مقالات قيمة في الفقه

تحقيق مذهب الشافعية في حلق اللحية والأخذ منها (منقول)

أولاً: ذكر كلام الشافعية في الأخذ من اللحية:
قال النووي في المجموع:
(فرع) سبق في الحديث أن إعفاء اللحية من الفطرة. فالإعفاء بالمد: قال الخطابي وغيره: هو توفيرها وتركها بلا قص, كره لنا قصها كفعل الأعاجم. قال: وكان من زي كسرى قص اللحى وتوفير الشوارب.
قال الغزالي في الإحياء اختلف السلف فيما طال من اللحية:
فقيل: لا بأس أن يقبض عليها ويقص ما تحت القبضة, فعله ابن عمر ثم جماعة من التابعين, واستحسنه الشعبي وابن سيرين.
وكرهه الحسن وقتادة: وقالوا يتركها عافية لقوله r: (وأعفو اللحى).
قال الغزالي والأمر في هذا قريب إذا لم ينته إلى تقصيصها؛ لأن الطول المفرط قد يشوه الخلقة. هذا كلام الغزالي.
والصحيح: كراهة الأخذ منها مطلقا, بل يتركها على حالها كيف كانت؛ للحديث الصحيح (وأعفوا اللحي).
وأما الحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي r (كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها) فرواه الترمذي بإسناد ضعيف لا يحتج به.
ثانياً: ذكر كلام الشافعية في حلق اللحية أو نتفها:
أولا: ذكر من قال بكراهة حلقها أو نتفها:
قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في أسنى المطالب في شرح روض الطالب:
(وَ) يُكْرَهُ (نَتْفُهَا) أَيْ اللِّحْيَةِ أَوَّلَ طُلُوعِهَا إيثَارًا لِلْمُرُودَةِ وَحُسْنِ الصُّورَةِ.
قال الرملى الكبير في حاشيته على أسنى المطالب في شرح روض الطالب:
(قَوْلُهُ وَيُكْرَهُ نَتْفُهَا) أَيْ اللِّحْيَةِ إلَخْ وَمِثْلُهُ حَلْقُهَا فَقَوْلُ الْحَلِيمِيِّ فِي مِنْهَاجِهِ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْلِقَ لِحْيَتَهُ، وَلَا حَاجِبَيْهِ ضَعِيفٌ.
قال الخطيب الشربيني في مغني المحتاج:
ويكره نتف اللحية أول طلوعها إيثارا للمرودة.
قال ابن حجر في التحفة:
(فَرْعٌ) ذَكَرُوا هُنَا فِي اللِّحْيَةِ وَنَحْوِهَا خِصَالًا مَكْرُوهَةً مِنْهَا نَتْفُهَا وَحَلْقُهَا, وَكَذَا الْحَاجِبَانِ وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُ الْحَلِيمِيِّ لَا يَحِلُّ ذَلِكَ لِإِمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْحِلِّ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ وَالنَّصُّ عَلَى مَا يُوَافِقُهُ إنْ كَانَ بِلَفْظٍ لَا يَحِلُّ يُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يَحْرُمُ كَانَ خِلَافَ الْمُعْتَمَدِ وَصَحَّ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ «كَانَ r يَأْخُذُ مِنْ طُولِ لِحْيَتِهِ وَعَرْضِهَا» وَكَأَنَّهُ مُسْتَنَدُ ابْنِ عُمَرَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – فِي كَوْنِهِ كَانَ يَقْبِضُ لِحْيَتَهُ وَيُزِيلُ مَا زَادَ لَكِنْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ الْأَمْرُ بِتَوْفِيرِ اللِّحْيَةِ أَيْ بِعَدَمِ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهَا وَهَذَا مُقَدَّمٌ لِأَنَّهُ أَصَحُّ عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ الْأَوَّلِ عَلَى أَنَّهُ لِبَيَانِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّوْفِيرِ لِلنَّدْبِ وَهَذَا أَقْرَبُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَا إذَا زَادَ انْتِشَارُهَا وَكِبَرُهَا عَلَى الْمَعْهُودِ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ أَئِمَّتِنَا كَرَاهَةُ الْأَخْذِ مِنْهَا مُطْلَقًا وَادِّعَاءُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يُشَوِّهُ الْخِلْقَةَ مَمْنُوعٌ وَإِنَّمَا الْمُشَوِّهُ تَرْكُهُ تَعَهُّدَهَا بِالْغَسْلِ وَالدَّهْنِ وَبَحَثَ الْأَذْرَعِيُّ كَرَاهَةَ حَلْقِ مَا فَوْقَ الْحُلْقُومِ مِنْ الشَّعْرِ وَقَالَ غَيْرُهُ إنَّهُ مُبَاحٌ.
قال النووي في المنهاج:
فصل: يعزر في كل معصية لا حد لها ولا كفارة بحبس أو ضرب أو صفع أو توبيخ.
قال ابن حجر في التحفة أيضا:
(أَوْ تَوْبِيخٍ) بِاللِّسَانِ أَوْ تَغْرِيبٍ أَوْ كَشْفِ رَأْسٍ أَوْ قِيَامٌ مِنْ الْمَجْلِسِ أَوْ تَسْوِيدِ وَجْهٍ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَحَلْقِ رَأْسٍ لَا لِحْيَةٍ انْتَهَى. وَظَاهِرُهُ حُرْمَةُ حَلْقِهَا وَهُوَ إنَّمَا يَجِيءُ عَلَى حُرْمَتِهِ الَّتِي عَلَيْهَا أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ.
أَمَّا عَلَى كَرَاهَتِهِ الَّتِي عَلَيْهَا الشَّيْخَانِ وَآخَرُونَ فَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ إذَا رَآهُ الْإِمَامُ لِخُصُوصِ الْمُعَزَّرِ أَوْ الْمُعَزَّرِ عَلَيْهِ، فَإِنْ قُلْت فِيهِ تَمْثِيلٌ وَقَدْ نُهِينَا عَنْ الْمُثْلَةِ قُلْت مَمْنُوعٌ لِإِمْكَانِ مُلَازَمَتِهِ لِبَيْتِهِ حَتَّى تَعُودَ فَغَايَتُهُ أَنَّهُ كَحَبْسٍ دُونَ سَنَةٍ مَعَ ضَرْبٍ دُونَ الْحَدِّ وَمَعَ تَسْوِيدِ الْوَجْهِ إذْ لِلْإِمَامِ الْجَمْعُ بَيْنَ أَنْوَاعٍ مِنْهُ كَمَا يَأْتِي وَإِرْكَابِهِ الْحِمَارَ مَنْكُوسًا وَالدَّوَرَانِ بِهِ كَذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ وَتَهْدِيدِهِ بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ.
قال الشرواني في حاشيته على تحفة المحتاج:
(قَوْلُهُ لَا لِحْيَةٍ) أَيْ: لَا يَجُوزُ التَّعْزِيرُ بِحَلْقِهَا وَإِنْ أَجْزَأَ لَوْ فَعَلَهُ الْإِمَامُ اهـ. ع ش وَحَلَبِيٌّ وَسَمِّ عَلَى الْمَنْهَجِ.
(قَوْلُهُ عَلَى كَرَاهَتِهِ الَّتِي عَلَيْهَا الشَّيْخَانِ) وَآخَرُونَ وَهِيَ الْأَصَحُّ اهـ نِهَايَةٌ أَيْ: إذَا فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ ع ش.
(قَوْلُهُ فَلَا وَجْهَ لِلْمَنْعِ إلَخْ) خِلَافًا لِلنِّهَايَةِ وَالْمُغْنِي وَشَرْحَيْ الْمَنْهَجِ وَالرَّوْضِ.
(قَوْلُهُ أَوْ الْمُعَزَّرِ عَلَيْهِ) أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوُ (قَوْلُهُ فِيهِ) أَيْ: حَلْقِ اللِّحْيَةِ (قَوْلُهُ تَمْثِيلٌ) أَيْ تَغْيِيرٌ لِلْخِلْقَةِ.
قال شمس الدين الرملى في النهاية:
(أَوْ تَوْبِيخٍ) بِاللِّسَانِ أَوْ تَغْرِيبٍ دُونَ سَنَةٍ فِي الْحُرِّ وَدُونَ نِصْفِهَا فِي ضِدِّهِ فِيمَا يَظْهَرُ، وَلَمْ أَرَهُ مَنْقُولًا، أَوْ قِيَامٌ مِنْ الْمَجْلِسِ أَوْ كَشْفِ رَأْسٍ أَوْ تَسْوِيدِ وَجْهٍ أَوْ حَلْقِ رَأْسٍ لِمَنْ يَكْرَهُهُ فِي زَمَنِنَا, لَا لِحْيَةٍ وَإِنْ قُلْنَا بِكَرَاهَتِهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ.
قال الشبراملسي في حاشيته على نهاية المحتاج:
(قَوْلُهُ: لَا لِحْيَةٍ) أَيْ فَلَا يَجُوزُ التَّعْزِيرُ بِحَلْقِهَا، قَالَ سم عَلَى مَنْهَجٍ ع: هَذَا الْكَلَامُ ظَاهِرُهُ بَلْ صَرِيحُهُ أَنَّ حَلْقَ اللِّحْيَةِ لَا يُجْزِي فِي التَّعْزِيرِ لَوْ فَعَلَهُ الْإِمَامُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِيمَا يَظْهَرُ، وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي كَلَامِ غَيْرِهِ أَنَّ التَّعْزِيرَ لَا يَجُوزُ بِحَلْقِ اللِّحْيَةِ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ الْإِجْزَاءِ، وَلَعَلَّهُ مُرَادُ الشَّارِحِ – رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى – اهـ وَفِي حَجّ: وَيَجُوزُ حَلْقُ رَأْسِهِ لَا لِحْيَتِهِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: يَجُوزُ تَسْوِيدُ وَجْهِهِ اهـ.
قَالَ م ر: وَلَيْسَ عَدَمُ جَوَازِ حَلْقِ اللِّحْيَةِ مَبْنِيًّا عَلَى حُرْمَةِ حَلْقِ اللِّحْيَةِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ؛ لِأَنَّ لِلْإِنْسَانِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ اهـ
(قَوْلُهُ: وَإِنْ قُلْنَا بِكَرَاهَتِهِ) أَيْ إذَا فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ.
قال الشيخ قليوبي في حاشيته على كنز الراغبين شرح منهاج الطالبين:
(أَوْ تَوْبِيخٍ بِالْكَلَامِ) وَبِالْقِيَامِ مِنْ مَجْلِسٍ وَخَلْعِ مَلْبُوسٍ، وَيَجُوزُ بِإِرْكَابِ دَابَّةٍ نَحْوِ حِمَارٍ مَقْلُوبًا وَدَوَرَانِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَبِكَشْفِ رَأْسٍ وَحَلْقِ رَأْسٍ لِمَنْ يَكْرَهُهُ، وَيُصْلَبُ دُونَ ثَلَاثٍ وَتَغْرِيبٍ دُونَ عَامٍ فِي الْحُرِّ، وَدُونَ نِصْفِهِ فِي الرَّقِيقِ وَلَا يَجُوزُ مَنْعُ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ حَلْقِ لِحْيَةٍ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْأَصَحِّ إنَّهُ يُكْرَهُ حَلْقُهَا لِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَحَلْقُ رَأْسِ الْمَرْأَةِ كَاللِّحْيَةِ، وَلَوْ عُزِّرَ بِهِ فِيهِمَا كَفَى وَمَنَعَ شَيْخُنَا الرَّمْلِيُّ تَبَعًا لِابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ الضَّرْبَ بِالدُّرَّةِ الْمَعْرُوفَةِ الْآنَ لِذَوِي الْهَيْئَاتِ لِأَنَّهُ صَارَ عَارًا فِي ذُرِّيَّتِهِمْ فَرَاجِعْهُ.
قال الدمياطي في إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين (حاشية):
(قوله: ويحرم حلق لحية) المعتمد عند الغزالي وشيخ الإسلام (زكريا الأنصاري) وابن حجر في التحفة والرملي والخطيب وغيرهم: الكراهة.
وقال: (فائدة) قال الشيخان: يكره حلق اللحية.
ثانيا: ذكر من قال بحرمة حلقها:
قال الشافعي في الأم:
وَالْحِلَاقُ لَيْسَ بِجِنَايَةٍ؛ لِأَنَّ فِيهِ نُسُكًا فِي الرَّأْسِ وَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ أَلَمٍ, وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي اللِّحْيَةِ لَا يَجُوزُ فَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ أَلَمٍ وَلَا ذَهَابُ شَعْرٍ.
قال ابن حجر في التحفة:
(أَوْ تَوْبِيخٍ) بِاللِّسَانِ أَوْ تَغْرِيبٍ أَوْ كَشْفِ رَأْسٍ أَوْ قِيَامٌ مِنْ الْمَجْلِسِ أَوْ تَسْوِيدِ وَجْهٍ، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَحَلْقِ رَأْسٍ لَا لِحْيَةٍ انْتَهَى. وَظَاهِرُهُ حُرْمَةُ حَلْقِهَا وَهُوَ إنَّمَا يَجِيءُ عَلَى حُرْمَتِهِ الَّتِي عَلَيْهَا أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ.
قال ابن الرفعة في حاشية الكافية:
بأن الشافعي t نص في الأم على التحريم([1]).
قال الزركشي: وكذا الحليمي في شعب الإيمان, وأستاذه القفال الشاشي في محاسن الشريعة.
وقال الأذْرَعي: الصواب تحريم حلقها جملة لغير علة بها، كما يفعله القلندرية.اهـ.
نقلاً عن الدمياطي في حاشيته (إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين).
قال المليباري الهندي (تلميذ ابن حجر) في فتح المعين بشرح قرة العين بمهمات الدين:
ويحرم حلق لحية وخضب يدي الرجل ورجليه بحناء خلافا لجمع فيهما.اهـ([2]).
قال ابن الملقن (ت-804) في كتابه (الإعلام بفوائد عمدة الأحكام) (1/711, 712):
قال الحليمي في منهاجه: لا يحل لأحد أن يحلق لحيته ولا حاجبيه، وإن كان له أن يحلق سباله، لأن لحلقه فائدة، وهي أن لا يعلق به من دسم الطعام ورائحته ما يكره، بخلاف حلق اللحية فإنه هُجنة وشهرة وتشبه بالنساء، فهو كجبِّ الذكر.
وما ذكره في حق اللحية حسن, وإن كان المعروف في المذهب الكراهة. اهـ.
* كلام النووي في صحيح مسلم عن اللحية:
– وأما إعفاء اللحية فمعناه توفيرها وهو معنى أوفوا اللحى في الرواية الأخرى وكان من عادة الفرس قص اللحية فنهى الشرع عن ذلك.
– قوله r: (أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى) وفي الرواية الأخرى (وأوفوا اللحى) … وقد تقدم بيان معنى إحفاء الشوارب وإعفاء اللحى وأما أوفوا فهو بمعنى أعفوا أي اتركوها وافية كاملة لا تقصوها.
– وأما قوله r: (وأرخوا) … معناه اتركوها ولا تتعرضوا لها بتغيير.
– فحصل خمس روايات (أعفوا وأوفوا وأرخوا وأرجوا ووفروا) ومعناها كلها تركها على حالها هذا هو الظاهر من الحديث الذي تقتضيه ألفاظه وهو الذي قاله جماعة من أصحابنا وغيرهم من العلماء.
– والمختار ترك اللحية على حالها وألا يتعرض لها بتقصير شيء أصلا.
* يتضح مما سبق أمور:
(1) أن الشافعية متفقون على كراهة الأخذ من اللحية, كما اعتمده النووي في المجموع.
(2) أن هناك خلافاً في المذهب حول حلقها, بين قائل بالتحريم, وآخر بالكراهة.
(3) أن قول الشافعي في الأم: (وهو وإن كان في اللحية لا يجوز) فُهم منه التحريم, كما قاله ابن الرفعة (ت-710), وصرح به بعده الأذْرَعي (ت-783), واعتمده قبلهما القفال الشاشي الكبير(ت-336), وتلميذه الحليمي (ت-403), وكذا الماوردي (ت-450). ومعلوم مال هؤلاء العلماء من مكانة علمية في المذهب.
ومما يقوي أن مقصود الشافعي بقوله هذا التحريم؛ أن كل من نقل الكراهة لم يذكر في نقله نص الشافعي هذا أو أنه قصد به الكراهة, أو أن هذا النص قد اختلف فيه, أو أن هناك قولان مثلاً عن الشافعي.
(4) أن من نقل عن شيخي المذهب (الرافعي والنووي) القول بحرمة الحلق, لم يذكر توثيقاً لذلك, وهذا غريب جداً مع انتشار كتب الشيخين.
وقد حاولت البحث عن أي نقل في كتبهما فلم أجد شيئاً مما نسبوه إليهما, إلا ما ذكره النووي في المجموع عن أبو طالب المكي ثم الغزالي قولهما: في اللحية عشر خصال مكروهة: الرابعة نتفها في أول طلوعها وتخفيفها بالموسى ايثاراً للمرودة واستصحابا للصبي وحسن الوجه. وهذه الخصلة من أقبحها. اهـ.
ولما رجعت إلى أصل كلام الغزالي في الإحياء رأيته يقول:
وفي اللحية عشر خصال مكروهة وبعضها أشد كراهة من بعض: خضابها بالسواد, وتبييضها بالكبريت, ونتفها ونتف الشيب منها, والنقصان منها والزيادة وتسريحها تصنعا؛ لأجل الرياء, وتركها شعثة؛ إظهارا للزهد, والنظر إلى سوادها؛ عجبا بالشباب, وإلى بياضها؛ تكبرا بعلو السن, وخضابها بالحمرة والصفرة من غير نية تشبها بالصالحين.
ثم قال: الخامس: نتفها أو نتف بعضها بحكم العبث والهوس, وذلك مكروه ومشوه للخلقة, ونتف الفنيكين بدعة وهما جانبا العنفقة.
شهد عند عمر بن عبد العزيز رجل كان ينتف فنيكيه فرد شهادته, ورد عمر بن الخطاب t وابن أبي ليلى قاضي المدينة شهادة من كان ينتف لحيته.
وأما نتفها في أول النبات تشبها بالمرد فمن المنكرات الكبار فإن اللحية زينة الرجال فإن لله سبحانه ملائكة يقسمون (والذي زين بني آدم باللحى), وهو من تمام الخلق وبها يتميز الرجال عن النساء.
وقيل في غريب التأويل اللحية هي المراد بقوله تعالى {يزيد في الخلق ما يشاء}.
قال أصحاب الأحنف بن قيس: وددنا أن نشتري للأحنف لحية ولو بعشرين ألفا.
وقال شريح القاضي: وددت أن لي لحية ولو بعشرة آلاف, وكيف تكره اللحية وفيها تعظيم الرجل والنظر إليه بعين العلم والوقار والرفع في المجالس وإقبال الوجوه إليه والتقديم على الجماعة, ووقاية العرض؛ فإن من يشتم يعرض باللحية إن كان للمشتوم لحية.
وقد قيل: إن أهل الجنة مرد إلا هارون أخا موسى صلى الله عليهما وسلم فإن له لحية إلى سرته تخصيصا له وتفضيلا.
– أما كلام النووي في شرح مسلم فظاهره والله أعلم يومئ إلى التحريم وليس الكراهة, وانظر إلى عباراته: (فنهى الشرع عن ذلك), (المختار ترك اللحية على حالها وألا يتعرض لها بتقصير شيء أصلا), وقوله عن الروايات الخمس (ومعناها كلها: تركها على حالها, هذا هو الظاهر من الحديث الذي تقتضيه ألفاظه).
فقوله الأول (فنهى الشرع عن ذلك) الظاهر أن الذي جرى عليه النووي والشافعية وكذا الجمهور أن النهي عندهم على الإطلاق مقصودهم به التحريم, إلا إذا وجدت قرينة تصرفه على الكراهة, والناظر لشرح النووي على المسلم يراه دائما يذكر أوامر يحملها على الاستحباب أو نواهي يصرفها على الكراهة, ويذكر الصارف أحياناً, وأخرى لا يذكره.
لكن ذكره هنا النهي مطلقا دون أن يصرح بكراهته, أو أن يذكر صارفا له؛ فيبقى كلامه على الأصل المعتمد عنده وعند الشافعية والجمهور(الأصل في الأمر الوجوب إلا إذا أتت قرينة تصرفه للإستحباب).
وكذا أقواله الأخرى توافق ما قررته ولا تناقضه.
(5) أن القول بالحرمة قولٌ مشهورٌ في المذهب, إن لم يكن هو المعتمد, ويدل على ذلك كلام ابن حجر نفسه: (وظاهره حرمة حلقها وهو إنما يجيء على حرمته التي عليها أكثر المتأخرين). والظاهر أنه يقصد بقوله (المتأخرين): ابن الرفعة والأذْرَعي.
(6) أن كل من نص على الكراهة في الحلق, هو من المتأخرين, كالشيخ زكريا الأنصاري (ت-926), وشهاب الدين الرملي الكبير – أحمد بن حمزة – (ت-971), وابن حجر (ت-974), والخطيب (ت-977), وشمس الدين محمد بن أحمد بن حمزة الرملي (ت-1004)([3]).
وكذالك من جاء بعدهم من أصحاب الحواشي.
(7) الذي يتضح لي أن التنصيص صراحة بأن المعتمد في المذهب هو كراهة الحلق لم يقل به إلا المتأخرين من أول الشيخ زكريا الأنصاري وكل من جاء بعده.
وهذا التنصيص بأن المعتمد هو الكراهة لم يأتي – فيما أعلم – صريحا على لسان أحد مما نسبوه إليه, كالغزالي والرافعي والنووي, بل كلام الغزالي السابق (وأما نتفها في أول النبات تشبها بالمرد فمن المنكرات الكبار) يومئ بشدة إلى التحريم, إن لم يكن نصاً فيه. والله أعلم.

([1]) الظاهر أنه يقصد قول الشافعي السابق (وهو وإن كان في اللحية لا يجوز).

([2]) قال الدمياطي في حاشيته (إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين): إذا علمت ذلك، فلعله جرى على ما جرى عليه شيخه في شرح العباب، وهو ضعيف، لأنه إذا اختلف كلامه في كتبه، فالمعتمد ما في التحفة. اهـ.
أي أن كتاب التحفة ناسخ لكتاب شرح العباب؛ فيكون هو المعتمد.

([3]) الذي يُفسد عليّ ما توصلت إليه: هو قول ابن الملقن: (وإن كان المعروف في المذهب الكراهة), وابن الملقن متقدم على هؤلاء المذكورين (ت-804).

https://feqhweb.com/vb/threads/للمناقشة-تحقيق-مذهب-الشافعية-في-حلق-اللحية-والأخذ-منها.8920/

السابق
السُنّة والمندوب والمستحب عند الشافعية (منقول)
التالي
وفاة العالم العصامي المحقق المحدّث الأستاذ حسين سليم أسد الداراني (منقول)