قال ابن أيبك الصفدي في ترجمة الطبري من كتابه «الوافي بالوفيات» (2/ 213):
«ولما قدم من طبرستان إلى بغداد تعصب عليه أبو عبد الله ابن الجصاص وجعفر ابن عرفة والبياضى وقصده الحنابلة فسألوه عن أحمد بن حنبل يوم الجمعة في الجامع وعن حديث الجلوس على العرش فقال أبو جعفر أما أحمد بن حنبل فلا يعد خلافة فقالوا له فقد ذكره العلماء في الاختلاف فقال ما رأيته روى عنه ولا رأيت له أصحابا يعول عليهم وأما حديث الجلوس على العرش فمحال ثم أنشد
(سبحان من ليس له أنيس … ولا له في عرشه جليس)»
فلما سمعوا ذلك وثبوا ورموه بمحابرم وقد كانت الوفا فقام بنفسه ودخل داره فردموا داره بالحجارة حتى صار على بابه كالتل العظيم وركب نازوك صاحب الشرطة في عشرات ألوف من الجند يمنع عنه العامة ووقف على بابه إلى الليل وأمر برفع الحجارة عنه وكان قد كتب على بابه البيت المتقدم فأمر نازوك بمحو ذلك وكتب مكانه بعض أصحاب الحديث
(لأحمد منزل لا شك عال … إذا وافى إلى الرحمن وافد)
(فيدنيه ويقعده كريما … على رغم لهم في أنف حاسد)
(على عرش يغلفه بطيب … على الأكبار يا باغ وعاند)
(إلا هذا المقام يكون حقا … كذاك رواه ليث عن مجاهد)
فخلا في داره وعمل كتاب المشهور في الاعتذار إليهم وذكر مذهبه واعتقاده وجرح من ظن فيه غير ذلك وقرأ الكتاب عليهم وفضل أحمد بن حنبل وذكر مذهبه وتصويب اعتقاده ولم)
يخرج كتابه في الاختلاف حتى مات فوجدوه مدفونا في التراب فأخرجوه ونسخوه.اهـ
وقال ياقوت الحموي في «معجم الأدباء = إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب» (6/ 2450):
«فلما قدم إلى بغداد من طبرستان بعد رجوعه إليها تعصب عليه أبو عبد الله الجصاص وجعفر بن عرفة والبياضي، وقصده الحنابلة فسألوه عن أحمد بن حنبل في الجامع يوم الجمعة، وعن حديث الجلوس على العرش، فقال أبو جعفر: أما أحمد بن حنبل فلا يعدّ خلافه، فقالوا له: فقد ذكره العلماء في الاختلاف، فقال: ما رأيته روي عنه، ولا رأيت له أصحابا يعوّل عليهم، وأما حديث الجلوس على العرش فمحال، ثم أنشد:
سبحان من ليس له أنيس … ولا له في عرشه جليس
فلما سمع ذلك الحنابلة منه وأصحاب الحديث وثبوا ورموه بمحابرهم، وقيل كانت ألوفا، فقام أبو جعفر بنفسه ودخل داره، فرموا داره بالحجارة حتى صار على بابه كالتلّ العظيم، وركب نازوك صاحب الشرطة في عشرات ألوف من الجند يمنع عنه العامة، ووقف على بابه يوما إلى الليل وأمر برفع الحجارة عنه، وكان قد كتب على بابه:
سبحان من ليس له أنيس … ولا له في عرشه جليس»
فأمر نازوك بمحو ذلك وكتب مكانه بعض أصحاب الحديث:
لأحمد منزل لا شكّ عال … إذا وافى إلى الرحمن وافد
فيدنيه ويقعده كريما … على رغم لهم في أنف حاسد
على عرش يغلّفه بطيب … على الأكياد من باغ وعاند
[له] هذا المقام [لديه] حقا … كذاك رواه ليث عن مجاهد
فخلا في داره وعمل كتابه المشهور في الاعتذار إليهم، وذكر مذهبه واعتقاده، وجرّح من ظن فيه غير ذلك، وقرأ الكتاب عليهم، وفضل أحمد بن حنبل وذكر مذهبه وتصويب اعتقاده، ولم يزل في ذكره إلى أن مات، ولم يخرج كتابه في الاختلاف حتى مات، فوجدوه مدفونا في التراب، فأخرجوه ونسخوه، أعني «اختلاف الفقهاء» هكذا سمعت من جماعة منهم أبي رحمه الله.اهـ
وقال بكر أبو زيد في «المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد وتخريجات الأصحاب» (1/ 361):
«* كائنة الحنابلة مع الطبري:
في ترجمة: الإمام محمد بن جرير الطبري، شيخ المفسرين، المتوفى سنة (310 هـ) – رحمه الله تعالى- ذكر ياقوت ت سنة (626 هـ) في تاريخه ” معجم الأدباء ” وابن الأثير في: ” تاريخه: الكامل ” (6/ 171) وابن السبكي ت سنة (771 هـ) في: الطبقات 3/ 124- 125 ” وابن كثير ت سنة (774 هـ) : في تاريخه»: 11/145 “: كائنة الحنابلة مع الطبري:
(فلما قدم- أي الطبري- إلى بغداد من طبرستان بعد رجوعه إليها: تعصب عليه أَبو عبد الله الجصاص، وجعفر بن عرفة، والبياضي، وقصده الحنابلة فسألوه عن أَحمد بن حنبل في الجامعِ يوم الجمعة وعن حديث الجلوس على العرش، فقال أَبو جعفر أما أَحمد بن حنبل فلا يعد خلافه، فقالوا له: فقد ذكره العلماء في الاختلاف، فقال: ما رأيته رُوي عنه ولا رأيت له أَصحابًا يُعَوَّلُ عليهم، وأَما حديث الجلوس على العرش فمحال، ثم أَنشد:
سبحان من ليس له أَنيس … ولا له في عرشه جليس
فلما سمع ذلك الحنابلة منه، وأَصحاب الحديث، وثبوا ورموه بمحابرهم، وقيل: كانت ألوفًا، فقام أَبو جعفر بنفسه ودخل داره فرموا داره بالحجارة حتى صار على بابه كالتل العظيم، وركب نازوك صاحب الشرطة في عشرات ألوف من الجند يمنع عنه العامة ووقف على بابه يومًا إلى الليل وأَمر برفع الحجارة عنه، وكان قد كتب على بابه:
سبحان من ليس له أَنيس … ولا له في عرشه جليس
فأَمر نازوك بمحو ذلك وكتب مكانه بعض أَصحاب الحديث:
لأَحمد منزل لا شك عامل … إذا وافى إلى الرحمن وافد
فَيُدْنِيْهِ ويُقْعِدُهُ كريمًا … على رغم لهم في أنف حاسد
فَخَلا في داره، وعمل كتابه المشهور في الاعتذار إليهم، وذكر
مذهبه، واعتقاده، وجرح من ظن فيه غير ذلك، وقرأ الكتاب عليهم، وفيه فضل أَحمد بن حنبل، وذكر مذهبه وتصويب اعتقاده، ولم يزل في ذكره إلى أَن مات ولم يخرج كتابه في الاختلاف حتى مات، فوجدوه مدفونا في التراب فأَخرجوه ونسخوه، أعني ” اختلاف الفقهاء ” انتهى.
فهذه المصادر تتفق هي وغيرها على أمور
1- أَن ابن جرير- رحمه الله تعالى- احتجب في داره.
2- وأنه لما مات سنة (310 هـ) دفن في داره ليلًا ومنعوا من دفنه نهارًاه.
3- وأن ذلك بسبب ما وصل إِليه من أَذى.
ثم اختلفوا فيمن آذاه وسببه.
- فياقوت يُعَلِّلُهُ بأَمرين من الحنابلة، هما:
1- تأويله حديث الاقعاد على العرش
2- عدم ذكره لخلاف أحمد في كتابه: ” اختلاف الفقهاء “. - وابن الأَثير، يذكر قول ابن مسكويه من أن سببه:
دعوى العامة عليه: الرفض والِإلحاد، لكن يرده ابن الأَثير ويذكر أن السبب تأليفه كتابه المذكور، وقيام الحنابلة عليه. - وابن السبكي يرى أَنه إنَّما احتجب عن الأراذل من العامة، وأَما الحنابلة فهم أقل شأنًا من أن يمنع بسببهم.
- وابن كثير: يرى أَن السبب رمي داود الظاهري له بالرفض
والإلحاد، بسبب تأليفه كتابا عن: غديرخم في مجلدين، وكتابًا جمع فيه طرق حديث الطير، وأنه كان يقول بجواز مسح القدمين في الوضوء، فقلد الحنابلة داود فآذوا ابن جرير تدينًا.
هذه خلاصة ما ذكره المؤرخون في هذه الكائنة، ومعلوم أَن الفقرتين (1، 2) لا خلاف فيهما، وتبقى الفقرة الثالثة في معرفة من آذاه، وسببه، ويظهر ما يلي:
1- ما ذكره ابن السبكي، لا ينبغي الالتفات إِليه، ولا التعويل عليه؛ لما عرف من العداوة بينه وبين الحنابلة، فهذا من تقادح الأَقران، بل بلغ به الحال- تجاوز الله عنا وعنه- إلى الوقوع في شيخه الإمام الذهبي كما في ترجمته له وفي ترجمته لوالده، وفي ترجمته أبي الحجاج المزي من كتابه: ” طبقات الشافعية الكبرى 10/399-400، 9/103 ” وقد رد عليه الحافظ السخاوي – رحمه الله تعالى- في: ” الإعلان بالتوبيخ ص/ 101، 135- 136 ” والشوكاني في: ” البدر الطالع “.
2- ما ذكره ابن الأَثير عن ابن مسكويه، وذكره بأَبسط منه ابن كثير من أَن السبب ما رُمي به من الرفض والإلحاد فيكفينا في رده، بعد المطالبة بثبوته، ودونه خَرْطُ القتاد: رد ابن الأَثير له، ورد ابن كثير كذلك في قولهما: وحاشاه من ذلك.
3- بقي السبب الثالث الذي ذكره ياقوت وابن الأثير وهو تأليفه كتابه: ” اختلاف الفقهاء ” وفيه خلاف الأئمة الثلاثة دون ذكر خلاف الإمام أحمد، زاد ياقوت: وتأويله حديث الجلوس على العرش.
قال ابن الأثير: ” فقيل له- أي ابن جرير- في ذلك فقال: لم يكن فقيهًا وإنَّما كان محدثا، فاشتد ذلك على الحنابلة، وكانوا لا يُحْصَوْنَ كثرة ببغداد، فشغبوا عليه، وقالوا ما أَرادوا … “.
أقول: لِنفرض أَن هذا هو السبب، فإن اعتذار ابن جرير- رحمه الله تعالى- في عدم ذكر الإمام أحمد في كتابه اختلاف الفقهاء، واضح، أنه لا يريد نفي كون الإمام أحمد فقيهًا وإنَّما يريد نفي كونه فقيهًا متبوعًا؛ فابن جرير ولد سنة (224 هـ) في حياة الإمام أَحمد المتوفى سنة (241 هـ) ثم توفي ابن جرير سنة (310 هـ) ومذهب الإمام أَحمد لم يتكون إقراء فروعه في هذه الفترة، فكان في طور رواية تلامذته له، وجمع الخلال له، المتوفى سنة (311 هـ) أي بعد ابن جرير بعام واحد، وأول مختصر في فقهه كان من تأليف الخِرَقي المتوفي سن (334 هـ) ، فصار بدءُ إقرائه في الكتاتيب كما في تلقن القاضي أَبي يعلى له، وعلى يد أبي يعلى، المتوفى سنة (458 هـ) الذي تولى القضاء وشيخه الحسن بن حامد، المتوفى سنة (403 هـ) بدأ ظهور المذهب، وتكونه، وتكاثر أَتباعه، والاشتغال في تهذيبه، وتدوين المتون والأصول، وكل هذا بعد وفاة الإمام ابن جرير بزمن كما هو ظاهر فرحم الله ابن جرير ما أبره حينما قال: ” أما أحمد فلا يعد خلافه، فقالوا له، فقد ذكره العلماء في الاختلاف، فقال: ما رأيته رُوي عنه، ولارأيت له أُصحابًا يعول عليهم ” انتهى.
أَي يعول عليهم في التمذهب الفروعي كما جرى عليه أَتباع الأَئمة الثلاثة: أَبي حنيفة، ومالك، والشافعي؛ لتقدمهم عليه في الرتبة الزمانية، ثم صار التمذهب بمذهب أَحمد في مرحلة زمانية متأخرة عن وفاة ابن جرير على ما بينته.
وهذا من الوضوح بمكان مكين لمن تأمله، لكن ما فهم الأَصحاب كلامه ومراده فوقع ما وقع. ولله الأَمر من قبل ومن بعد.
ولا أرى هذا التخريج في الاعتذار عن ابن جرير إلَّا من وضع الأمور في نصابها.
وله نظائر تخرج من مآزق في التحطط على أهل العلم والإيمان.
منها ما أعتذر به ابن كثير- رحمه الله تعالى- عما نسب إلى ابن جرير من أَنه يقول بقول الرافضة من أَن فرض القدمين في الوضوء هو ” المسح “.
قال ابن كثير- رحمه الله تعالى-: (والذي عوَّل عليه كلامه في التفسير أَنه يوجب غسل القدمين، ويوجب مع الغسل دلكهما، ولكنه عَبَّرَعن الدلك بالمسح، فلم يفهم كثير من الناس مراده، ومن فهم مراده نقلوا عنه أَنه يوجب الغسل والمسح، وهو الدلك، والله أعلم) انتهى
وذكرت لهذا نظائر في: (التعالم) والله أعلم.
ويزاد هنا نظير قول الطبري: ” ولا رأيت له- أي أحمد-
أصحابًا يعول عليهم “: قول الإمام أَحمد، لما سُئِلَ عن أبي حنيفة، وعمرو بن عبيد، قال: أَبو حنيفة أَشد على المسلمين من عمرو بن عبيد؛ لأَن له أَصحابًا … “.
كما في: ” تاريخ بغداد: 13/114 ” فإن أحمد لم يُرد أَن عمرو بن عبيد لا أَصحاب له البتة؛ وِانما أَرأد أَنه ليس له أَصحاب في مثل غلوه في الاعتزال والقدر (1) .
هكذا تنزل كلمات الأَئمة منازلها، فهي بحاجة إلى نظر سديد، وتأمل دقيق، وتخلص العصبية والهوى. والله المستعان
ثم يبدو بَعْدُ أَمران لابد من التنبيه عليهما:
الأول: أن ابن جرير يلتقي مع الإمام أحمد وأصحابه في صفاء الاعتقاد، والجري فيه على طريقة السلف بلا تأويل، ولا تفويض*، ولا تشبيه، مع النزوع إلى فقه الدليل، وكان- رحمه الله تعالى- رأسًا في العلم، حتى انتسب له بعض أهل العلم مثل: المعافى بن زكريا النهرواني الجريري ت سنة (390 هـ) نسبة إلى ابن جرير في التمذهب؛ ولهذا ترى في تراجم بعضهم: وكان جريري المذهب، فهو- رحمه الله تعالى- رأس منافس في الترأس والاتباع، فلعلَّ ما هنا أثَر على ما هنالك، واِن كان- رحمه الله تعالى- أَجَلَّ وَأَوْرَعَ وَأَتْقَى لِرَبّه مِن التَّأثرِ بِذَلك.
الثاني: إن كان المتعصبة يريدون بقولتهم ” ليس بفقيه ” فقه
_
(1) انظر التنكيل للمعلمي
*((قال وليد ابن الصلاح: هذا الذي زعمه بكر أبو زيد غير صحيح وإنما هذا مذهب ابن تيمية وهو إنكار التأويل والتفويض في نصوص الصفات المتشابهة، ومذهب الطبري عكسه وهو التأويل أو التفويض فيها وقد بسطت الكلام على عقيدة الطبري والفرق بينها وبين عقيدة التيمية والوهابية في هذه التسجيلات:
https://www.youtube.com/watch?v=630EhjJM2gQ&t=4s
https://www.youtube.com/watch?v=kWZK1JnaAH8&t=108s
https://www.youtube.com/watch?v=rDuEQrQUKg4&t=700s ))
——————————
الرأي الذي لم يؤصل على الدليل فنعم، وهي منقبة، وإن أريد أنه غير فَقيه: فقه الدليل، فهذا من جحود المحسوس، ونكران الملموس. وعلى كل حال فتلك شكاة ظاهر عنك عارها، وتحتجر المقولة في صدر قائلها؛ إِذ لا رصيد لها من الواقع، ولا دليل يسندها، والعبرة بالحقائق، والكُلُ إلى الله صائر.
ولعله بهذا تحصل القناعة للمنصفين، وتنقشع عن أبصارهم غشاوة المُشَنِّعين، ونكون قد أدينا بعض ما لعلمائنا علينا من حرمة يجب أن تُرعى، وحق يلزم أن يُؤَدَّى.
وإذا تجلَّى الحق لناظريه، فليعلم الناظر فيه، أَن هذه الدعوى: ” الإمام أحمد محدِّث وليس بفقيه ” هي من ولائد التحطط على عموم المحدثين، ورميهم من المغبونين، بأنهم: ” زوامل أَسفار “؟
وقد قام الخطيب البغدادي ت سنة (463 هـ) بتفنيد هذه الفرية وأن بواعثها أغراض نفسانية بلا مرية، وكشف عنها في كتابه النافع: ” الفقيه والمتفقه ” فاستجلى أَسبابها وجلى عن وجوه ردها، وسار من بعده على نهجه، فهم بها عيال عليه.