[26] هل صحيح أن لله يدين؟[1]
وأمّا أنّ ابنَ تيمية ـ وأتباعه كذلك ـ فتحَ للأشاعرةِ وغيرهم التأويلَ على مصراعيه ـ عكس ما كان يظنه ابنُ تيمية من أنه بإنكاره للمجاز يقطع عليهم طريقَ التأويل ـ فبيان ذلك أنَّ ابنَ تيمية بعد أن أنكر المجاز، وبعد أن قرّر هو وابن القيم وغيره من أتباعه أن اللفظ بمفرده لا يدل على أي معنى ما لم يُستعمل أو يُقيّد فحينها يكون له معنى تحدده القرائن التي في السياق… وقرروا أيضا أن ما يُدّعى أنه مجازٌ هو حقيقةٌ لوجود القرينة التي تدل عليه[2]…..وأن اليد مثلا لفظ مشترك يدل على عدة معاني وكلها على سبيل الحقيقة[3] …..!!!!!
أقول : إن ابن تيمية وأتباعه بعد أن قرروا كل هذا الذي سبق لن يتستطيعوا أن يعترضوا على الأشاعرة حين يحملون آيات الصفات المتشابهة على معانٍ مجازية كحملهم اليدَ المضافة إلى الله على معنى القدرة أو النعمة أو الملك أو نحو ذلك من المعاني المناسبة للسياق … فلن يستطيع ابنُ تيمية ـ وأتباعه كذلك ـ أن يعترضَ على الأشاعرة باعتراضه المعروف وهو: أن هذا مجازٌ وتأويلٌ وتحريفٌ وتعطيلٌ؛ لأنه صرْفٌ للفظ عن حقيقته وظاهره المعروف عند العرب؛ وهو باطل ….!!!!
لأنه سيجيب الأشاعرةُ وبكل بساطة: ومَن قال لكم أصلا: إن القدرة أو المُلك أو النعمة ونحو ذلك هي معان مجازية لليد ؟!!!!! ألم تقرروا أنتم أنفسكم عكس ذلك تماما حين أنكرتَم المجاز، على ما سبق توضيحه ؟
ألم تقولوا بأن اليد لفظ مشترك يطلق على الجارحة والمُلك والقدرة والنعمة وغيرها من المعاني إطلاقا حقيقيا على كل هذه المعاني كالقرء والعين تماما …. وبالتالي فإن حَمْلَنا لليد على القدرة هو حملٌ لها على معناها الحقيقي لا المجازي كما سبق بيانه….
ولن يستطيعَ ابنُ تيمية وأتباعه أن يقولوا أيضا: إن حَمْل اليد على القدرة مثلا هو خلاف المعنى الظاهر المعروف لليد عند العرب …..
لأن الجواب حينها بسيط وهو أن يقال لهم: ألم تقرروا بأن اليد ليس لها معنى أصلا ، ولا سائر الكلمات أيضا لها أي معنى حين تكون مفردة، وإنما يكون لها معنى عند الاستعمال ووضْعها في سياق الكلام فتأخذ معناها منه لاسيما مع وجود القرائن….!!!!!
وإذا كان الأمر كذلك فيمكن أن يقول الأشاعرةُ : إن سياق الآيات والأحاديث التي أضيفتْ فيها اليدُ إلى الله ـ عز وجل ـ كلها محتفة بقرائن تدل على أن المراد منها أمرا آخر سوى الجارحة….وهذا سنبينه لاحقا إن شاء الله.
وكذا الأمر في الاستواء فلن يستطيع ابنُ تيمية وأتباعه أن يقولوا للأشاعرة إنكم تأولتم أو حرّفتم معنى الاستواء عن معناه في لغةِ العرب وفي القرآن، وهو العلو أو الاستقرار كما في قوله تعالى: { وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44]….
لأن الأشاعرة سيردون بكل بساطة: إنه لا معنى للاستواء أصلا في لغة العرب إذا كان منفردا كما قررتم… وإنما معناه يكون بعد الاستعمال ويحدده السياق والقرائن …ونحن وجدنا في سياق آيات الاستواء ما جعلنا نحمله على القهر والسيطرة والاستيلاء …وأما آية هود السابقة ونحوها فعلى التسليم أن معنى الاستواء فيها هو العلو أو الاستقرار الحسي فهو معنى مختص بها لدلالة السياق عليه، ولكل آية سياقها الخاص بها؛ فآيات الاستواء سياقها يختلف عن سياق آية هود وغيرها كما هو واضح، هذا فضلا عن أن الاستواء في آية هود السابقة منسوب إلى الخَلق، وهذا يختلف عن الاستواء المنسوب إلى الخالق.
وهذا ما قرره ابنُ عثيمين نفسه فقال في القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى (ص: 36): القاعدة الرابعة: ظاهر النصوص ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني وهو يختلف بحسب السياق، وما يضاف إليه الكلام، فالكلمة الواحدة يكون لها معنى في سياق ومعنى آخر في سياق، وتركيب الكلام يفيد معنى على وجه ومعنى آخر على وجه؛ فلفظ (القرية) مثلاً يراد به القوم تارة، ومساكن القوم تارة أخرى.
فمن الأول قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً} . ومن الثاني: قوله تعالى عن الملائكة ضيف إبراهيم: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} .
وتقول: صنعتُ هذا بيدي، فلا تكون اليد كاليد في قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} ، لأن اليد في المثال أضيفت إلى المخلوق فتكون مناسبة له، وفي الآية أضيفت إلى الخالق فتكون لائقة به، فلا أحد سليم الفطرة صريح العقل يعتقد أن يد الخالق كيد المخلوق، أو بالعكس.اهـ
قال وليد ابن الصلاح: وهذا ما نقوله نحن في اليد، فاليد المضافة إلى المخلوق مناسبة له، وهي العضو والجارحة، وأما اليد المضافة إلى الله فليست جارحة لأنها غير مناسبة لله، وإنما معنى اليد المضافة له تعالى هو ما سوى الجارحة مما هو لائق بالحق تبارك وتعالى…. وعليه فلماذا توقفتم في نفي الجارحة إذن؟!!!!!
وكذا نقول في الاستواء فهو إذا نُسب إلى المخلوق فمعناه المناسب له هو العلو والاستقرار والجلوس ونحو ذلك من المعاني الحسية، وأما إذا نسب الاستواء إلى الله فمعناه المناسب له هو القهر والسيطرة والاستيلاء ونحو ذلك من المعاني المعنوية …… وعليه : فكيف حملتم استواءَ الخالق على استواء الخلق في أن كليهما علوا حسيا ….!!!!
وهكذا يقال في سائر الصفات المتشابهة كالوجه والقبضة والساق والجنب والعين والنزول ووووووو… فكلها سيؤولها الأشاعرةُ دون أيِّ حرجٍ، وبطريقة أيسر وأسهل بكثير مما لو أقر ابنُ تيمية بالمجاز والتأويل …. لأن ابن تيمية لو كان يُقرُّ بالمجاز والتأويل يمكن له على الأقل أن يدّعي أن اليد مثلا معناها الحقيقي هو الجارحة والعضو فتُحمل عليه لأن الأصل هو حَمْل الكلام على الحقيقة ولا يصار إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة وعند وجود قرينة صارفة، وكذا يمكن أن يفعل في سائر الصفات الخبرية ….. أمَا وأنّ ابن تيمية وأتباعه أنكروا المجاز وادعوا بدله الاشتراك ـ كما رأينا ذلك عند الشيخ عبد المحسن البدر ـ ، وقرروا أيضا أن اليد وسائر الكلمات لا معنى لها أصلا عند الإفراد ، فلن يستطيعوا أصلا أن يقولوا إن اليد معناها الحقيقي هو الجارحة، وأن الاستواء معناه العلو والاستقرار، لما سبق بيانه مرارا….!!!!!
وهكذا يكون ابن تيمية وأتباعه استجاروا من الرمضاء بالنار … فإنهم فروا من المجاز إلى ما هو أشد منه وهو الاشتراك …وبالتالي فإن الأشاعرة وغيرهم من المؤولة سوف يكونون أسعدَ الناس بهذا الفرار … إذا سيكون حينها كل تأويلاتهم هي من باب الحقيقة…. ولن يدخلوا مع ابن تيمية وأتباعه في جدل طويل حول وجود المجاز في اللغة والقرآن من عدمه، ولا حول التأويل وجوازه من عدمه …. !!!
فكل هذا نحن بغنى عن الخوض فيه مع ابن تيمية وأتباعه… بل سنكتفي بالقول لابن تيمية وأتباعه: نحن لم نقل بالمجاز في آيات الصفات المتشابهة، وإنما حملنها كلها على الحقيقة التي دلنا عليها سياق آيات الصفات وأحاديثها …. فسياق الآيات والأحاديث التي أضيف فيها اليد إلى الله، فيها من القرائن ما دلنا على أن اليد ليس المقصود بها الجارحة، وإنما المقصود بها القدرة أو النعمة أو غيرها من المعاني المناسبة لتلك السياقات … وكذا حين حملنا الاستواء على القهر ، والوجه على الذات ، والنزول على نزول الرحمة …. فكل هذا الحمل إنما هو حقيقة دلنا عليها سياق تلك النصوص والقرائن الموجودة فيه الدالة على هذه المعاني…. تماما كما حملتُم آيات المعية على المعية بالعلم بدلالة السياق والقرائن الموجودة فيه ….!!!!
وحينها ماذا سيكون اعتراض ابن تيمية وأتباعه…؟!!!
إن غاية ما يمكن أن يعترض ابنُ تيمية وأتباعه حينها هو أن ينازعوا في دلالة هذا السياق أو ذاك على هذا المعنى أو ذاك ….فمثلا يمكن لهم أن يقولوا: لا نسلم لكم بأن آيات الاستواء دلت على أن معناه الاستيلاء، لأنه يلزم منه أن يكون العرش مغالبا لله …. ولا نسلم بأن اليدين مثلا في قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] بمعنى القدرة لأن القدرة لا تثنّى … إلى غير تلك الاعتراضات المعروفة ، فلابن تيمية وأتباعه أن يعترضوا بهذه الاعتراضات ونحوها …..ولكن هذا لن يفيدهم كثيرا لأمرين:
أولا: لأن دلالة القرائن والسياق على أهميتها البالغة إلا أن دلالتها ليست قطعية بل كثيرا ما تكون اجتهادية تتجاذبها الظنون والأفهام والميول لاسيما في الآيات المختلف في تفسيرها كآيات الصفات المتشابهة التي نحن فيها الآن…. وكم وكم يَستنبط أو يَلحظ هذا العالِمُ أو ذاك من هذا السياق أو ذاك ما لا يستنبطه وما لا يلحظه الآخر، دون أن يُنكر هذا العالِم على ذاك فيما لَحَظه من سياق هذه الآية أو تلك؛ لأن هذا أمر اجتهادي كما قلنا، كما أنه أمر يعتمد على شدة الذكاء، والعلم بالعربية وغيرها، وعلى الفتح والتوفيق من الله أولا وأخيرا، وكتب التفسير والفقه وغيرها مليئة بمثل ذلك ولا يتسع المقام لبسط ذلك الآن.
ثانيا: لأن هذه الاعتراضات بسيطة، والإجابة عنها ميسور، بل قد أجيبَ عنها مرارا …. وهي ـ أي هذه الاعتراضات ـ لا تساوي شيئا بجانب الاعتراض الأكبر الذي تنازل عنه ابن تيمية حين فر من المجاز وأنكره… فقد كان حاصل اعتراضه هو “أن المعنى الذي حَمل الأشاعرةُ عليه آيات الصفات وأحاديثها هو خلاف المعنى الظاهر والحقيقي لها، وأنه تأويل وتحريف وقول بالمجاز، وكل ذلك باطل”…. إلا أن هذا الاعتراض أصبح ظاهرَ البطلان الآن بكلام ابن تيمية نفسه وبكلام أتباعه كابن القيم والشيخ عبد المحسن البدر وغيرهما وذلك حين أبطلوا المجازَ وفروا منه إلى الاشتراك، وزعموا أن الكلمة لا معنى لها أصلا قبل الاستعمال….!!!!!
وهكذا نرى أن ابن تيمية هَدَم مذهبَه في الصفات برمته، وفتح بابَ التأويل على مصراعيه لخصومه الأشاعرة حين فر من المجاز وأنكره….. وليس هذا فحسب؛ بل إن ابن تيمية وأتباعه فتحوا بذلك التأويل لكل من هبَّ ودبَّ من الباطنية والقرامطة والفلاسفة والملاحدة فلهم أن يتأولوا ما شاؤوا من الآيات والأحاديث، وكيف شاؤوا، ثم يزعموا أن السياق والقرائن دلتهم على ذلك المعنى… وليس هذا فحسب بل لهم أن يزعموا أن ذلك المعنى ـ مهما كان بعيدا وباطلا ـ هو حقيقة وليس مجازا …وسوف يساعدهم على ذلك أمران :
الأول: هو أن هؤلاء يقولون بالتأويل دون ضوابط أو شروط…..خلافا للأشاعرة الذين جعلوا للتأويل شروطا وضوابطَ.
الثاني: هو ما قرره ابن تيمية وأتباعه حين أنكروا المجاز هو أن الكلمة ليس لها أي معنى قط قبل الاستعمال، وإنما يكون لها معنى عند الاستعمال، وقد تتعدد معانيها عند الاستعمال، ولكن كل تلك المعاني على وجه الحقيقة لا المجاز.
وهكذا يكون القرآن مرتعا ولكل زنادقة الأرض دون استثناء بفضل ما قرره ابن تيمية وأتباعه حين أنكروا المجاز …!!!!! ولا يتسع الآن المقام أيضا لضرب أمثلة توضح ذلك ….ولكن سوف أبسط ذلك في بحثي عن التأويل الذي سأشرع في نشره تِباعا قريبا إن شاء الله.
وبهذا أكون قد انتهيت من التنبية على المفارقة أو المغالطة التي يقع فيها ابن تيمية وأتباعه حين يثبتون اليدين على الحقيقة، ثم إذا أثبتنا لهم أن لفظ اليدين جاء لمعنى مجازي فحينها يفرون من المجاز إلى الاشتراك على ما سبق بيانه؛ وكذا يفعلون في سائر الصفات، وهذا الفرار منهم يهدم مذهبَ ابنِ تيمية في الصفات برمته على سبق توضيحه… وبعد هذا التنبيه الذي استغرق ستة منشورات في هذه السلسلة، من المنشور 21[4] إلى المنشور 26 الحالي، أنتقل الآن إلى الفصل الثاني وهو : أن قاعدة ابن تيمية السابقة في الإضافة لا دليل عليها أيضا…. وانظر اللاحق: https://www.facebook.com/groups/202140309853552/permalink/831951706872406/.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر السابق: https://www.facebook.com/groups/202140309853552/permalink/805548912846019/
[2] انظر: https://www.facebook.com/groups/202140309853552/permalink/803891203011790/
[3] انظر: https://www.facebook.com/groups/202140309853552/permalink/796966110370966/
[4] https://www.facebook.com/groups/202140309853552/permalink/796966110370966/