ردًّا على الشيخ مصطفى العدوي!
شارك لرفع الجهل!
هل تقبيل أيدي العلماء والصالحين مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح؟!
تحقيق حديثي فقهي!
بقلم: خادم الجناب النبوي الشريف
محمد إبراهيم العشماوي
أستاذ الحديث الشريف وعلومه في جامعة الأزهر الشريف
استمعت إلى مقطع فيديو يظهر فيه الشيخ مصطفى العدوي وشاب أزهري يحاول تقبيل يده، وهو رافض، ثم سأل الشاب عن سبب تقبيله، فقال: إنه أزهري، ودرس في الأزهر، في كتاب [الإقناع] في فقه السادة الشافعية استحباب تقبيل أيدي العلماء، فقال العدوي ما معناه: إن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من كلام الفقهاء، ولم يثبت أن أحدا من الصحابة قبَّل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم!
وفي هذا الكلام عدة مغالطات من وجوه:
الأول: اتهامه للفقهاء بأنهم لا يستندون إلى سنة فيما يقررونه من مذاهب، وهذا جهل بتاريخ المذاهب الفقهية السنية، ومذاهب أئمتها الذين هم من أهل خير القرون، والذين أقاموا مذاهبهم على الكتاب والسنة والإجماع، وغيرها من الأدلة الشرعية المعتبرة، ولكن عُرف عن هذا الشيخ وأضرابه عدم حبهم لدراسة الفقه والأصول، واعتمادهم المباشر على الأخذ من الكتاب والسنة، حتى صدرت عنهم طوامُّ ودواهٍ، تُضحك الثكلى، وتُسقط الحبلى، ولا يحل لجاهل بالفقه والأصول والخلاف؛ أن يفتي في دين الله عز وجل، ولو حفظ القرآن الكريم بالقراءات العشر الصغرى والكبرى، ولو سرد صحيح البخاري من أوله إلى آخره، فإن أفتى يأثم، ويأثم من يستفتيه!
الثاني: تعريضه بأن كلام الفقهاء قد يكون مخالفا لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا اتهام ضمني للأئمة في دينهم، وهو من جنس الذي قبله، ناتج عن الجهل بمناهج الفقهاء في الاستدلال!
الثالث: زعمه أن أحدا من الصحابة لم يثبت عنه أنه قَبَّل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا إما ناشئ عن قِصَر باع وقلة اطلاع، وإما ناشئ عن هوى وعناد ومكابرة!
ونحن نردُّ عليه بما قاله أمير المؤمنين في الحديث، الحافظ ابن حجر العسقلاني، مما يثبت وقوع التقبيل من الصحابة لأطراف النبي صلى الله عليه وسلم، يديه ورجليه ورأسه، بل قبَّل الصحابة فمن بعدهم بعضهم أطراف بعض!
قال الحافظ رحمه الله في [فتح الباري]: “وقد جمع الحافظ أبو بكر بن المقرئ جزءاً في [تقبيل اليد]، سمعناه، أورد فيه أحاديث كثيرة وآثاراً!
فَمِنْ جيِّدها حديث الزارع العَبْدي – وكان في وفد عبد القيس – قال: “فجعلنا نتبادر من رواحلنا، فَنُقَبِّل يد النبي صلى الله عليه وسلم ورجله”. أخرجه أبو داود.
ومن حديث مَزِيدة العَصَري مثله.
ومن حديث أسامة بن شَرِيك، قال: “قمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقبَّلْنا يده” وسنده قوي.
ومن حديث جابر، أن عمر قام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقبَّل يده.
ومن حديث بُريدة في قصة الأعرابي والشجرة، فقال: “يا رسول الله، ائذن لي أن أقبِّل رأسك ورجليك، فأذن له”.
وأخرج البخاري في [الأدب المفرد] من رواية عبد الرحمن بن رَزِين قال: “أخرج لنا سَلَمة بن الأكوع كفًّا له ضخمة، كأنها كف بعير، فقمنا إليها، فقبَّلناها”.
وعن ثابتٍ أنه قبَّل يد أنَس.
وأخرج أيضا – أي البخاري في [الأدب المفرد] – “أنَّ عليًّا قبَّل يد العباس ورجله“، وأخرجه ابن المقرئ.
وأخرج من طريق أبي مالك الأشجعي قال لابن أبي أوفى، قلت: “ناولني يدك التي بايعتَ بها رسول الله، فناوَلَنِيها فَقبَّلْتُها”. انتهى النقل عن الحافظ.
ومن الأحاديث والآثار الدالة على ذلك أيضا؛ ما رُوي عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ أنه كان في سَرِيَّةٍ من سرايا رسول الله صلي الله عليه وسلم، فذكر قصة، قال: “فدنونا من النبي صلي الله عليه وسلم، فَقبَّلْنا يده”. أخرجه أبو داود في [سننه] في موضعين، والبيهقي في [سننه الكبرى]، وفي [الشُّعَب]، وابن أبي شيبة في [مصنفه]، وذكره البخاري في [الأدب المفرد].
ومنها حديث صفوان بن عسَّال؛ أن يهوديين أتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فسألاه عن تسع آيات .. الحديث، وفي آخره: “فقبَّلا يده، ورجله”. أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي: “حسن صحيح”، وصححه الحاكم.
وممن قبَّل يد النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة؛ أبو لبابة. أخرجه البيهقي في [الدلائل] وابن المقري في [الرخصة في تقبيل اليد].
وقبَّل كعب بن مالك وصاحباه يد النبي صلى الله عليه وسلم حين تاب الله عليهم. أخرجه ابن المقرئ.
وقبَّل أبو عبيدة يد عمر، حين قَدِم. أخرجه سفيان في [جامعه].
وقال الشعبي: صلى زيد بن ثابت على جنازة، فَقُرِّبَتْ إليه بغلته ليركبها، فجاء ابن عباس، فأخذ بركابه، فقال زيد: “خَلِّ عنه يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم”. فقال ابن عباس: “هكذا أُمِرْنا أن نفعل بالعلماء والكبراء!”، فقبَّل زيد بن ثابت يده، وقال: “هكذا أُمِرْنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم”.
قال الحافظ العراقي في [التخريج الصغير لأحاديث الإحياء]: “أخرجه الطبراني والحاكم والبيهقي في [المدخل] إلا أنهم قالوا: “هكذا نفعل”. قال الحاكم: “صحيح الإسناد على شرط مسلم”.
قلت: أورد ابن المقرئ المتوفى سنة 381هـ في هذا الجزء الذي أشار إليه الحافظ ابن حجر؛ ثلاثين حديثاً، منها الصحيح، والحسن، والضعيف، في إباحة تقبيل يد العالم والعبد الصالح!
وقد سبقه إلى التصنيف في هذا الباب؛ الإمام المحدث أحمد بن محمد بن زياد، المعروف بابن الأعرابي، المتوفى سنة ٢٣١ هجرية، في كتابه: [القُبَل والمعانقة والمصافحة]!
ولشيخ شيوخنا العلامة المحدث أبي الفضل عبدالله بن محمد بن الصديق الغماري كتاب جامع ماتع في هذا الباب، سماه: [إعلام النبيل بجواز التقبيل].
فهل يمكن بعد هذا كله، من اهتمام المحدثين بالتصنيف في المسألة، وكثرة الأحاديث والآثار الواردة فيها؛ أن يقال: إن ذلك ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، بل من كلام الفقهاء!
وهل يقول هذا إلا مجازف متهور؟!
وقد يحتج بعضهم بما رُوي من نهي النبي الرجل عن تقبيل يده، وقوله له: “هذا إنما يفعله الأعاجم بملوكها، إنما أنا رجل منكم”؟!
والجواب: أن هذا الحديث رواه الطبراني في [الأوسط]، والبيهقي في [الشُّعَب]، وأبو يَعْلَى في [مسنده] كلهم من طريق يوسف بن زياد الواسطي، عن عبد الرحمن بن زياد بن أَنْعَم الإفريقي، عن الأغرِّ أبي مسلم، عن أبي هريرة.
قال الشوكاني في [نيل الأوطار]: “ومداره على يوسف بن زياد الواسطي، وهو ضعيف، عن شيخه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وهو أيضا ضعيف”.
قلت: وعلى فرض صحته فلا يمكن أن يقاوم هذه الأحاديث والآثار الكثيرة الدالة على الإباحة!
هذا ما كتبته الآن في المسألة، مما وقفت عليه فيها من الأحاديث والآثار، وكلام المحدثين، وكنت قد كتبت قديما عن مذاهب الفقهاء فيها، وأنه يكاد يكون شبه إجماع على جواز بل استحباب تقبيل يد من يستحق التقبيل!
وها أنا أضم كلام الفقهاء إلى كلام المحدثين في المسألة، مع بعض زيادة وقفت عليها؛ ليكتمل الكلام، ويتم النفع؛ ليعلم الجاهل والمقصر أن الفقهاء حين يتكلمون لا يتكلمون إلا بدليل معتبر، علمه من عمله، وجهله من جهله!
قلت:
إنكار الناس لعادة من العادات أو سنة من السنن، كتقبيل يد العالم والصالح؛ إن كان سببه الجهل؛ فليس جهل الجاهل بحجة، وإن كان سببه الإنكار فليس الإنكار أيضا بحجة؛ إذا ثبت الدليل!
وقد ثبتت الأدلة بتقبيل الصحابة أطراف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعله الصحابة والسلف الصالح بعضهم مع بعض، وصنف فيه الحافظ أبو بكر بن المقري جزءا، أورد فيه كثيرا من الأحاديث والآثار المصرحة، والمقتضية للتقبيل!
ونحن نذكر أقوال أئمة المذاهب الأربعة المعتمدة عند جمهور المسلمين في العمل والفتوى، والتي بنوها على هذه الأدلة وغيرها.
أولا: مذهب السادة الحنفية:
قال الزيلعي: “تقبيل يد العالم، أو يد السلطان العادل؛ سنة”.
وقال الطحطاوي في (حاشيته) على (مراقي الفلاح): “فعلم من مجموع ما ذكرنا؛ إباحة تقبيل اليد، والرجل، والكشح، والرأس، والجبهة، والشفتين، وبين العينين، ولكن كل ذلك إذا كان على وجه المبرة والإكرام، وأما إذا كان ذلك على وجه الشهوة؛ فلا يجوز إلا في حق الزوجين”.
وقال في (الدر المختار): “لا بأس بتقبيل يد الحاكم المتدين، والسلطان العادل، وقيل: سنة، وتقبيل رأسه – أي العالم – أجود – كما في (البزَّازية) – ولا رخصة فيه – أي في تقبيل اليد – لغيرهما – أي لغير عالم، وعادل – وهو المختار. وفي (المحيط): إن كان لتعظيم إسلامه وإكرامه؛ جاز، وإن كان لنيل الدنيا؛ كره، وإذا طُلب من عالم أو زاهد؛ أن يَدفع إليه قدمَه، ويمكِّنه من قدمه ليقبِّله؛ أجابه! وقيل: لا يرخص فيه”.
ثانيا: مذهب السادة المالكية:
قال أبو الحسن المالكي في (كفاية الطالب): “وكره مالك – رحمه الله – تقبيل اليد – أي يد الغير – ظاهره سواء كان الغير عالما، أو غيره، ولو أبا، أو سيدا، أو زوجا، وهو ظاهر المذهب؛ لأنه من فعل الأعاجم، ويدعو إلى الكبر، ورؤية النفس، وأنكر مالك – رحمه الله – ما رُوي فيه – أي في تقبيل اليد – فإن كان إنكاره من جهة الرواية؛ فهو حجة؛ لأنه إمام الحديث، وإن كان من جهة الفقه؛ فلما تقدم.
وقال ابن بطال المالكي : “إنما يكره تقبيل يد الظلمة والجبابرة، وأما يد الأب والرجل الصالح ومن ترجى بركته؛ فجائز”.
وقَال الأَْبْهَرِيُّ: “وَإِنَّمَا كَرِهَهُ مَالِكٌ؛ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالتَّكَبُّرِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ إِلَى اللَّهِ، لِدِينِهِ، أَوْ لِعِلْمِهِ، أَوْ لِشَرَفِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ”.
وقال العلامة النفراوي في (الفواكه الدواني): “(وَكَرِهَ مَالِكٌ تَقْبِيلَ الْيَدِ) أَيْ يَدُ الْغَيْرِ حِينَ السَّلَامِ عَلَيْهِ (وَأَنْكَرَ مَا رُوِيَ فِيهِ) أَيْ التَّقْبِيلُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي مِنْهَا: «أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا قَامُوا عَلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ابْتَدَرُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ»، وَهُوَ صَحِيحٌ، وَمِنْهَا تَقْبِيلُ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ يَدَهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِنْهَا تَقْبِيلُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ: «أَرِنِي آيَةً، فَقَالَ: اذْهَبْ إلَى تِلْكَ الشَّجَرَةِ، وَقُلْ لَهَا: النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَدْعُوك، فَتَحَرَّكَتْ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَأَقْبَلَتْ إلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَهِيَ تَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ: قُلْ لَهَا ارْجِعِي، فَرَجَعَتْ كَمَا كَانَتْ، فَقَبَّلَ الْأَعْرَابِيُّ يَدَهُ وَرِجْلَهُ، وَأَسْلَمَ». وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ.
إنْكَارُ مَالِكٍ لِمَا رُوِيَ فِي تَقْبِيلِ الْيَدَيْنِ؛ إنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ، فَمَالِكٌ حُجَّةٌ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ إمَامُ الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِهَةِ الْفِقْهِ، فَلِمَا تَقَدَّمَ.
ثم قال: وَعَمَلِ النَّاسِ عَلَى جَوَازِ تَقْبِيلِ يَدِ مَنْ تَجُوزُ التَّوَاضُعُ لَهُ وَإِبْرَارُهُ، فَقَدْ قَبَّلَتْ الصَّحَابَةُ يَدَ رَسُولِ اللَّهِ – عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَمِنْ الرَّسُولِ لِفَاطِمَةَ، وَمِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ بَعْضِهِمْ.
وَظَاهِرُ كَلَامِهِ؛ وَلَوْ كَانَ ذُو الْيَدِ عَالِمًا أَوْ شَيْخًا أَوْ سَيِّدًا أَوْ وَالِدًا حَاضِرًا أَوْ قَادِمًا مِنْ سَفَرٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَمَحِلُّ الْكَرَاهَةِ إذَا كَانَ الْمُقَبِّلُ مُسْلِمًا، وَأَمَّا لَوْ قَبَّلَ يَدَك نَصْرَانِيٌّ أَوْ يَهُودِيٌّ فَلَا كَرَاهَةَ، وَإِنَّمَا كَرِهَ مَالِكٌ تَقْبِيلَ الْيَدِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْكِبْرِ وَرُؤْيَةِ النَّفْسِ عَظِيمَةً، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَلَعَلَّ الْمُقَبِّلَ بِالْكَسْرِ أَفْضَلُ مِنْ ذِي الْيَدِ عِنْدَ اللَّهِ، وَبِالْجُمْلَةِ لَا يُنْكَرُ عَلَى مَنْ فَعَلَهَا مَعَ ذَوِي الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ؛ لِوُرُودِهَا فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ، وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِهَا مَعَ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا مِنْ الْمُقَاطَعَةِ وَالشَّحْنَاءِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي زَمَانِنَا”.
ثالثا: مذهب السادة الشافعية:
قال الإمام النووي في (روضة الطالبين): “وأما تقبيل اليد؛ فإن كان لزهد صاحب اليد وصلاحه، أو علمه، أو شرفه وصيانته، ونحوه من الأمور الدينية؛ فمستحب، وإن كان لدنياه، وثروته، وشوكته، ووجاهته، ونحو ذلك؛ فمكروه شديد الكراهة. وقال المتولي: لا يجوز، وظاهره التحريم”.
وبوَّب النووي رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين): “باب استحباب المصافحة عند اللقاء، وبشاشة الوجه، وتقبيل يد الرجل الصالح”!
رابعا: مذهب السادة الحنابلة:
قال أبو بكر المروزي في (كتاب الورع): “سألت أبا عبد الله – أحمد بن حنبل – عن قبلة اليد، فلم ير به بأسا، على طريق التدين، وكرهها على طريق الدنيا.
سألت أبا عبد لله عن قبلة اليد، فقال: إن كان على طريق التدين؛ فلا بأس، قد قبَّل أبو عبيدة يد عمر بن الخطاب، وإن كان على طريق الدنيا؛ فلا، إلا رجلا يخاف سيفه أو سوطه”.
وقال الحافظ ابن الجوزي – وهو من الحنابلة – في [مناقب أصحاب الحديث]: “من التواضع تقبيل يده – يعني العالم – وقبَّل سفيان بن عيينة، والفضيل بن عياض؛ أحدهما يد الحسين بن علي الجُعْفي، والآخرُ رِجْله”.
وقال البُهوتي في (كشاف القناع): “فيباح تقبيل اليد، والرأس، تدينا، وإكراما، واحتراما، مع أمن الشهوة، وظاهره عدم إباحته لأمر الدنيا، وعليه يحمل النهي”.
وقال السفاريني الحنبلي في [الآداب الكبرى] له: “وتباح المعانقة، وتقبيل الرأس واليد تديّناً وتكرّماً واحتراماً، مع أمن الشهوة”.
وفي (الموسوعة الفقهية الكويتية)، تحت عنوان (التقبيل المباح)، تلخيصا للمسألة، والأدلة الواردة فيها: “يَجُوزُ تَقْبِيل يَدِ الْعَالِمِ الْوَرِعِ وَالسُّلْطَانِ الْعَادِل، وَتَقْبِيل يَدِ الْوَالِدَيْنِ، وَالأُْسْتَاذِ، وَكُل مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ وَالإِْكْرَامَ، كَمَا يَجُوزُ تَقْبِيل الرَّأْسِ وَالْجَبْهَةِ وَبَيْنَ الْعَيْنَيْنِ، وَلَكِنْ كُل ذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمَبَرَّةِ وَالإِْكْرَامِ، أَوِ الشَّفَقَةِ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَالْوَدَاعِ، وَتَدَيُّنًا وَاحْتِرَامًا مَعَ أَمْنِ الشَّهْوَةِ”.
وأما الانحناء فقال في (الفواكه الدواني): “وَأَفْتَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِجَوَازِ الِانْحِنَاءِ؛ إذَا لَمْ يَصِلْ إلَى حَدِّ الرُّكُوعِ الشَّرْعِيِّ”.
قلت: تقبيل اليد مِن لازمه الانحناء للأخذ باليد، وهذا القدر لا بأس به، أما الانحناء المشبه للركوع؛ فهو حرام باتفاق، لا شك في ذلك!
فقد ثبت اتفاق المذاهب الأربعة على جواز تقبيل يد العالم، إكراما له وبرًّا به، مع أمن الشهوة، وعدم اغترار العالم، ورؤيته نفسه عظيمة، وعدم غضبه إذا لم تُقَبَّلْ يدُه!
قلت: وينبغي أن يراعي العرف في ذلك، فمن كانت عادتهم عدم تقبيل اليد؛ لا يتركها إليهم، وإن كان من عادتهم التقبيل، وتنكسر خواطرهم بمنعهم منه؛ تركها لهم، وقد كان أكثر شيوخنا لا يتركون أيديهم للتقبيل؛ إلا إن اضطروا إلى ذلك، بسبب ازدحام الناس عليهم، ورغبتهم في تقبيلها، جبرا لخاطرهم، وخشية كسره، بامتناعهم من التقبيل، وبالله التوفيق.