(2) التقرب إلى الله زلفى في تفسير قوله تعالى “مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى” (وليد الزير آدمن 9)
فإن قيل: إن آية الزمر: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى…} نعت بمنطوقها على المشركين اتخاذهم الأصنام وسائط تقربهم إلى الله، وشنّعت عليهم ذلك، فأفادت بالفحوى أن كل من يتخذ وسائط تقربه إلى الله فالآية تشمله، وعليه فتشمل الآية أيضا من يتخذ الأموات وأهل القبور وسائط تقربه إلى الله.
قلنا:كلامكم هذا يتضمن ادعاءين؛
الأول: قولكم : ” أن كل من يتخذ وسائط تقربه إلى الله فالآية تشمله “.
والثاني: ” فتشمل الآية أيضا من يتخذ الأموات وأهل القبور وسائط تقربه إلى الله”، وكلا الادعاءين باطلان، وبيان ذلك فيما يلي:
أما بطلان الادعاء الأول وهو: “قولكم: أن كل من يتخذ وسائط تقربه إلى الله فالآية تشمله “؛ فلأنه لا يخلو إما أن يكون التشنيع في آية الزمر على المشركين لأجل اتخاذهم مطلق وسائط ووسائل تقربهم إلى الله، وإما أن يكون التشنيع من أجل اتخاذهم عبادة الأصنام وسيطا ووسيلة يتقربون بها إلى الله.
أما الاحتمال الثاني وهو أن التشنيع من أجل اتخاذهم عبادة الأصنام وسيطا ووسيلة يتقربون بها إلى الله: فمسلّم؛ لأنه لا يجوز التقرب إلى الله بعبادة غيره تعالى ولذلك كذبهم الباري عز وجل في قولهم هذا فقال في آخر الآية: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3].
وكذلك نقول لا يجوز التقرب إلى الله بعبادة القبور والأموات، ومن فعل ذلك كفر وأشرك قولا واحدا، ولكن يبقى الخلاف بيننا وبينكم في تفسير العبادة، فهل من يسافر لزيارة القبور والدعاء عندها والتوسل بها والطواف حولها ونحو ذلك يكون عابدا للقبور بغض النظر عن حكم هذه الأفعال فقهيا، وهل آية الزمر فيها الدلالة على أن هذه الأفعال هي عبادة للقبور أو لغيرها؟ وقد سبق أن قلنا إن آية الزمر هذه ليس فيها تفسير للعبادة، فالواجب أن تُطلبَ تفسيرُ العبادة من أدلة أخرى وسوف سيأتي ذلك.
وأما الاحتمال الأول وهو أن التشنيع على المشركين في الآية لأجل اتخاذهم مطلق وسيط ووسيلة تقربهم إلى الله: فباطل من وجوه:
الوجه الأول: أنه لو صح هذا لبطل التقرب إلى الله بأي وسيلة كانت، أي أن الله لو كان يشنع على الكفار لأنهم يتقربون إلى الله مطلقا بغض النظر عن وسيلة التقرب مشروعة كانت أم غير مشروعة، للزم أن التقرب إلى الله محظور مطلقا، ولبطل التقرب إلى الله بالصوم والصلاة والحج والزكاة وبر الوالدين وووو…[1]، بل لبطلت العبادات كلها وانقلبت شركا لكونها تُقرّب إلى الله زلفى قياسا على ما قلتم من أن المشركين إنما أشركوا لكونهم يتقربون إلى الله زلفى؛ وهذا اللازم ظاهر البطلان، بل هو كفر وزندقة إذ كيف تكون الصلاة والصيام والحج وغير ذلك مما جاءنا به رسول الله: شركا؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاءنا إلا بالتوحيد المحض باتفاق بيننا وبينكم.
الوجه الثاني: أن هذا باطل أيضا بنص كلام الله، إذ يقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة : 35] أي تقربوا إلى الله بالأعمال الصالحة كما قال بذلك المفسرون من السلف والخلف([2])، فيجوز بالاتفاق بيننا وبينكم أن نتقرب إلى الله بما شرعه في الكتاب والسنة ونتخذه وسيلة تقربنا إلى الله زلفى، فنحن نتخذ الصدقة والأذكار وصلة الأرحام وإغاثة الملهوف والجهاد وحضور الجمع والجماعات وعيادة مرضى المسلمين والمشي في جنائزهم إلى غير ذلك من شرائع الإسلام كافة فكلها نتخذها وسائط ووسائل تقربنا إلى الله زلفى، ولو كان مطلق اتخاذ الوسائط والوسائل إلى الله محظورا أو شركا لبطلت كل شرائع الإسلام، وهذا ظاهر باطل، بل هو كفر بواح كما سبق.
الوجه الثالث: …..انتظره
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] وأنا تقربت إلى الله زلفى في كتابة بحثي هذا، ولذلك سميته: التقرب إلى الله زلفى في تفسير قوله تعالى “مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى”، أسأل الله القبول والإخلاص.
([2]) ومنه قول قتادة:”وابتغوا إليه الوسيلة”، أي: تقربوا إليه بطاعته والعملِ بما يرضيه.انظر: جامع البيان (10 / 291)، تفسير ابن كثير – (5 / 200)، تفسير أبي السعود 3/32، جهود علماء الحنفية في إبطال عقائد القبورية – (3 / 1506).