أدب ومُلح وطرائف

فقال الغراب للدّيك: لو أعرتنى جناحك لأتيتك بشراب؛ فأعاره جناحه، فطار ولم يرجع إليه؛ فزعموا أنّ الديك إنما يصيح عند الفجر استدعاء لجناحه

«نهاية الأرب في فنون الأدب» (10/ 222):
ومن الحكايات التى تعدّ من خرافات العرب ما حكاه بعضهم عن الرّياشىّ «1» قال: كنّا عند الأصمعىّ، فوقف عليه أعرابىّ فقال: أنت الأصمعى؟ قال: نعم؛ قال: أنت أعلم أهل الحضر بكلام العرب؟ قال: يزعمون؛ قال: ما معنى قول أميّة بن أبى الصلت:
وما ذاك إلّا الدّيك شارب خمرة … نديم غراب لا يملّ الحوانيا «2»
فلما استقلّ ‌الصبح ‌نادى ‌بصوته … ألا يا غراب هل رددت ردائيا
فقال الأصمعىّ: إنّ العرب كانت تزعم أنّ الدّيك كان ذا جناح يطير به فى الجوّ وأنّ الغراب كان ذا جناح كجناح الدّيك لا يطير به وأنهما تنادما ليلة فى حانة يشربان فنفد شرابهما؛ فقال الغراب للدّيك: لو أعرتنى جناحك لأتيتك بشراب؛ فأعاره جناحه، فطار ولم يرجع إليه؛ فزعموا أنّ الديك إنما يصيح عند الفجر استدعاء لجناحه من الغراب؛ فضحك الأعرابىّ وقال: ما أنت إلا شيطان.
وهذه الحكاية ذكرها الجاحظ فى كتاب الحيوان بنحو ما حكى عن الأصمعىّ، وساق أبيات أميّة بن أبى الصّلت، وهى:
ولا «3» غرو إلّا الديك مدمن خمرة … نديم غراب لا يملّ الحوانيا
ومرهنه عند الغراب جبينه … فأوفيت مرهونا وخان مسابيا «4»
أدلّ علىّ الدّيك أنّى كما ترى … فأقبل على شأنى وهاك ردائيا

أمنتك «1» لا تلبث من الدهر ساعة … ولا نصفها حتى تؤوب مآبيا
ولا تدركنك الشمس عند طلوعها … فأغلق «2» فيهم أو يطول ثوائيا
فردّ الغراب والرداء يحوزه … إلى الدّيك وعدا كاذبا وأمانيا
بأيّة ذنب أو بأيّة حجّة … أدعك فلا تدعو علىّ ولاليا «3»
فإنى نذرت حجّة لن أعوقها … فلا تدعونّى دعوة من ورائيا
تطيّرت منها والدّعاء يعوقنى … وأزمعت حجّا أن أطير أماميا
فلا تيأسن إنى مع الصبح باكرا … أوافى غدا نحو الحجيج الغواديا
كحب امرئ فاكهته قبل حجّتى … وآثرت عمدا شأنه قبل شانيا
هنا لك ظنّ الدّيك أن زال زوله … وطال عليه الليل أن لا مفاديا
فلما أضاء الصبح طرّب صرخة … ألا يا غراب هل سمعت ندائيا
على ودّه لو كان ثم يجيبه … وكان له ندمان صدق مواتيا
وأمسى الغراب يضرب الأرض كلّها … عتيقا «4» وأضحى الدّيك فى القدّ عانيا
فذلك مما أسهت الخمر لبّه … ونادم ندمانا من الطير عاديا «5»

السابق
ترجمة الشيخ عبد الرحمن البكري حميدو الشافعي النقشبندي رحمه الله
التالي
ثبوت التفويض عن الإمام أحمد بن حنبل والنصوص والروايات الصريحة عنه في ذلك