جَاءَ فِي حديث النزول الصحيح: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ قَالَ: ” يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ…” الحديث.
بَوَّب البُخاري لحديث “النزول” هذا في صحيحه فقال: ((بَابُ الدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ)) [فتح الباري (3/29)]..
وكذلك مسلم في صحيحه: ((بَابُ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَعَدَدِ رَكَعَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ فِي اللَّيْلِ)) [شرح النووي على مسلم (6/16)]..
والإمام مالك بن أنس: ((بَابُ مَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ)) [الموطأ (1/214)]..
وكذلك ابن حبان في صحيحه فقال: ((ذِكْرُ الْإِخْبَارِ عَمَّا يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْءِ مِنَ الدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ الْآخِرِ)) [صحيح ابن حبان (3/198)]..
والحافظ البيهقي: ((بَابُ التَّرْغِيبِ فِي قِيَامِ آخِرِ اللَّيْلِ)) [السنن الكبرى (3/3)]
وقال هناك: ((أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُحَمَّدٍ أَحْمَدَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِيَّ يَقُولُ: “حَدِيثُ النُّزُولِ قَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ صَحِيحَةٍ، وَوَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ مَا يُصَدِّقُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]، وَالنُّزُولُ وَالْمَجِيءُ صِفَتَانِ مَنْفِيَّتَانِ عَنِ اللهِ تَعَالَى مِنْ طَرِيقِ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، بَلْ هُمَا صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى بِلَا تَشْبِيهٍ جَلَّ اللهُ تَعَالَى عَمَّا تَقُولُ الْمُعَطِّلَةُ لِصِفَاتِهِ، وَالْمُشَبِّهَةُ بِهَا عُلُوًّا كَبِيرًا”. قُلْتُ: وَكَانَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ – رَحِمَهُ اللهُ – يَقُولُ: “إِنَّمَا يُنْكِرُ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ الْحَدِيثِ مَنْ يَقِيسُ الْأُمُورَ فِي ذَلِكَ بِمَا يُشَاهِدُهُ مِنَ النُّزُولِ الَّذِي هُوَ تَدَلِّي مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ، وَانْتِقَالٌ مِنْ فَوْقٍ إِلَى تَحْتٍ، وَهَذِهِ صِفَةُ الْأَجْسَامِ وَالْأَشْبَاحِ، فَأَمَّا نُزُولُ مَنْ لَا تَسْتَوْلِي عَلَيْهِ صِفَاتُ الْأَجْسَامِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ غَيْرُ مُتَوَهَّمَةٍ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ قُدْرَتِهِ وَرَأْفَتِهِ بِعِبَادِهِ، وَعَطْفِهِ عَلَيْهِمْ، وَاسْتِجَابَتِهِ دُعَاءَهُمْ، وَمَغْفِرَتِهِ لَهُمْ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى صِفَاتِهِ كَيْفِيَّةٌ وَلَا عَلَى أَفْعَالِهِ كَمِّيَّةٌ، سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ”)) [السنن الكبرى (3/4)]…الخ.
وهكذا الأمر في كتب السنة المعتمدة، فعامة أيمة الحديث – كما يظهر من صنيعهم – وجَّهوا الحديث إلى الجانب “العملي”، وهو الترغيب في صلاة الليل وأن آخر الليل من أفضل أوقات الدعاء والاستغفار، فالألفاظ عندهم هي قوالب للمعاني كما تقرر في فقه اللغة، فلم يتقعروا في المبنى على حساب المعنى، ولم يحطوا رحالهم عند ظواهر الألفاظ ليستخلصوا منها ما يصادم روح النص نفسه!!! كما فعل ابن تيمية الحراني حيث أدخل الحديث في معارك “دونكيشوتية” لا تمت بصلة لما يهدف إليه الحديث نفسه، فراح يفرِّع ويرغي ويزبد ويقيص ويزيد زاعما ما حاصله: نزوله تعالى لا يكون إلا بحركة ونقلة!!!، ينزل بحركة ولا يخلو العرش منه!!!، نزوله من جنس صعوده!!!…الخ الأحوال “الحسية” التي نسبها لربه كما يدرك من دراسة كتابه “شرح حديث النزول”…الخ.
قَال الحافظ ابن حجر العسقلاني نقلا عن القاضي البيضاوي ما نصه: ((وَلَمَّا ثَبَتَ بِالْقَوَاطِعِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجِسْمِيَّةِ وَالتَّحَيُّزِ؛ امْتَنَعَ عَلَيْهِ النُّزُولُ عَلَى مَعْنَى: الِانْتِقَالِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ أَخْفَضَ مِنْهُ، فَالْمُرَادُ: نُورُ رَحْمَتِهِ، أَيْ: يَنْتَقِلُ مِنْ مُقْتَضَى صِفَةِ الْجَلَالِ الَّتِي تَقْتَضِي الْغَضَبَ وَالِانْتِقَامَ، إِلَى مُقْتَضَى صِفَةِ الْإِكْرَامِ الَّتِي تَقْتَضِي الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ)) [فتح الباري (3/31)] وذكر الحافظ من فوائد الحديث: ((وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ: تَفْضِيلُ صَلَاةِ آخِرِ اللَّيْلِ عَلَى أَوَّلِهِ، وَتَفْضِيلُ تَأْخِيرِ الْوِتْرِ لَكِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ طَمِعَ أَنْ يَنْتَبِهَ، وَأَنَّ آخِرَ اللَّيْلِ أَفْضَلُ لِلدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: }وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ{ [آل عمران:17]، وَأَنَّ الدُّعَاءَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُجَابٌ)) [فتح الباري (3/31-32)]..
فعندما أثار ابن تيمية الحراني فتنة بسبب آرائه الشاذة في العقيدة..خاطبه أحد الأيمة – وأظنه التقي السبكي– فقال له ما معناه: لقد فتحت على العوام أبواب الغرور وغيرها من دواعي الشرور: “هل تكلّم الله بالقرآن بحرف وصوت؟!!!..هل يتحرّك الله عند النزول؟!!!…هل يخلو منه العرش؟!!!…الخ؟!!!”..وقال له: وهل هذا إلا كمثل قائد جيش أَبْرَد له السلطان بكتاب عاجل يستحثه على عدم التهاون في أمر هذا العدو أمامه ويشد من إزره ويدعوه إلى إحكام خطّة الجيش وأخذ الحيطة خاصة من جهة الميمنة..الخ فترك المسكين كل هذا وأخذ يقلّب ذهنه ويشغل جنده بـ: هل كتب السلطان كتابه هذا بيده هو أم أملاه بصوته؟!!! هل اختار نفس العبارات أم أوكل الأمر لوزيره؟!!! هل كتبه في دار الضيافة أم في الديوان؟!!! هل كتبه في الصبح أم بعد العشاء؟!!!..الخ؟!!!..
وهاهم أتباعه اليوم يسيرون على طريقته الفاسدة ويشغلون أمة التوحيد بعقائد باطلة عاطلة قتلها أيمة الإسلام بحثا وتفنيدا في مهدها، ولكن أريد لها أن تبعث من مرقدها لأجل أغراض سياسية في قالب إصلاحي “سلفي”..فهذا يكتب “عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن!!!“..وآخر “إثبات المؤمنين لصفة العينين لرب العالمين!!!”..”أين الله!!!”..الخ..فدحض شبهات هؤلاء المجسّمة من أوكد الجهاد الذي قال فيه ربنا: {وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}[الفرقان:52]..والله المستعان وعليه التكلان..
فشتان ما بين التنزيه والتشبيه..