[2] ابن تيمية وأتباعه بين آيات الاستواء والعلو …وبين آيات المعية ونحوها… منهجٌ متسق أم مضطرب*….؟!!!!!!
في الواقع يمكن القول إن لمثبتي جهة العلو ،قولين في آيات المعية:
القول الأول وهو قول ابن تيمية وهو: أن آيات المعية ونحوها هي آيات محكمة وأنها تعني المعية بالعلم، وأن هذا هو الظاهر المتبادر إلى الذهن، وأن هذا هو تفسير السلف.
القول الثاني وهو قول ابن القيم وغيره، وهو: أن آيات المعية متشابهة فتُرد إلى آيات الاستواء والعلو المحكمة؛ فتُحمل على المعية بالعلم، وأن هذا ليس تأويلا بل تفسيرا، وأن السلف أجمعوا على تفسيرها بذلك ورَدِّها إلى آيات الاستواء التي حملها السلف على ظاهرها.
ويجتمع أصحاب هذين القولين على أن آيات الاستواء والعلو محكمة، ومحمولة على ظاهرها وهو أن الله في جهة فوق على العرش؛ ويتفقون أيضا في أن آيات المعية ونحوها محمولة على المعية بالعلم لا بالذات؛ وإنما يختلفون في أن هذا المعنى الأخير لآيات المعية هل هو ظاهر الخطاب وحقيقته، وبالتالي تكون آيات المعية محكمة كما ذهب إلى ذلك ابن تيمية وغيره؛ أم أن هذا المعنى للمعية ليس ظاهرا وإنما الظاهر منها هو أن الله معنا بذاته لا بعلمه، ولكن آيات الاستواء والعلو المحكمة تَرُد هذا المعنى المتبادر من آيات المعية، فضلا عن أن السلف حملوا آيات المعية على المعية بالعلم، وهذا ما ذهب إليه ابن القيم وغيره كما سيأتي بيانه.
فلدينا بابان إذن:
الباب الأول: مناقشة من ذهب إلى أن آيات المعية وأخبارها هي نصوص محكمة، ظاهرها وحقيقتها هو المعية بالعلم، وأنها لا تخالف آياتِ الاستواء المحكمة التي ظاهرها وحقيقتها أن الله على العرش بذاته؛ وهذا المذهب يمثله ابن تيمية وكثير من أتباعه.
الباب الثاني: مناقشة من ذهب إلى أن آيات المعية وأخبارها نصوص متشابهة تُردُّ إلى آيات الاستواء والعلو المحكمة، وهذا المذهب يمثله ابن القيم وغيره.
(ملاحظة: سوف نسير بعون الله في هذين البابين بالتوازي، حيث أنشر تارة منشورا للباب الأول، وتارة منشورا للباب الثاني)
أبدأ بالباب الأول: مناقشة من ذهب إلى أن آيات المعية وأخبارها هي نصوص محكمة، ظاهرها وحقيقتها هو المعية بالعلم، ولا تخالف آياتِ الاستواء المحكمة التي ظاهرها وحقيقتها أن الله على العرش بذاته؛ وهذا المذهب يمثله ابن تيمية وكثيرٌ من أتباعه.
ولقد حاول ابنُ تيمية أن ينتصر لهذا المذهب لاسيما في فتواه الحموية، لذلك سوف أسرد كلامه المتعلق بهذه المسألة فقرة فقرة…. ثم أنظر فيه بموازين علمية موضوعية….ثم أناقشه بالحجج والبراهين ….. وبالله التوفيق.
يقول ابن تيمية في الفتوى الحموية محاولا الجمع بين آيات الاستواء والعلو وبين آيات المعية ونحوها (ص: 69)[1]: ولا يحسب الحاسبُ أن شيئاً من ذلك يناقض بعضه بعضاً ألبتة؛ مثل أن يقول قائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}
وقوله صلى الله عليه وسلم: “إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه” ونحو ذلك فإن هذا غلط.
وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة، كما جمع الله بينهما في قوله سبحانه {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
فأخبر أنه فوق العرش، يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: “والله فوق العرش ويعلم ما أنتم عليه”[2].اهـ
كذا قال ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ وجوابه من وجوه:
أولا: إن هذا الذي قاله ابن تيمية ليس متعيِّنا… بل يمكن أن يعارِضه أصحابُ الأقوال الأخرى في هذه المسألة ويقولون مثل هذا الكلام فيجمعون بين آيات الاستواء وآيات المعية ولكن بما يوافق مذهبهم الذي هو خلاف مذهب ابن تيمية تماما.
فيمكن للأشاعرة ومن وافقهم أن يقولوا مثلا: إن آيات الاستواء والعلو محكمة ليست متشابهة، ولكن ليس ظاهرها أنها استواء وعلو حسي كما ما زعمتم أنه المتبادر إلى الذهن، بل ظاهرها المتبادر إلى الذهن هو الاستواء والعلو المعنوي؛ وما هو هو جوابكم هو جوابنا، وسيأتي تفصيل ذلك بشكل مطول جدا، وربما يكون مملا.
ويمكن أيضا لمن يعتقدون أن الله في كل مكان بذاته أن يعارضوا كلامَ ابنِ تيمية السابق حرفا بحرف بحيث يُنتج عينَ مذهبهم الذي هو خلاف مذهب ابن تيمية…. !!!!
وأنا سوف أسرد هذه المعارضة مستعيرا فيها بعضَ كلامِ ابنِ تيمية السابق ملونا ـ وهذا التلوين يظهر طبعا في ملف الوورد ـ وبين قوسين هنا كهذين ()، للتنبيه على أن قوله يمكن أن يستعيره خصمه في تقرير مذهبه الذي هو عكس مذهب ابن تيمية تماما.
وإليكم هذه المعارضة، التي يمكن أن يقال فيها ما يلي: إن الله في كل مكان بذاته كما قال تعالى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد:4] وكما في:{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ } [الأنعام: 3]، وغيرها من آيات المعية؛(ولا يحسب الحاسب أن شيئاً من ذلك يناقض بعضه بعضاً ألبتة؛ مثل أن يقول قائل: ما في الكتاب والسنة من) أن الله في كل مكان بذاته يخالفه الظاهر من قوله { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] ، وقوله { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16]، وقوله {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]، وقوله {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62] ، وقوله { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158] وقوله صلى الله عليه وسلم للجارية أين الله، فقالت: في السماء، (ونحو ذلك فإن هذا غلط؛ وذلك أن الله معنا حقيقة) وهو في كل مكان بذاته، (وهو فوق العرش حقيقة، كما جمع الله بينهما في قوله سبحانه {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فأخبر أنه فوق العرش) بذاته، وهو معنا أينما كنا بذاته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ عند الشيخين ” اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم “.انتهت المعارضة المفترضة.
وبالتالي فإن ما قاله ابن تيمية في الحموية ليس بأولى من عكسه على هذا التقرير الأخير، بل إن العكس أولى؛ لأن من يقول إن الله في كل مكان مستدلا بآيات المعية لا ينافي قولَه قط آياتُ الاستواء والعلو، كيف؟ وهذا القائل يزعم أن الله في كل مكان وفي كل جهة، فقوله “الله في كل مكان” يشمل كل الأمكنة بما فيها المكان الذي فوق العرش؛ وقوله “في كل جهة” يشمل جهةَ العلو كما هو ظاهر، وهذا ما صرح به من ذهبوا هذا المذهب حيث قالوا: ” بأن الله في كل مكان، وأنه مع ذلك مستو على عرشه “…!!!!
وهذا نقله ابنُ تيمية نفسه عنهم فقال في بيان تلبيس الجهمية (3/ 289): فهذه أقوال الجهمية متكلمهم ثَمَّ طائفة تقول هو بذاته فوق العرش وفي كل مكان كما ذكر كذلك الأشعري في المقالات عن زهير الأثري وأبي معاذ التومني وإخوانهم فقال إنهم يقولون إن الله بكل مكان وأنه مع ذلك مستوٍ على عرشه[3].اهـ
ثم راح ابن تيمية يرده مبينا فساده؛ ولكن مذهب ابن تيمية أشد فسادا كما سيأتي مفصلا؛ والمقصود هنا أن كلام هؤلاء في التوفيق بين آيات المعية وبين آيات الاستواء والعلو ـ على بطلانه ـ أقرب من كلام ابن تيمية؛ بل توفيقهم ظاهر جدا لما سبق بيانه، وأما توفيق ابن تيمية فهو متكلف جدا بل باطل كما سيأتي.
وأما قول ابن تيمية: “وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس في اللغة ظاهرها إلا المقارنة المطلقة، من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال…..” انظر اللاحق: https://www.facebook.com/groups/202140309853552/permalink/797876323613278/
وانظر المنشور الأول من الباب الثاني: https://www.facebook.com/groups/202140309853552/permalink/794493470618230/
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*انظر السابق: https://www.facebook.com/groups/202140309853552/permalink/772636202803957/
[1] وقد وضع محققُ الكتاب د. حمد التويجري عنوانا جانبيا لهذه الفقرة وهو: [لا تعارض بين نصوص المعية وبين نصوص العلو].
[2] الفتوى الحموية الكبرى، المحققة، ص520
[3] وانظر للتوسع : الآثار المروية في صفة المعية (ص: 73) ، ومقدمة تحقيق كتاب العرش للذهبي (1/ 180) كلاهما للدكتور محمد بن خليفة التميمي.