مسألة الاجتهاد في الأصول والفروع وأقوال العلماء في تعدد الحق فيهما…. وتحقيق مذهب الشافعي في ذلك.
قال الإمام العمراني ـ رحمه الله ـ في البيان في مذهب الإمام الشافعي (13/ 59): إذا اجتهد اثنان أو أكثر في حادثة، فأدى كل واحد منهم اجتهاده إلى خلاف ما أدى الآخر اجتهاده إليه.. نظرت: فإن كان ذلك في أصول الدين؛ مثل الرؤية، وخلق القرآن، وخلق الأفعال، وما أشبه ذلك.. فإن الحق في واحد من الأقوال؛ لأن الله تعالى قد نصب دليلا عليها كلف المجتهد إصابته، فإن أخطأه.. كان مذموما عند الله، وبه قال عامة أهل العلم.
وقال عبيد الله بن الحسن العنبري: كل مجتهد في ذلك مصيب. وهذا خطأ؛ لأن الخلاف في ذلك يعود إلى الاعتقاد، ولا يجوز أن يعتقد اثنان في شيء واحد اعتقادين مختلفين ويكونا مصيبين.
وإن كان في الفروع.. اختلف أهل العلم فيه على ثلاثة مذاهب:
فـ[الأول] : منهم من قال: الحق عند الله في واحد من الأقوال وقد نَصب الله عليه دليلا وأمر بالتوصل إليه والنظر فيه، فمن أداه اجتهاده إليه.. كان مصيبا عند الله ومصيبا في الحكم، وله أجران: أجر لاجتهاده وأجر لإصابته الحق. وإن أخطأه.. كان مخطئا عند الله مخطئا في الحكم، إلا أنه لا يأثم وله أجر. وبه قال مالك وجماعة من أهل العلم.
و [المذهب الثاني] : منهم من قال: الحق عند الله تعالى في واحد من الأقوال، فمن أداه اجتهاده إليه.. كان مصيبا عند الله في الحكم، وله أجران. فإن أخطأه.. كان مخطئا عند الله ومصيبا في الحكم وذلك فرضه وله أجر عليه. وبه قال أبو حنيفة وأهل العراق.
و [المذهب الثالث] : منهم من قال: كل مجتهد مصيب، والحق في قول كل واحد من المجتهدين، وفرض كل واحد من المجتهدين ما يغلب على ظنه ويؤديه إليه اجتهاده. وبه قالت الأشعرية والمعتزلة وأكثر المتكلمين.
واختلف أصحابنا في حكاية مذهب الشافعي في ذلك:
فذهب أبو إسحاق المروزي، والقاضي أبو الطيب، وأكثر أصحابنا: إلى أن مذهبه هو الأول، قولا واحدا.
ومنهم من قال: بل له في ذلك قولان:
أحدهما: أن الحق عند الله في واحد من الأقوال، إن أصابه.. كان مصيبا للحق عند الله وفي الحكم، وإن أخطأه.. كان مخطئا عند الله وفي الحكم، ولا إثم عليه.
والثاني: أن الحق عند الله في واحد من الأقوال، إن أصابه المجتهد.. كان مصيبا عند الله وفي الحكم، وإن أخطأه.. كان مخطئا عند الله مصيبا في الحكم.
واختار الشيخ أبو حامد هذا الطريق، قال: لأن للشافعي – رَحِمَهُ اللَّهُ – مسائل مثلها على قولين:
منها: إذا اجتهد في القبلة، فصلى إلى جهة، ثم تيقن بعد الفراغ منها أنه صلى إلى غير جهة القبلة.
ومنها: إذا اجتهد الأسير فصام شهرا، فبان أنه صام قبل شهر رمضان.
ومنها: إذا دفع الصدقة إلى من ظاهره الفقر، ثم بان أنه غني.
والمشهور من المذهب هو الأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] [الأنبياء: 79] .
وذلك: (أن غنما لقوم دخلت كرم قوم فأفسدته، فترافعوا إلى داود – عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فقضى بالغنم لصاحب الكرم، فأخبر سليمان – عَلَيْهِ السَّلَامُ – بذلك، فقال: لا، ولكن يدفع الغنم إلى صاحب الكرم لينتفع بها ويدفع الكرم إلى مالك الغنم ليعمره، فإذا عاد إلى حالته.. رده إلى صاحبه، وردت الغنم إلى صاحبها، فبلغ ذلك داود، فرجع إليه، فأخبر الله سبحانه: أنه فهم القضاء سليمان. فلو كان الحق في قول كل واحد منهما.. لكان كل واحد منهما قد فهم القضاء) . وروي: أن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب.. فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ.. فله أجر واحد» . فجعل أحدهما مصيبا والآخر مخطئا. ولأنه فاضل بينهما في الثواب، فدل على اختلافهما في الإصابة.
إذا ثبت هذا: فإن المخطئ يؤجر للخبر، وبماذا حصل له الأجر؟ فيه وجهان حكاهما أصحابنا العراقيون، وحكاهما الخراسانيون قولين:
أحدهما: أنه يؤجر على قصد الاجتهاد، كمن اشترى عبدا فأعتقه، فبان حرا.. فإن عتقه لم يقع موقعه ولكنه يؤجر على القصد، وكما لو رمى رجلان كافرا، فأصابه أحدهما.. فإن المصيب يؤجر للقصد والإصابة، والمخطئ يؤجر للقصد.
والثاني: أنه يؤجر للاجتهاد، كرجلين سلكا إلى الجامع أو إلى مكة طريقين بالاجتهاد، فضلّ أحدُهما عن الطريق فلم يَصل.. فإنه يؤجر على ما أتى به من الفعل. والأول أصح.اهـ
وأضاف في البيان في مذهب الإمام الشافعي (13/ 61):
[مسألة تبين خطأ الحاكم بعد الحكم]
وإن حكم الحاكم بحكم، ثم بان أنه أخطأ في ذلك الحكم، أو رفع إليه حكم غيره، وبان أنه أخطأ في حكمه.. نظرت: فإن كان الحكم الأول مما لا يسوغ فيه الاجتهاد؛ مثل أن يكون قد خالف نص الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الجلي.. نقض الحكم الأول؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] [النساء: 59] . وأراد به الكتاب والسنة. وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] [المائدة: 49] . وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] [الشورى: 10] . وروي عن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «من أدخل في ديننا ما ليس فيه.. فهو رد» . يعني: مردودا. وعن عمر: أنه قال: (ردوا الجهالات إلى السنة) ، وكتب إلى أبي موسى: (لا يمنعنك قضاء قضيت به، ثم إذا راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق؛ فإن الحق قديم لا يبطله شيء، وإن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل) . وروي: أن عمر – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – كان لا يورث المرأة من دية زوجها حتى قال له الضحاك بن قيس: «كتب إلي رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها» . فرجع عمر. «وروي: أن عمر – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – كان يفضل دية الأصابع بعضها على بعض، فقيل له: إن النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: في كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل. فرجع عن ذلك» .
فإن كان الحكم الأول مما يسوغ فيه الاجتهاد؛ بأن لم يخالف نص الكتاب أو السنة، أو إجماعا، أو قياسا جليا.. لم ينقضه على نفسه أو على غيره؛ لما روي: (أن أبا بكر – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – حكم في مسائل باجتهاده، ثم خالفه عمر – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – فيها ولم ينقض ما حكم به أبو بكر) . وروي: أن عمر قال: (لا أشرك بين الإخوة من الأب والأم، وبين الإخوة من الأم، ثم شركهم، فقيل له في ذلك، فقال: ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي) . وروي عنه: (أنه قضى في الجد بسبعين قضية) ، وقيل: بمائة قضية، وكذلك روي عن علي ولا مخالف لهما في ذلك. ولأن الاجتهاد الثاني كالأول، فلو نقض الأول بالثاني.. أدى إلى أن لا يثبت حكم؛ لأنه قد يتغير الثاني إلى غيره.
وأضاف في البيان في مذهب الإمام الشافعي (13/ 63):
قال المسعودي [في ” الإبانة “] : واختلف أصحابنا في مسائل لأبي حنيفة: هل ينقض الحكم فيها على أصحاب أبي حنيفة، منها: النكاح بلا ولي، والحكم ببيع أم الولد، وحصول اللعان بأكثر كلمات اللعان، وحيث قالوا: لا تقبل شهادة المحدود في القذف بعد التوبة، وقولهم: لا قصاص بين طرف الرجل والمرأة، وقولهم: لا يجب الحد بوطء الأم بالنكاح، وحكمهم بالشفعة للجار
فمن أصحابنا من قال: ينقض حكمهم في ذلك كله؛ لأن الخطأ ظاهر في ذلك بدليل قاطع من الكتاب والسنة.
ومنهم من قال: لا ينتقض حكمهم في ذلك؛ لأن الخطأ فيها إنما ظهر بقياس غير جلي.
وأما إذا بان له الخطأ في اجتهاده قبل أن ينفذ حكمه.. فلا يجوز أن يحكم بالاجتهاد الأول؛ لأنه يعتقده خطأ، فلا يجوز له الحكم به.