تاريخ وتراجم وأعلام

لقد أجمع العلماء على تعظيم ابن تيمية، فلماذا تحطُّ من مكانته؟ وأين تضعون أولئك العلماء الّذي مدحوه؟ (تقسيم العلماء الذين مدحوا ابن تيمية رحمه الله، منقول)

لقد أجمع العلماء على تعظيم ابن تيمية، فلماذا تحطُّون من مكانته؟ وأين تضعون أولئك العلماء الّذي مدحوه؟
______________
الجواب في قسمين:
القسم الأوّل:
وفيه تمهيدات أساسيّة:
1-العلماء لم يجمعوا على مدحه، بل أغلبُهم كانوا ضدّه، وحكموا عليه بحُكم الشّرع الّذي حكموا به على غيره من أهل البِدَع، وحتى الّذين مدحوه من مخالفيه، كثيرٌ منهم تراجعوا عن ذلك بعد أن تبين لهم حقيقة حاله.
2-أنّ ابن تيمية كان على عقيدة أهل السنة والجماعة في الأصلين (أصول الدين وأصول الفقه) على مذهب أبيه وجدّه، ثمّ انتكس بعد وفاة أبيه، وترك مذهب آبائه وأجداده بحجّة أنّهم كانوا في العقيدة يقولون بقول أهل البدع في أصول الدين والفقه، وأنّ مذهبهم مخالفٌ لما كان عليه دين الرّسول! بدليل قوله: (وأنا وغيري كنا على مذهب الآباء في ذلك نقول في “الأصلين” بقول أهل البدع، فلما تبين لنا ما جاء به الرسول دار الأمر بين أن نتبع ما أنزل الله أو نتبع ما وجدنا عليه آباءنا فكان الواجب هو اتباع الرسول)اهـــ وهذه نقطة مهمة جدا في تاريخ الرّجل، تبيّن أنّه مرّ بطورين، الأوّل طور أهل البدَع على دين الآباء والأجداد، والثاني طور ما جاء به الرّسول.
3-أنّ معظمَ أولئك الّذين مدحوه قد مدحوه بما عرفوه منه في طوره الأوّل، ولم يعرفوا أنه انقلب على وجهه.
4-أنّ معظمَ الّذين مدحوه كانوا من الأشاعرة ومن أمثالهم من الحنابلة والصوفية، وما مدحوه إلا تعظيمًا للسنّة التي كان الحرّاني يحفظُها، وحتّى مع تعظيمِهم للسّنّة وأهلها فإنّ ذلك لم يشفع لهم عند الحرّاني، فراحَ يصفهم بأنهم جهميّة وأعداء السنّة والحديث، وحزب الشيطان، وملحدين، ومبتدعة، ومخانيث…إلخ إذن فهناك تناقض حقيقي بين مذهبه ومذهبهم، فإنّ هؤلاء -وهم القسم الأكبر- لم يمدحوه لأنهم يؤمنون بعقائده ويرون أنها هي الحق، بل مدحوا ما ظهرَ لهم من حاله دون ما آل إليه باطنه ضدَّهم.
5-الحكَمُ الأقوى هو كتبه نفسها، فلو أنّ “ابن دقيق العيد” كان يعلمُ حقيقة معتقد الحرّاني في التجسيم وحلول الحوادث وفناء النار، هل كان سيمدحه بما مدحه به؟ قطعًا لا… هذا يعني قطعًا أنّ هؤلاء الأئمة لم يسمعوا من ابن تيمية بدَعَه ولا قرأوا له شيئا منها، والأصل براءة الذمة حتى يثبت ما يوجب الإدانة.
6-نحن إنما نذمُّه بما لم يطّلع عليه أولئك الفضلاء من أئمتنا.

القسم الثاني: أنّ الّذين مدحوه أصناف:
1-(الأول) مَن كانوا على عقيدته كابن القيم وابن أبي العز وابن المحب الصّامت، مجسمة مثلة.
2-(الثاني) [سأطيل في هؤلاء] وهم عورٌ وبقَر كما وصفهم الّذهبي (في النصيحة الذهبية ص37) وهؤلاء هم جمهوره الأكبر، والقوّة الضاربة في الهجوم والدفاع عنه والترويج له والتشغيب على خصومه، ممن ينتصرون لابن تيمية لقوّة صوته وجمال أسلوبه في الوعظ، ويغترون بزهده في الدنيا وبقوله “السلف”… فيظنون لذلك أنه على الحق، ومنهم عماد الدين الواسطي (ابن شيخ الحزّامين) الّذي يتهم فقهاء الشافعيّة في زمانه بأنّ: “قلوبَهم مشحونة بمسائل التنبيه والمهذب والوجيز وشرحه والوسيط والحاوي واللباب والعُجاب والمحرَّر[أي عيبٍ في هذا؟]… خالية قلوبهم عن روائح المحبّة لله والخوف منه، لا يُشَمُّ منهم روائح العبوديّة، ولا الصدق في المعاملة، متكالبين على الرئاسة والمعلوم (المال)”اهــ37-38 مع أنّ كتب طبقات الشافعيّة تكذّبه، ولكنّه كتب هذا الكتاب بعد أن تعلّم فنّ الكذب على يدي شيخه الحرّاني الّذي خطف مُخّه، فرجع بلا عقل ولا أمانة، وقد ذكرَ ص 46 أنّ ابن تيمية دلّه على المعتقد الصحيح بعد أن كان قد تعرّفَ على صوفيّة الأشاعرة والمتكلّمين وهدَوْه إلى حبّ الله.. فاقرأ الآن كلامه وتأمل كيف أن عقله مشطور طبقتين: يقول عن الأشاعرة: (شهدَ قلبي بأنّ معهم شيئًا صحيحًا، فإني وجدتُهم يشيرون إلى معرفة الذّات والصفات والعبوديّة لله تعالى وطريق ذلك، ويشيرون إلى محبة الله تعالى واتباع أمره واجتناب نهيه، قوم خُصّوا بالمحبّة والاصطفاء، والتخصيص والتّولية، دخلوا في حضرات الأسماء وتحققوا بشيء منها، أعطوا حقيقة اسمٍ أو صفةٍ عرفوا الله بها فهاموا بحبّه وانقادوا لإرادته..وجدتهم أشد الناس تعظيمًا للشريعة، والأوامر والنواهي، زاهدين في الدنيا راغبين في الآخرة، محبين لله والهين بقُربه، قد رفضوا كلّ شيء سواه، فلما خلَت قلوبهم من غيره امتلأت من حُبّه، حتّى كأنّ أحدهم مع ربّه يراه عيانًا بقلبه، ويُشرِقُ على وجهه آثار جلاله ومحبته وتعظيمه والانقياد لحُكمه، ووجدتُ آثار ذلك فيهم وفي حركاتهم وسكناتهم)ص40 ثم بعدَما مدحَهم بوصولهم إلى ذروَة الإيمان، اقرأ الآن ما يقوله عنهم بعد سطر لتعرف أثر الحرّاني في تفريغ عقول أتباعه وحشوِها بالمتناقضات: (ثمّ إني فتشتُ عن أساس هذه الذّروَة التي عندهم، على أي أساسٍ قامَ من العقائد والأصول؟ فوجَدتُ القومَ لا شعورَ لهم بالسُّنّة، ولا الأيّام النبويّة، ولا الأخلاق الدّينيّة، ووجدتُهم يعتقدون شيئًا من التجهُّم، إلّا أني لم أجدهم يصرّحون بالتعطيل، ولا أشكُّ أنهم ينكرون بعضَ الصّفات أو يتوقفونَ فيها كما هو مذهبُ المتكلمين، ومِن ذلكَ وجَدتُ عليهم كسفَةً، وفي لمحات وجوههم سعفة.. ولا يشيرون إلى كُشوف القرآن، ولا إلى تجليات الصفات)ص40
-أي إنه كان يرى هؤلاء القوم من الأشاعرة (أرواحهم مختطَفة بأشعة عظمة الله وكبريائه، وأعضاؤهم ممتلئة من أنواره المخزونة من أنوار جلاله وعظَمَته… يشرق على وجوههم آثارُ جلال الله ومحبّته) فلما التقى بابن تيمية وغسلَ ما بقيَ من دماغه صار يرى (في لمحات وجوههم سعفة، وعليها كسفة)
-وكان يراهم قد (كشفَ اللهُ لهم عن سبُحاتِ العظمَة والجلال والبهاء والكمال… يشيرون إلى معرفة الذّات والصفات ص39) ثمّ لما درسَ علمَ التجسيم عندَ الحرّاني صاروا عنده (يعتقدونَ شيئًا من التجهُّم، وينكرون بعضَ الصّفات)
-وبعدَ أن كان يراهم (أشدّ الناس تعظيمًا للشريعة والأوامر والنواهي) صار بتوجيهات الحرّاني يراهُم: (لا شعورَ لهم بالسّنّة، ولا الأخلاق الدّينيّة!)
-وبعدَ أن كانوا عنده قد (خُصّوا بالمحبّة والاصطفاء، والتخصيص والتّولية، ودخلوا في حضرات الأسماء وتحققوا بشيء منها، وأُعطوا حقيقة اسمٍ أو صفةٍ عرفوا الله بها فهاموا بحبّه وانقادوا لإرادته) صاروا بسبب ابن تيمية: (لا يعرفون ربَّهم إلا من حيثُ قِدَمُه وأزليَّتُه، ولا يشيرون إلى كشوف القرآن، ولا إلى تجليات الصفات)
هذه العقليّة المتناقضة واحدةٌ من الّذين ينطبق عليها وصف الذّهبي في رسالته الّذهبية مخاطِبًا ابن تيمية بعدَ أن سئمَ من بِدَعِ شيخه: (فهل معظمُ أتباعك إلا قعيدٌ مربوط خفيف العقل؟ أو عامي كذّابٌ بليدُ الذّهن؟ أو ناشف صالحٌ عديمُ الفهم…)ص36 (كما أنّ أولياءك فيهم فجَرَة وكذَبَةٌ وجهَلَة وبطلَةٌ وعورٌ وبقَر) ص37
3-(الثالث): يوافقونه في عموميات منهجه أعني لزوم اتباع عقيدة السلف والاستدلال في المعتقد فقط بنصوص الكتاب والسنة كما هي، ولكنهم يخالفونه في كثير من الخصوصيّات، كالتجسيم والتشبيه والتبرّك والزيارة، والتعمُّق في الرّد على الفلاسفة والمتكلّمين، وهؤلاء -مع إعجابهم الشديد بشخصيّته- لم يكونوا ممن يفهم الأصول والكلام في العقائد، مثل الذهبي وابن كثير، ولهذا تركا لاحقًا الأخذَ بأقواله إلّا ما وافق منها الكتابَ والسنّة، فكتب ابن كثير ولا سيما تفسيره على مذهب أهل السنة لا على مذهب ابن تيمية، فكتابه العلوّ دليل على تعلقه الكبير بمنهجية ابن تيمية في الاحتجاج ببعض آراء أهل القرن الثالث الهجري وكأنها أحاديث متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلّم يجب الأخذ بها كوجوب الأخذ بمحكمات القرآن! وقد كتبَ الّذهبي بخطه على غلاف “علوّه” أنه لا يوافق ولا يلتزمُ بما جمعَه فيه، ولكنه لم يقل إنه تراجعَ عن هذه المنهجيّة في أصول الدين.
4-(الرّابع) مدحوه عندما كان حنبليا مهتديا على طريقة أبيه وجده في أصول الدين وأصول الفقه على مذهب جمهور الأمة، ولم يعرفوا أنه انتكس، وبقي مدحهم كما هو، إما لأنهم ماتوا قبل أن يعرفوا به، أو أنهم لم يسمعوا منه -لاحقًا- شيئًا مخالفا لعقيدتهم في طوره الثاني.
5-(الخامس) قوم صاحبوه مدة قصيرة وما سمعوا منه إلا ما هو صحيح يقوله كل المسلمين، وما سمعوا منه إلا تعظيمه للسنّة والحديث والسلف، وبالنسبة لي، كنتُ مثل هؤلاء، أمدحه وأدافع عنه لأنني لم أكن أعرف من كتبه إلا العقيدة الواسطية التي لا أرى أنّ فيها شيئا كبيرًا يستحق الإنكار، وحبَّه للسلف وانتمائه لهم، ثم تبين لي أنه كان يكذب عليهم كذبا أصلع.
6-(السادس) قوم على عقيدة غير عقيدته، ولكنهم لم يعرفوا مقالات ابن تيمية، ولا سمعوا منه، وعقيدتهم عند ابن تيمية عين الضلال والإلحاد! ولكنهم مدحوه لأنهم وجدوا كثيرا من العلماء يمدحه خوفًا من الوقوع في الإثم وإحساناًا للظنّ.
7-(السابع) الحنابلة كالسفاريني والكرمي.. ممن جاء بعد ابن تيمية، فهؤلاء على معتقد مخالف لما نص عليه ابن تيمية في كتبه، وهؤلاء كانوا يعرفون مخالفاته لعقيدة الحنابلة، ولكن يلتمسون له الأعذار ويؤولون له كلماته كي تتفق مع معتقدهم، ويتلطفون معه غاية التلطف… وما دفعهم إلا ذلك إلا التعصّب لابن مذهبهم، تمامًا كما يفعلُ بعض الأشاعرة المحبّين لابن عربي الحاتمي، (كالشعراني مثلا).
8-(الثامن) مجاهيل غير معروفين، وربما يكونون من الصنف الثاني الّذين تقدم الكلام عنهم.

**الملخَّص: معظمُ المادحين لابن تيمية كانوا مخالفين له في المعتقد، في أصول الدين وأصول الفقه، فهُم إما أشاعرة أو صوفية أو فضلاء الحنابلة أو ماتريدية، أما الصنف الوحيد الّذي يتفق مع ابن تيمية اتفاقًا تامًّا ويفهمون مذهبَه فهم الصنف الأوّل فقط، أما الثاني فهم يتبعونه بلا فهم.
[هذه الملاحظات لم تأت من يوم أو يومين، بل من دراسة معمّقة محايدة لم تقل عن 15 سنة متواصلة، وكل ما كتبته هنا مما طالعته في الكتب مرارًا، ونقدته ونقّرت فيه، من كتب ابن تيمية خصوصًا، ثم مما كتب عنه كالعقود الدريّة لابن عبد الهادي، والكواكب لمرعي الكرمي، والرد الوافر، وتاريخ الذهبي، وطبقات ابن رجب، والبداية والنهاية، وطبقات السبكي، ونهاية الأرب للنويري، وتحفة النظار لابن بطوطة، والمسالك لابن فضل الله العمري، والوافي للصلاح الصفدي، والدرر الكامنة، وتاريخ علماء بغداد لابن رافع، ورسائل البركوي، والردود على الحراني ككتب السبكي والصفي الهندي وابن جماعة وابن اللبان وابن المعلّم وغيرهم. وقرأت أيضًا في كتب المقريزي، ومقدمة ابن خلدون، وكتب محمد أبي زهرة والكوثري ومحمد كرد علي، وكتب محمد بن عبد الوهاب، وغيرها من المصنفات المفردة، وكثير مما صنفه الوهابيون في الدفاع عن شيخهم] 

السابق
كتاب موقف الإمام الغزالي من علم الكلام، ويليه: تأملات كلامية في كتاب المنقذ من الضلال، د. سعيد فودة
التالي
حوار حول صحة قول الحربي: “قبر معروف الترياق المجرب”(منقول)