الشيخ محمد سالم بحيري
هل خالفَ المذهبُ الشافعيُّ – أو غيرُه – الدليلَ ؟ (حوارٌ مع صديقي غير المتمذهب)
بعض أهل الزمان ينفر من مسألة التمذهب ، زاعمًا أن التمذهب خلاف الأخذ بالدليل ، وأن الواجب على طالب العلم أن لا يتبع مذهبًا معينًا ، وإنما يتبع ما دلَّ علبه الدليلُ .
والذي سبب هذا الضرب من الفهم عدة إشكاليات في أفهام بعض أهل الزمان :
• الإشكالية الأولى : محاكمة الأدلة المستدل بها في كتب المذاهب – من جهة الثبوت – إلى كلام عالم واحد أو عالمين في الحديث .
فإذا كان الدليل المحتج به في كتب المذهب قد صححه هذا العالم فالمذهب احتج بالصحيح ، وليتبع ، وإذا كان الدليل المحتج به قد ضعفه هذا العالم فدليل المذهب ضعيف ، وهذا مسلك عجيب ؛ إذ إن الذي يريد أن يرمي مذهبًا بمخالفة صحيح الأدلة في مسألة ، أو بالاستدلال بضعيفها ، عليه أولًا أن يثبت العرش ثم ينقش ، فعليه أن ينظر في أقوال الحفاظ في الدليل صحة وضعفًا ، ولا يحملنا على مذهب العالم أو المحدث الذي يقلده ، مهما بلغ علمه وجلالته .
وبالجملة ؛ فصاحبنا المنكر على المذهب – في الغالب – مقلد لعالم معين في التصحيح والتضعيف ، ومن ثم فلا يجوز له الإنكار على المذهب ، فضلًا عن رمي المذهب بمخالفة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فضلًا عن اتهام أصحابه بالتعصب .
مثالٌ على ذلك : يقول قائلٌ : «إن المذهب الشافعيَّ خالف الدليلَ ، فقد أجاز الإمام الشافعيُّ بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ، وقد أخرج الترمذي بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة» .
وصاحبنا هذا قد اتهم المذهب الشافعي بمخالفة الدليل ؛ لأنه ما عرف إلا أحكام هذا العالم ، ولو اطلع – إذا أراد أن يطلع – لوجد الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله – وهو الحافظ الناقد – قد ضعف الحديث ، ويقول : «ليس فيها حديثٌ يعتمد عليه ، ويعجبني أن يتوقاه» ، فضلًا عن كلام الحفاظ النقاد في كل طريق من طرق الحديث .
• الإشكالية الثانية : الجهل بأصول هذه المذاهب :
أكثر المنكرين على المذاهب إنما يؤتون من جهلهم بأصولها ، ومن يريد أن يحاكم مذاهبًا معينًا من جهة موافقته للدليل وعدمه لا بد أن يلم بأصوله إلمامًا جيدًّا من خلال كتب أصحاب المذهب في الأصول ؛ كيلا يرمي المذهب بمخالفته الدليل .
مثالٌ : كم اعْتُذِر عن الإمام أبي حنيفة – رحمه الله – في قوله : «يجوز للمرأة تزويج نفسها بنفسها بكفءٍ ومهر» بأن الحديث لم يبلغه ، ورغم أن هذه الاعتذار فيه ما يحمد من حيث إنه أدبٌ مع إمام جليل ، إلا أنه يذم من حيث إنه كلام فيما لا يحسن المرء ، وقفزٌ على أصول السادة الحنفية ، ذلك أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله ما ترك العمل بخبر إبطال النكاح بلا ولي ؛ إلا لأن من أصله – كما قال أصحابه* – اشتراط ألا يخالف خبرُ الوَاحِد ما هو أقوى مِنْه من كتابٍ أو سُنَّة متواترةٍ ، وقد خَالَف خبرُ [أَيُّمَا امرأةٍ …] عِنْدَه – وهو أَصْرَحُ مَا فِي البَابِ – قَولَهُ تَعَالَى ﴿ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ ، في إسناد النكاح إليهن لا إلى الأولياء ، وكذلك من الجهة الحديثية فإن الزهري راوي الحديث قد أنكر أن يكون قد حدث سليمان بن موسى به ، وهذا قادح عند أبي حنيفة رحمه الله…
اتفق مع هذا أو اختلف ، ولكن المذاهب لا تؤخذ بالصدور والأذرع.
• الإشكالية الثالثة : إشكالية تداخل الأصول .
ونعني بتداخل الأصول أن الدليل الواحد قد يتنازعه أكثر من أصل ، فيتعلق الناظر بأصل ، ويغفل عن الأصول الأخرى ؛ متهمًا المذهب بمخالفة الدليل ، أو بمخالفة أصله الذي سطر في تصانيف الأصول .
فمثلًا : يعترض معترض على تجويز تمني الموت لضر ديني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به» ؛ متعلقًا بالنهي الوارد في صدر الحديث ، وهذا الدليل قد تداخلت فيه أصول ، منها دلالة النهي على التحريم ، ولكن ثم أصل آخر ، وهو حمل المطلق على المقيد حالة اتحاد الحكم والسبب ، وقد وردت رواية أخرى مقيدة : «لضر نزل به في الدنيا» ، فحمل المطلق على المقيد ، ومن ثم فالضرر الذي يحرم تمني الموت من أجله هو الضرر الدنيوي ، أما الضرر الديني فيجوز فيه تمني الموت .
فصاحبنا قد أُتِي من هذه الجهة : أنه تعلق بأصل ، وغفل عن آخر ، في دليل قد تداخلت فيه الأصول .
الإشكالية الرابعة : إشكالية تصور القرينة .
كثيرٌ من الأوامر التي اتفق علماءُ المذاهب الأربعة على حملها على الاستحباب قد حملها بعض أهل الزمان على الوجوب ، وكذلك الحال في النواهي ، وهذا لإشكال في تصور القرينة ، فبعض أهل الزمان لا يتصور إلا القرينة المقالية ، ولا يسمع بما سماه الأصوليون «القرينة الحالية» ، والتي صرف بها الفقهاء أوامر كثيرة من الوجوب إلى غيره ، وصرفوا بها نواهي من التحريم إلى غيره .
• الإشكالية الخامسة : تلقي الفقه المقارن عن كتب مُشَوَّهة ؛ للضعف العلمي لأصحابها .
فمن البلايا المعاصرة ما تراه في بعض السندوتشات الفقهية المعاصرة ، المسماة خطأ بـ«كتب الفقه المقارن» أو «الفقه على الراجح» … وذلك في طريقة الاستدلال للمذهب المخالف .
حيث ترى صاحبنا حواشًا يستدل بأي شيء وقف عليه في كتب المذهب أو في كتب غيره أو في كتب التخريج ، ولا يفرق بين الدليل المعتمد عليه في الاستدلال والدليل المستأنس به .
مثالٌ : في «سندوتش من السندوتشات الفقهية المعاصرة» (ج1/ص59) : «يجوز السواك بعد الزوال للصائم على الراجح من أقوال أهل العلم ؛ لعموم الأدلة السابقة … وهذا قول عمر ووو… ومالك وأبي حنيفة والمشهور من مذهب أحمد لعدم وجود دليل مانع من استعماله ؛ حيث أن ما استدل به من منع من السواك بعد الزوال كحديث عليٍّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا صمتم فصوموا فاستاكوا بالغداة ، ولا تستاكوا بالعشي) ، فالرد عليه أن أن الحديث ضعيف ؛ لجهالة بعض الرواة ولين البعض» .
هكذا طار صاحبنا بتضعيف الحديث لعدم تفريقه بين المعتمد في الاستدلال والمستأنس به ، وأظهر الشافعية (وهم أصحاب هذا القول) بمظهر المستدل بالضعيف ، وصاحبنا المحقق قد بين لهم ضعف دليلهم .
والذي لا يعرفه صاحبُنا أن الشافعية قد بينوا ضعف الحديث منذ ألف سنة تقريبًا قبل أن تكتحل أعينُنا برؤيته الكريمة ، حيث ضعف الحديثَ الإمام البيهقيُّ (ت458هـ) في «معرفة السنن الآثار» (ج6/ص333) ، وكذا من بعده ، وليس الدليل هو المعتمد في الاستدلال أصلًا .
أما الدليل المعتمد في الاستدلال على كراهة السواك بعد الزوال ، فهو حديث البخاري : «لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» ، فقال الشافعية : لما كان الخلوف أثر عبادة مشهود بها بالطيب كرهت إزالته كدمِ الشهيد .
اتفق مع هذا أو اختلف ، ولكن قبل أن تصنف للأمة في الفقه المقارن تعرف على منهج الاستدلال للمذاهب .
• الإشكالية السادسة : القصور في الاطلاع على آثار الصحابة :
لا يخفى على أحد أن الكتب المعتنية بآثار الصحابة كمصنف ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وسنن البيهقي الكبرى وتهذيب الطبري ونحوها لا يكاد يطلع عليها في هذا الزمان إلا قليلٌ من الناس ، فلهذا القصور تتهم كثير من آراء الأئمة بأنها لا سلف لها ، أو أنها تخالف إجماعًا سكوتيًّا ، أو نحو ذلك .
فترى مثلًا قائلًا يقول لك : «إن مذهب الشافعية قد خالف الدليل حيث كره الإسبال لغير خيلاء ، ولم يحرمه ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أنكر على الشاب الذي أتاه يعوده في مرض موته ، فقال له : (ارفع ثوبك ؛ فإنه أتقى لربك …) .
وصاحبنا هذا عنده مشكلتان ، مشكلة في فهم دلالة الأثر ، ومشكلة في الاطلاع على آثار السلف .
أما المشكلة الأولى : فإن قول عمر رضي الله عنه من أقوى ما يستدل به على الكراهة التنزيهية لا الحرمة ؛ إذ في استعمال عمر رضي الله عنه لصيغة التفضيل دلالةٌ واضحةٌ على ذلك ، كما لو قلت : «زيد أتقى من خالد» ؛ فإنك لا تنفي التقى عن خالد ، وإنما تثبت فضيلة لزيد على خالد في التقي ، فكذلك أثبت عمر رضي الله عنه فضيلة لحال تقصير على الإزار على إسباله .
فالأثر في الحقيقة دال على الكراهة التنزيهية لا التحريمية .
وأما المشكلة الثانية فهي عدم الاطلاع على آثار السلف في المسألة ، مع كثير من التجرأ على نسبة فهمه هو – هو هو – إلى السلف في المسألة الفروعية ، وهذان أثران عن السلف في المسألة ، فضلًا عن أثر عمر رضي الله عنه ذي الدلالة القوية على الكراهة :
• فقد ثبت عن أبي إسحاق السبيعي أنه قال : «رأيتُ ابنَ عبَّاس – رضي الله تعالى عنه – أيام منى طويل الشعر ، وعليه إزار فيه بعض الإسبال ، وعليه رداء أصفر» .
هذا الأثر أخرجه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (1/314) وابن سعد في «الطبقات» (6/344) والطبراني في «المعجم الكبير» (10/288) من طريق الفضل بن دكين وزحمويه كلاهما عن شريك عن أبي إسحاق السبيعي به.
وشريك هو ابن عبد الله النخعي ، وفيه مقال مشهور من جهة تغير حفظه بعد توليه القضاء ببغداد ، إلا أنَّ أحد الراويين عنه واسطي ، وهو زكريا بن يحيى بن صبيح اليشكري الواسطي ، الشهير بزحمويه ، وحديث أهل واسط عن شريك جيد ، فقد قال ابن حبان – رحمه الله – في «الثقات» (6/444) : «سماعُ المتقدمين عنه الذين سمعوا منه بوَاسِط ليس فيه تخليط مثل يزيد بن هارون وإسحاق الأزرق ، وسماع المتأخرين عنه بالكوفة فيه أوهام كثيرة».
وقد حسَّنَ الأثرَ الهيثميُّ رحمه الله في «مجمع الزوائد» (9/464) .
• ثبت عن أبي وائل أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يسبل إزاره ، فقيل له ، فقال : «إني رجل حمش الساقين» .
هذا الأثر قد أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (8/202) قال : حدثنا وكيع عن سفيان عن منصور عن أبي وائل عن ابن مسعود به ، وهذا إسنادٌ لو قرئ على مجنون لأفاق !
وقد جوَّده الحافظ ابن حجر رحمه الله في «فتح الباري» (10/264) ، وللأثر طريق أخرى أخرجها البغوي في «معجم الصحابة» (3/465) ، ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (33/149) ، عن زياد بن أيوب نا هشيم أخبرنا سيار عن أبي وائل أن ابن مسعود رأى رجلًا قد أسبل فقال : «ارفع إزارك» ، فقال : «وأنتَ يا ابن مسعود فارفع إزارك» ، فقال عبد الله : «إني لست مثلك ، إن بساقي حموشة ، وأنا أؤم الناس» ، فبلغ ذلك عمر ، فجعل يضرب الرجل ، ويقول : «أتَرُدُّ على ابن مسعود ؟!» .
قال ابن منظور في «لسان العرب» (11/321) : « يُقالُ : أسبلَ فلانٌ ثيابَه إذا طوَّلَها وأرسلَهَا إلى الأرض» .
• الإشكالية السابعة : التوهم أن نظره يساوي نظر المجتهد في الدليل :
أكثر الذين يزعمون الاجتهاد في الأدلة ، ويردون على الأئمة استدلاتهم لا يزعمون بألسنتهم مساواتهم في العلم والفضل للأئمة الكبار ، وإنما يزعمون ذلك بالفعل ، فإذا ذكرتُ لكَ احتجاجَ الشافعي على مسألة معينة تسمع ردود من أنواع : «ليس في الحديث دلالة … استدلال ضعيف … يخالف القاعدة التي تقول … ونحو ذلك » .
وصاحبنا هذا لا بد أن يعلم أن الفرق بين عينه الناظرة في الدليل وعين الشافعي وأحمد ومالك وأبي حنيفة والأوزاعي وغيرهم كالفرق بين عين مجردة وعين ميكروسكوبية .
فالمجتهد حينما ينظر في الدليل يتبدى له أضعاف أضعاف ما يتبدى لك من استنباطات وإيرادات على الاستنباطات وإيرادات على الإيرادات .
مثالٌ على ذلك : الحديث المشهور في صلاة الجماعة بهم النبي صلى الله عليه وسلم بتحريق المتخلفين عن الجماعة ، في كل جملة من جمل هذا الحديث استنباطات وإيرادات تأتي على ذهن المجتهد ، قد خطرت لك حين النظر في الدليل .
وأضرب مثالًا بقضية واحدة ، وهي قضية الهم ، هم النبي صلى الله عليه وسلم بفعل معين ، هل هو فعل أو قول أو قسم برأسه ؟ وهل هو حجة مطلقًا أو ليس بحجة ؟ وإذا كان حجة فهلْ ثَمَّ تفصيلٌ بين المَعْدُول عنْهُ والمُحَال دُونَهُ والخَارجِ مخرجَ الذَّمِّ ؟ وهل ثم تفصيلٌ بين المعدول عنه لمصلحة راجحة أو لمجيء وحي أو لصواب في خلافه ؟ وهل ثم تفصيلٌ بين المُحَال عنه بشرعيٍّ أو حسيٍّ ، وهل وهل ؟
كل هذا في كلمة واحدة في الحديث : «لقد هممتُ …. » ، فما بالك بما يرد على ذهنه في بقية كلمات الحديث ؟!!
ثم إذا أجبت عن هذه الأسئلة – ولا إخالك – فهل يَطَّردُ ذلك معك في بقية الفروع الفقهية من الطهارة إلى أمهات الأولاد أو ستخالف قاعدتك ؟!
نسأل الله أن يعلمنا …
رجاء أخير : قبل أن تتعقب هذا المنشور – أخي الحبيب فضلًا – بقاعدة أصولية ، أو قاعدة فقهية ، أو قولٍ عن السلف الكرام عليهم الرضوان ، أو قولٍ لأحد أهل العلم ، برجاء تحقيق فهمه عند أهل العلم ، ولا يكون شقشقة تُرَدَّد !
والسلام …
*«أصول الشاشي» (ص280) ، «أصول الجصاص»( ج3/ص183) ، «كشف الأسرار عن أصول البزدوي» (ج3/ص97) .
لماذا يُصْدَمُ السلفيُّون بالآراء الفقهية للمذاهب .
أحدُ أهم أسباب صدمة أبناء التيار السلفي عند سماع آراء المذاهب : فساد منهجية التفقه عندهم .
فالطالب السَّلفيُّ الرَّاجحيُّ : غاية ما يعرف من الفقه وعلومِه ، أن يدرسَ كتابًا في الفروع الفقهية كـ«فقه السنة» و«صحيح فقه السنة» أو «تمام المنة» ونحوها ، وكتابًا معاصرًا في أصول الفقه كـ«معالم أصول الفقه» أو «الواضح» وما شابهه .
ولا يزيد على هذه الكتب ولا ينقص إلا من مثيلاتها وأشباهها ، هذا إن درسها أصلًا .
وهذه الكتبُ لن تصنع معشارَ أصوليٍّ ولا فقيهٍ حتى يلجَ الجملُ في سَمِّ الخياط .
أمَّا الطالبُ المتمذهبُ فإنه يدرسُ علومًا عشرة على سَنَن أهل الصناعة من تصانيفها التراثية ، تشكل هذه العلومُ البناءَ الاستدلالي في عقلية الفقيه .
فيدرسُ أولًا في «أصول الفقه» : القوانينَ العامَّة للاستدلال في مذهبه .
ثمَّ يدرس ثانيًا في «الفقه» إعمالَ هذه القوانينِ في أدلَّة الشريعة في آلاف الأحكام ، ويتأمل صنائع المجتهدين ، فيتشرب عنهم الصناعة .
ثمَّ يدرس ثالثًا في «علم القواعد الفقهية» الأحكام الفقهية الكلية التي تكونت بالاستقراء وجمع النظير إلى نظيره ,
ثم يدرسُ رابعًا في «علم الفروق الفقهية» الفروق المؤثرة التي أوجبت تخالف الأحكام بين المسائل المتشابهة في الصورة دون المعنى .
ثمَّ يدرسُ خامسًا في «علم الجدل على طريقة الفقهاء» صناعة إقامة الحجة ، ويسبر نواقضها وقوادحها .
ثمَّ يدرسُ سادسًا «علم تخريج الفروع على الأصول» ، بعد أن استوى عوده في الأصول ، واستقام أملوده في الفروع ، فيربط أصل المذهب بفرعه ، ويقف على أسباب الخلاف الدلالية .
ثم ينتقل سابعًا إلى مطالعة «علم الخلافيات» إذا استوى على سوقه وضبط مذهبه.
ثمَّ إذا أراد أن ينتقل إلى مطولات الأصحاب ، فإنَّ لفهمها فقهًا ؛ درسَ ثامنًا علمَ «فقه عبارة المذهب» ، وتلقى عن الأئمة صنعة تفسير نصوص الأصحاب ، ومراتب النصوص.
ثمَّ طالع تاسعًا تصانيف «الفتوى والنوازل» ، واطلع على طريقة الأصحاب في تنزيل الأحكام المجرَّدة على نوازل المستفتين وأحوالهم ، وتلقى عنهم صناعة الفتوى .
ثمَّ طالع عاشرًا طبقات الأصحاب ، ورأى من أحوالهم في التدريس والتصنيف ، وعلم منهجياتهم في تلقي المذهب وتعليمه الناس .
تلكَ عشرة كاملةٌ ، لا يستقيم بناء العقلية الفقهية إلا بها .
فإذا تلقى عن تصانيفها المدرسية = شرع في مطولات الأصحاب ينهل من عبابهم .
فإذا أرادَ مذهبًا آخر صنع فيه مثل الذي صنع في مذهبه .
ولذلك كان أهل العلم قديمًا يحكُون متعجبين فيقولون : «فلان يفتي على مذهبين» ، ويستكثرونها ؛ لأنهم يعلمون قدر العلم ، فالعلم بالمذهب ليس علمًا بمجموعة من الفروع ، وإنما علمٌ بفروعه وأصوله وقواعده وفروقه إلى آخر علومه العشرة .
وبهذا تعلم عظمة قولة الحافظ الذهبي رحمه الله في «السير» : «ولم يبقَ اليومَ إلا هذه المذاهب الأربعة ، وقلَّ من ينهَضُ بمعرفَتِها كما ينبغي ، فضلًا عن أن يكون مجتهدًا».
طبعًا ؛ كلامنا هذا لا يعني أن كل متمذهب قد ألمَّ بهذه العلوم ، بل من المتسمين بأسماء المذاهب من لا يعلم يمينه من شماله في مذهبه ، ولكن من تمذهب ودلَّ على الطريق فقد وضع رجله على أول طريق الصناعة من خلال هذه العلوم العشرة .
ومع ذلك فالمذاهب شديدة ، تحتاج إلى عمرٍ وبذلٍ وجهدٍ كبير .
أما هذه الكتب التي يعكف عليها أبناء التيار السلفي فلم تصنع ولن تصنع معشار فقيه ولا أصولي .
ولو جرَّبُوا ، ووضعوا أرجلهم على أول طريقها لعلموا أنهم كانوا في معاهد إعداد الدعاء يتثقفون ، ولا يتعلمون حقَّ العلم ، إنما هي قصاصات ، ومع ذلك خرجُوا شاهرين سيوف تراجيحهم على رقاب عباد الله سبحانه .
يا أخي حتى في الفهم ؛ طالب «الإقناع» ونحوه لا يصعب عليه شيءٌ من كتبهم ، أما الطالب الراجحيُّ الذي درس هذه الكتب لا يستطيع أن يحل مسائل المياه في أقل مصنَّف مذهبي .
يا أخي حتى في الشكليات ؛ تجد الطالب المتمذهب عالمًا بالمسائل المشهورات وألقابها كـ«حريم النجاسة» و«مد عجوة ودرهم» و«البئر جحط» و«الدينارية» و«الامتحان» و«وأم الجناحين» و«برذون ابن القاسم» وغير ذلك .
ورغم أن هذه الأخيرة ملح وشكليات من وجهٍ ما ، ولكن لها دلالة .
سبحانَ الله ، طالبٌ يدرسُ علومًا عشرة من معاقدها التراثية ، ويطالع فيه مطولات أهلها من أهل التحقيق ، ثم لا يستحل أن يُرَجِّح لعلمِه بعدم تأهله ، بل إن حاكَ في نفسه ظاهرُ دليلٍ يخالفُ قولَ إمامه تلمسَ إمامًا قال بمقتضاه فقلده ، وعدل عن قول إمامه تقليدًا لإمام آخر لا اجتهادًا (كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية) .
وطالبٌ يدرسُ «صحيح فقه السنة» و«الواضح» ، ويسطب المكتبة الشاملة ، فيرجح .
اللهم بلغتَ ، اللهم فاشهد .