا”. ويقول الشيخ الحنبلي السلفي النجدي عثمان بن منصور “قد ابتلى الله أهل نجد بل جزيرة العرب من خرج عليهم وسعى بالتكفير للأمة خاصها وعامها… بتلفيقات ما أنزل الله بها من سلطان”. وكذلك الشيخ سليمان بن عبد الوهاب أخو الشيخ يقول “كم أركان الإسلام يا محمد بن عبد الوهاب؟ قال: خمسة، قال: أنت جعلتها ستة، السادس: من لم يتبعك فليس بمسلم، هذا عندك ركن سادس من أركان الإسلام”. ولا شك أن الذين رموا بن عبد الوهاب بتهمة التكفير هم من أكابر علماء عصره، ومنهم عثمان بن منصور رحمه الله صاحب كتاب “جلاء الغمة عن تكفير هذه الأمة” حيث قال “قد ابتلى الله أهل نجد بل جزيرة العرب بمن خرج عليهم وسعى بالتكفير للأمة خاصها وعامها وقاتلها على ذلك جملة إلا من وافقه على قوله، لما وجد من يعينه على ذلك …”. وقال الشيخ صدقي الزهاوي في الفجر الصادق “ثم إنه صنف لابن سعود رسالة سماها كشف الشبهات عن خالق الأرض والسموات كفر فيها جميع المسلمين” وقال عنه ابن عفالق “وهذا الرجل كفر الأمة …”. وقال فيه العالم القباني “كفر هذه الأمة بأسرها وكفر كل من لم يقل بضلالها وكفرها…”. والمنقول عن علماء زمانه ومن جاء بعدهم أكثر من أن يُحصى واستدلوا على ذلك من بعض أقواله وأقوال أتباعه ممن لم يضبطوا كلامهم في هذه المسألة البالغة الخطورة كما استدلوا على ذلك من الممارسة العملية في معاملة مخالفيه في الرأي من عامة الناس وخاصتهم. إذا كان القول يحتمل التأويل ويختلف الناس في فهمه أما الممارسة الفعلية العملية لا مجال فيها للتأويل ومن أقوال بن عبد الوهاب المشعرة بذلك قوله لابن سعود في سنة 1744م “أنت ترى بلاد نجد من أقصاها إلى أقصاها وقد انغمست في الوثنية وغرقت في الضلال والشرك” كما نقل ذلك ابن بشر مؤرخ وتلميذ بن عبد الوهاب في عنوان (المجد). كما دعا شيخه محمد سليمان الكردي يوجه له نداء بقوله “يا ابن عبد الوهاب سلام على من اتبع الهدى فإني أنصحك لله تعالى أن تكف لسانك عن المسلمين” ونصحه أخوه قائلاً “فانظر رحمك الله إلى طريقة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإحجام عن تكفير من يدعي الإسلام”.. كما اُتهم بن عبد الوهاب بأنه يكفر دولة الخلافة وبعض الأقطار المجاورة فضلا عن سكان البادية وبعض القبائل العربية والدول الإسلامية واستدلوا لذلك بأنه كاتب الحكام والملوك للدخول في دعوته وهذا ما صرح به أيضًا ابن بشر في عنوان “المجد” حيث قال “ثم إن الشيخ كاتب أهل البلدان بذلك ورؤساءهم وقضاتهم ومدعي العلم منهم فمنهم من قبل واتبع الحق ومنهم من اتخذه سخريًا واستهزؤوا به ونسبوه إلى الجهل وعدم المعرفة…” ومن المعلوم أن محمد بن عبد الوهاب عندما قام بدعوته إلى منع أئمة المساجد من الدعاء للسلطان على المنابر يوم الجمعة بحجة أن ذلك فقط من الأمور البدعية.
من الاتهامات التي وجهت إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب تجهيل علماء زمانه والنيل منهم وتكفيرهم واستدل خصومه على ذلك ببعض أقواله هنا وهناك فأما النيل منهم فقوله “قد ترأس على الناس رجال من أجهل العالمين وأبعدهم من معرفة ما جاء به محمد (ص).. ويدعون أنهم يعملون بالشرع ولا يعرفون شيئًا من الدين إلا شيئًا من كلام بعض الفقهاء.. وأما العلم الذي بعث الله به محمدًا (ص) فلم يعرفوا منه خبرًا ولم يقفوا منه على عين ولا أثر… فهؤلاء الذين يزعمون أنهم علماء اشتد إنكارهم علينا لما تكلمنا بذلك وزعموا أنهم لم يسمعوا من مشايخهم ومن قبلهم فلما ظهر هذا الأمر اجتهدوا في عداوته وإطفائه بما أمكنهم وجاهدوا في ذلك بأيديهم وألسنتهم” وقال أيضًا “اعلموا أنه قد غلط في هذا طوائف لهم علوم وزهد وورع وعبادة فما حصل لهم من العلم إلا القشور وقد حرموا لبه وذوقه وقلدوا أسلافًا قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرًا وضلوا عن سواء السبيل فيا لها من مصيبة ما أعظمها وخسارة ما أكبرها؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله فلا غنى لكم عن تعلم (التوحيد) وحقوقه من فرائض الله وواجباته وأن يكون ذلك أكبر همكم ومحصل علمكم” وفضل عليهم العامي الموحد بقوله “والعامي من الموحدين يغلب ألفًا من علماء هؤلاء المشركين. “بل حكم ببطلان الصلاة وراءهم وهذا ما فعله أتباعه من بعده حتى أنهم احتكروا المساجد وقالوا ببطلان الجماعة والجمعة وراء هؤلاء العلماء. وقال الذين اتهموه بتكفير العلماء الأكابر في زمانه إنه لم يكفر القول أو الفعل وإنما كفر الفاعل والقائل بأعيانهم خلافًا لما درج عليه أهل السنة والجماعة في ضوابط التكفير حيث لم يقم عليهم الحجة بنفسه، ولم تعقد لذلك لا مناظرات ولا محاكمات شرعية؟!! بل وحكم على من شك في كفرهم بالكفر والفسق حيث أرسل إلى قاضي الرياض الشيخ سليمان بن سحيم الحنبلي وفقيه الرياض “أنت وأبوك لا تفهمون شهادة لا إله إلا الله ونكشف لك هذا لعلك تتوب إلى الله وتدخل في دين الإسلام إن هداك الله… ولكن أنت رجل جاهل مشرك مبغض لدين الله وتلبّس على الجهال الذين يكرهون دين الإسلام ويحبون الشرك ودين آبائهم” وكتب إلى قاضي الدرعية الشيخ عبد الله بن عيسى “لو يعرف الناس الأمر على وجهه لأفتيت بحل دم ابن سحيم قاضي الرياض وأمثاله وقتلهم كما أجمع على ذلك أهل العلم كلهم…”. كما كفر عينًا محمد بن عبد الرحمن بن عفالق الحنبلي وعبد الله المويس من أجل علماء نجد ومحمد بن أحمد بن فيروز وكفر أحمد بن عبد الكريم الحنبلي النجدي وحكى الإجماع على تكفير المتكلمين وهؤلاء كفرهم كفرًا ينقل عن الملة كما جاءت أقواله في كتاب (الدرر السنية) وكما حكاه ابن غنام في (تاريخ نجد). ولذلك اتهمه أخوه سليمان بن عبد الوهاب قاضي حريملاء بأنه لا يعرض كلامه على أكابر علماء زمانه وينفرد بنفسه فقال عنه أخوه سليمان “فإن اليوم الذي ابتلي الناس بمن ينتسب إلى الكتاب والسنة ويتبسط في علومها ولا يبالي من خالفه وإذا طلبت منه أن يعرض كلامه على أهل العلم لم يفعل، بل يوجب على الناس الأخذ بقوله وبمفهومه ومن خالفه فهو عنده كافر، وهو لم يكن فيه خصلة واحدة من خصال أهل الاجتهاد لا والله ولا عشر واحدة، ومع هذا راج كلامه على كثير من الجهاد فإنا لله وإنا إليه راجعون”.
اتهم العلماء الذين عاصروه، ابن عبدالوهاب، بأنه يكفر من لم يكفر من كفره، فقال ابن عفالق فيه “هذا الرجل كفر الأمة… وحلف يمينًا فاجرة أن اليهود والمشركين أحسن حالًا من هذه الأمة لقد كفر هذه الأمة بأسرها وكفر من لم يقل بضلالها وكفرها” وقال عنه علوي الحداد “إذا أراد رجل أن يدخل في دينه يقول له: اشهد على نفسك أنك كنت كافرًا واشهد على والديك أنهما ماتا كافرين واشهد على العالم الفلاني والفلاني أنهم كفار فإن شهد قبله وإلا قتله” واُتهم بن عبد الوهاب أنه إذا تبعه أحد وكان قد حج حجة الإسلام يقول له “حج ثانية فإن حجتك الأولى فعلتها وأنت مشرك فلا تُقبل ولا تسقط عنك الفرض” وقال في أهل الخرج “كلهم كفار مرتدون عن الإسلام ومن جادل عنهم أو أنكر على من كفرهم أو زعم أن فعلهم هذا لو كان باطلًا فلا يخرجهم إلى الكفر فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق لا يُقبل حجه ولا شهادته ولا يُصلى خلفه بل لا يصح دين الإسلام إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم”.
كما كان يأمر “المسلمين” الجدد بحلق رؤوسهم كما كان رسول الله (ص) يأمر المشركين عند دخولهم في الإسلام، ويقول “ألق عنك شعر الكفر”، وقد أشار إلى هذا النص ابن غنام في (تاريخ نجد).. كما اُتهم ابن عبد الوهاب بالتناقض بين النظرية والتطبيق؟!!.. كما اُتهم بأنه أتهم عصره بأنه أشد شركا وجاهلية من الجاهلية الأولى!!، حيث قال بن عبد الوهاب “إن شرك الأولين أخف من شرك زماننا” وقال أيضًا “فلما طال الأمد بعدهم صارت كتبهم في أيدي أناس جهلة فرجعوا إلى ما كان عليه من قبلهم ممن مضى من المبتدعة وكثر الشرك في القرى والأمصار وصاروا لا يعرفون من التوحيد إلا ما تدعيه الأشاعرة… حتى نسي العلم وعم الشرك والبدع إلى منتصف القرن الثاني عشر فإنه لا يعرف إذ ذاك عالم أنكر شركًا أو بدعة مما صار في آخر هذه الأمة” وقال بن عبد الوهاب في رسالة له “وهذا الشرك قد طبق اليوم مشارق الأرض ومغاربها إلا الغرباء المذكورين في الحديث وقليل ما هم” فوصف عصر بن عبد الوهاب بالجاهلية والضلالة العمياء والشرك الذي فاق شرك الأوائل. كما رفض كثير من علماء نجد النظرية المذعومة لابن عبد الوهاب في تكفير زوار القبور واعتبار الزيارة شركًا، بالرغم من انتماء بعضهم للمذهب الحنبلي. وحكم بعض هؤلاء، كالشيخ عبد الله المويس وابن اسماعيل وابن عبيد، على محمد بن عبد الوهاب وأتباعه بالردة، والخروج من دين الإسلام. وقاموا بإرسال رسائل تحريض عامة في إنكار الدعوة الوهابية والبراءة من أصحابها.
وأنكروا على الرجل تكفير المسلمين وإعلان الحرب عليهم. وكتب الشيخ سليمان بن سحيم، عالم أهل الرياض، رسالة إلى أهل البصرة والأحساء، ضد بن عبد الوهاب، جاء فيها “أنه يقول: الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء. وتصديق ذلك أنه بعث إليَّ كتابًا يقول فيه: أقروا أنكم قبلي جهال ضلال. ومن أعظمها: أن من لم يوافقه في كل ما قال ويشهد أن ذلك حق، يقطع بكفره، ومن وافقه وصدقه في كل ما قال، قال “أنت موحد”. ولو كان فاسقًا محضًا ومكاسًا… ومنها أنه قاطع بكفر سادة عندنا من آل الرسول، لأجل أنهم يأخذون النذور، ومن لم يشهد بكفرهم فهو كافر عنده. أما محمد بن عبد الرحمن ابن عفالق فقد أخذ على الشيخ محمد بن عبد الوهاب تكفير الأمة كلها، وقال “هذا الرجل كفر الأمة، بل والله وكذب الرسل وحكم عليهم وعلى أممهم بالشرك، وحلف يمينًا فاجرة أن اليهود والمشركين أحسن حالًا من هذه الأمة. لقد كفر هذه الأمة بأسرها وكفر من لم يقل بضلالها وكفرها”. وهذا ما يفسر قيام علماء الحرمين (مكة المكرمة والمدينة المنورة) في إبان امارة الشريف مسعود بن سعيد بن زيد (المتوفي سنة 1752م) بإعلان كفر الوهابيين، بعد حوار مع وفد منهم. ويمكن القول إن تكفير العلماء المسلمين لابن عبد الوهاب وأتباعه، كان رد فعل على تكفير الوهابيين لعامة المسلمين ابتداءً، وليس العكس، حيث رفض علماء الإسلام التفسير الوهابي لمعنى الشرك والتوحيد الذي يخلط بين الشرك الأصغر الذي لا يكفر ولا يخرج من الدين، وبين الشرك الأكبر الصريح الذي يجعل مع الله الهًا آخر.
أمام حملة الاستنكار الواسعة التي جوبه بها بن عبد الوهاب، لتكفيره عموم المسلمين ولأنه لا يعذر بالجهل والتأويل ويكفر الأشاعرة من أهل الكلام فضلًا عن الرافضة ويكفر أهل البوادي والقبائل وكثيرًا من الدول الإسلامية كما هو مبثوث في كتبه ورسائله، لجأ بن عبد الوهاب إلى مبدأ (التقية)، فحاول أن ينفي تهمة التكفير بالعموم، واتهم خصومه بتلفيقها ضده، فعندما وجد لدى بعض الناس صعوبة في تقبل عملية التكفير العامة التي يقوم بها، قال “قد بلغني أنكم في هذا الأمر قمتم وقعدتم .. فياليت قيامكم في عظائم في بلدكم تضاد أصل الإسلام (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله)، منها وهو أعظمها: عبادة الأصنام عندكم من بشر وحجر، هذا يُذبح له، وهذا يُنذر له، وهذا يُطلب إجابة الدعوات وإغاثة اللهفات، وهذا يدعوه المضطر في البر والبحر، وهذا يزعمون أن من التجأ اليه ينفعه في الدنيا والآخرة .. فإن كنتم تزعمون أن هذا ليس هو عبادة الأصنام والأوثان المذكورة في القرآن فهذا من العجب”. وكتب في رسالة إلى قاضي الدرعية الشيخ عبد الله بن عيسى وابنه، قائلًا “ذُكر لي أنكم زعلانين في هذه الأيام، ولا يخفاك أني زعلان زعلًا كبيرًا وناقد عليكم نقودًا أكبر من الزعل .. وقيل لي: إنكم ناقدون عليَّ بعض الغلظة، والأمر أغلظ مما ذكرنا. ولولا أن الناس إلى الآن ما عرفوا دين الرسول وأنهم يستنكرون الأمر الذي لم يألفوه، لكان شيء آخر. بل والله الذي لا إله إلا هو، لو يعرف الناس الأمر على وجهه لأفتيت بحل دم ابن سحيم (قاضي الرياض) وأمثاله، ووجوب قتلهم، كما أجمع على ذلك أهل العلم كلهم، لا أجد نفسي حرجًا من ذلك. ولكن إن أراد الله أن يتم هذا الأمر تبين أشياء لم تخطر لكم على بال”.
وقد كتب إلى بعض العلماء قائلا “أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم قد وصلت اليكم، وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم، والله يعلم أن الرجل افترى عليَّ أمورًا لم أقلها ولم يأت أكثرها على بالي، فمنها قوله: …إني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء… وإني أكفر من توسل بالصالحين وإني أكفر البوصيري لقوله (يا أكرم الخلق..) وإني أقول: لو أقدر على هدم قبة رسول الله (ص) لهدمتها.. وإني أحرم زيارة قبر النبي، وإني أكفر من حلف بغير الله. وجوابي عن هذه المسائل أن أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم.. إني أقول: لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى (لا إله إلا الله) وإني أعرف من يأتيني بمعناها، وإني أكفر الناذر إذا أراد بنذره التقرب لغير الله وأخذ النذر لأجل ذلك، وإن الذبح لغير الله كفر والذبيحة حرام، فهذه المسائل حق وأنا قائلها”. “وما ذكره المشركون.. على أني أكفر جميع الناس إلا من تبعني، وأني أزعم أن أنكحتهم غير صحيحة، فيا عجبًا كيف يدخل هذا في عقل عاقل؟ وهل يقول هذا مسلم؟ أني أبرأ إلى الله من هذا القول الذي ما يصدر إلا عن مختل العقل فاقد الإدراك، فقاتل الله أهل الأغراض الباطلة”. وهكذا كتب إلى الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله السويدي في العراق رسالة يرد فيها على تهمة (التكفير بالعموم) فقال “ومنها ما ذكرتم أني أكفر جميع الناس إلا من اتبعني، وأزعم أن انكحتهم غير صحيحة. ويا عجبًا كيف يدخل هذا في عقل عاقل؟ هل يقول هذا مسلم؟ أو كافر؟ أو عارف؟ أو مجنون؟… وأما التكفير فلم نقاتل أحدًا إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة، وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكنًا، ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة (وجزاء سيئة سيئة مثلها) وكذلك من جاهر بسب دين الرسول بعد ما عرفه”.
وكتب أيضًا إلى مسعود شريف مكة ينفي لديه تهمة التكفير بالعموم قائلا “وأما الكذب والبهتان، فمثل قولهم: إنا نكفر بالعموم ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وإنا نكفر من لم يكفر ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله. وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على قبر عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما، لأجل جهلهم وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر الينا ولم يكفر ويقاتل؟ (سبحانك هذا بهتان عظيم). وأرسل عام 1771م إلى شريف مكة أحمد بن سعيد، مندوبًا عنه هو عبد العزيز الحصين، وحمله رسالة مليئة بالحب والتقدير والاحترام والدعاء للشريف. ونفى المندوب أمام علماء مكة (الشيخ يحيى بن صالح الحنفي، والشيخ عبد الوهاب بن حسن التركي، والشيخ عبد الغني بن هلال) تهمة التكفير بالعموم التي كانت موجهة إلى الوهابيين. ونفى كذلك في رسائل أخرى، عملية التكفير بالعموم، فقال “وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول (ويقصد المفهوم الوهابي للتوحيد) ثم بعدما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله، فهذا هو الذي أكفر. وأكثر الناس ولله الحمد ليسوا كذلك). ورغم أنه ينفي في رسائله تلك ما يسميه تهمة التكفير بالعموم، إلا أنه يؤكد في طياتها ما يحاول أن ينفيه، وقد نفى تكفيره لمن يتوسل بالصالحين، وهذا ما يتناقض مع أهم تصريحاته الشهيرة التي يقول فيها “إن من نخا نبيًا أو ملكًا أو ندبه أو استغاث به، فقد خرج من الإسلام، وإن كفر المشركين من أهل زماننا أعظم كفرًا من الذين قاتلهم رسول الله (ص)”.
كما نفى عزمه على هدم قبة رسول الله (ص) مع أنه يقول “لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يومًا واحدًا، فإنها شعائر الشرك والكفر، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة، وهذا حكم المشاهد التي بُنيت على القبور التي اُتخذت أوثانًا تُعبد من دون الله، والأحجار التي تُقصد للتبرك والنذر والتقبيل. لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى”. ولم يكن هناك من سبب يدعوه لاستثناء قبة الرسول من بين القبب التي قدر عليها وهدمها فعلًا.. ورغم أنه نفى في عدة رسائل أخرى تكفير جميع الناس إلا من اتبعه، واتهم من يتهمه بذلك باختلال العقل وتبرأ إلى الله من قائله، وادعى أنه لم يقاتل الناس إلا دفاعًا عن النفس وعلى سبيل المقابلة، إلا أنه اعترف أيضًا بقتال من يعارضه متهمًا إياه بالمجاهرة بسب (دين الرسول) أي الوهابية، كما اعترف أيضا في رسالته إلى شريف مكة بقتال حتى “من عرف التوحيد الذي أظهرناه للناس، وأقر أن هذه الاعتقادات في الحجر والشجر والبشر، الذي هو دين غالب الناس، هي الشرك بالله، ولكنه لم يلتفت إلى التوحيد ولا تعلمه ولا دخل فيه ولا ترك (الشرك)”، وقال: إن هذا كافر نقاتله بكفره. فضلا عن غيره من عامة الناس الذين لا يؤمنون بمبادئه. وقد أكد ضمنًا في تلك الرسالة اتهام غالب الناس بأن دينهم الشرك بالله.. كما يوجد في كلامه تناقض واضح فهو يصم الأضرحة التي على قبور الأولياء والصالحين (كقبر عبد القادر وأحمد البدوي) بأنها أصنام، ويتهم زوارها بعبادتها، ومع ذلك يقول إنه لا يكفرهم لجهلهم، علمًا بأنه لا يعتبر الجهل عذرًا في عدم التكفير، إذ يقول “إن الانسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل فلا يُعذر بالجهل، وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله، كما ظن المشركون”. ولو توقفنا عند قوله “أنا أكفر من عرف (دين الرسول) ثم بعدما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله فهذا هو الذي أكفر” لرأينا أنه يعترف بتكفير كل من يعارضه على الأقل، وإذا جمعنا هذا الموقف مع أقواله ومواقفه الأخرى التي لا تُحصى والتي يطلق فيها اسم (المشركين) على عامة المسلمين لتوصلنا إلى أنه لم يكن صادقًا أو دقيقًا في نفي تهمة التكفير بالعموم، أو أنه كان يمارس (التقية) في بداية أمره من باب التكتيك وخداع العدو الأقوى، أو أنه كان يتلاعب بالألفاظ. وإلا فإن ظاهرة التكفير بالعموم كانت أبرز ملامح الحركة الوهابية.
وسط تلك البيئة البدوية الجافة، وهذا التراث الفكري المنسجم مع النظام الاجتماعي والسياسي البدوي والقائم على القوة والوراثة وليس الشورى والانتخاب، لم يلتفت بن عبد الوهاب كثيرًا إلى مشكلة النظام السياسي، وانخرط في النظام البدوي الوراثي القائم، بل كرس ذلك النظام وأعطاه شرعية دينية. فبعد أن قدم بن عبد الوهاب شرحه لنظرية ابن تيمية في التوحيد، وأتم منطقه، وحججه، بدأ في طرح حركية الدعوة الوهابية، وذلك بدعوة أمير (العيينة)، بلدة بن عبد الوهاب، فاستجاب الأمير، ثم خاف عندما اكتشف أنها ليست بيعه شيخ طريقة، أو توبة علي يد أحد الصالحين، بل هي مذهب تكفيري وأفكار هدامة ودعوة لإراقة الدماء، أي أنه بقبول تفسير بن عبد الوهاب الشهادة “لا إله إلا الله” وسورة الفاتحة “إياك نعبد وإياك نستعين” إنما ينضم لحركة مارقة تكفيرية، فحوادث هدم القباب جعل الأمير يخاف عن حق من أمرين، الأول إقدام ابن عبد الوهاب على ممارسة ما يُعتبر من صميم سلطة القائم بالأمر وهو تطبيق الحدود في الكبائر، والثاني هو ما عبرت عنه تلك الحوادث من إيمان العامة، بل الخاصة بمكانة بن عبد الوهاب كسلطه. فكانت النتيجة أن انفجر الموقف في العيينة، وتقرر خروج بن عبد الوهاب من بلدة لا يصلح أميرها للدور المطلوب. وعلي مقربة من العيينة كانت هناك إمارة صغيرة أيضا يحكمها محمد بن سعود هي إمارة (الدرعية)، حيث التقي الشيخ المطرود من إمارة العيينة بأمير الدرعية محمد بن سعود. لقد كان للمصالح السياسية أثر في نجاح التحالف الذي تم ما بين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود حيث كان بن عبد الوهاب يبحث جاهدًا عن أرض مستوية لتكون قاعدة لنشر أفكاره بعد ن طُرد أو واجه مواقف سياسية من المناطق التي مر بها وفي المقابل فإن بن سعود قد وجد ضالته المنشودة بابن عبد الوهاب من أجل إقناع القبائل العربية بحكمه عن طريق إضفاء الشرعية الدينية عليه والتي يتبناها بن عبد الوهاب. وتم الحلف عام 1747م واُعتبر نواة الدولة السعودية الأولى. لقد اعتمد بن سعود على الغطاء الديني الذي توفره الحركة الوهابية لتثبيت سلطته ورفع شعار الدين وتصحيح المفاهيم الخاطئة حسب زعمهم للعقائد والمفاهيم الإسلامية، وكما أوضحنا سابقًا فإن هذا الأسلوب له جذور تاريخية كما هو في الحكم الأموي والعباسي عندما كان يُستخدم المرتزقة من علماء السوء والبلاط لإصدار فتاوى تحض على طاعة الخلفاء بغض النظر عن عدالتهم وظلمهم وجورهم. ثم جاء ابن تيمية ليقول “أرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين، برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله”، وقد جاء محمد بن عبد الوهاب محملًا بهذا التراث المشوب بالاستبداد الصريح، الذي ساد بسبب استمرار نفس النظم الاقتصادية الرعوية، وجمود الحراك الاجتماعي، وسيادة الأيدولوجية الفكرية القبلية، فهذا الشيخ البناني (توفي 1780م) المعاصر لابن عبد الوهاب في كتابه “حاشية البناني على شرح الزرقاني” يقول “أعلم أن الإمامة تثبت بأحد أمور ثلاث، إما بيعة أهل الحل والعقد، وإما بعهد الإمام الذي قبله، وإما بتغلبه على الناس، وحينئذ فلا يشترط فيه شرط، لأن من اشتدت على الناس وطأته وجبت طاعته”. بل أن فقيهًا مثل ابن عابدين (توفي 1836م) اعتبر الإمامة مقرونة بالقوة ودائرة مدارها، وسلب الشرعية من الإمام الذي يبايعه الناس ولا يملك القوة، وقال “يصير الإمام إمامًا بالتغلب ونفاذ الحكم والقهر بدون مبايعة، أو استخلاف، فإن بايعه الناس ولم ينفذ حكمه فيهم لعجزه لا يصير إمامًا”. كما أن فتاوى بن عبد الوهاب كانت مصحوبة بدعم سياسي تشوبه القوة والاستبداد من الحاكم السياسي، لذا كان لها دورًا كبيرًا في دعم التحالف بين بن عبدالوعاب وابن سعود. ففي احدى فتاواه يقول “من ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة، وجبت طاعته وحرم الخروج عليه”، وحسب قول نسبوه إلى النبي محمد (ص) “أطع أميرك وإن جلد ظهرك وإن أخذ مالك”، وقد أضاف الفكر الوهابي إلى ذلك وجوب التسليم والخضوع لأئمة الدعوة الوهابية من قبل أبناء الحركة، فضلا عن عامة الناس، وبناءً على ذلك فإن بن عبد الوهاب لم يعط الأمة أو الحركة الوهابية الحق في المعارضة أو التمرد والخروج على النظام الوهابي، إضافة إلى عدم وجود أي قانون للمحاسبة أو النقد أو التغيير، ورفض توجيه النقد للأمراء بصورة عامة، وكل من يعترض أو يبدي مجرد رأي بسيط لا يرتضيه الوهابيون أو النظام الحاكم، يُتهم بالكفر والزندقة.