مقالات في التجسيم

الخلاف في تكفير المجسمة وبيان أصنافهم وكلام العلماء فيهم (منقول)

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات والصلاة والسلام على سيدنا محمد قطب دائرة الكائنات وعلى آله وأصحابه البررة السادات.

أما بعد … فإني أكتب هذا المقال لبيان ما وقع من خلاف بين الأشاعرة فيما بينهم، خصوصا ما وقع بين الأحباش وبعض طلاب دكتور سعيد فودة، وحتى نكون واضحين فالخلاف حاصل في عدم تكفير (المجسم) ونحوه، والكل متفق على أن من لم نتحقق من كفره فيجب التوقف فيه، بخلاف المجسم، فبحسب رأي البعض قد قام الإجماع عليه وبحسب الرأي الآخر فإنه موضع خلاف بين العلماء، ولا يسلمون للاجماع المزعوم.

والجدير ذكره أن العلماء يطلقون اسم التجسيم على- معتقد -ثلاث أصناف من الناس وربما أكثر، الأول:

أن يعتقد في الله كونه جسما مركبا من جواهر وابعاض، بغض النظر أكان حقيقة هذا الجسم كالأجسام أم لا، لاسيما وإن كان كالأجسام فإنه بطريق الأولى أن يكون تجسيما محضا وكفرا محققا.

الثاني:

ما يلزم من قوله التجسيم “لزوما بينا” كالجلوس أي القعود على العرش بالمماسة،وأن يكون بقدر العرش أو أصغر منه، ومن يثبت النزول الحسي من مكان إلى آخر، والمجيئ بالحركة،وإثبات والوجه الحادث بل وقيام الحوادث في ذات الباري سبحانه وتعالى من يد وساق واعين وغير ذلك. لأن الأصل عند المجسمة الأخذ بظاهر الآيات المتشابهة بمعنى أنه لا يتصف بهذه الصفات إلا من كان جسما، فمن لم يثبت الجسمية لله بهذا المعنى لا يصح منه إثبات الصفات الواردة في القرآن فهو في حكم المعطل لها. فهؤلاء لا يطلقون على الله اسم “الجسم” لأنه لم يرد في الشرع إطلاقه ولكنهم لا ينفونه مطلقا لأن في إثباته أي (الجسم) إثبات للصفات.

والمتتبع لكتب العلماء يجد إجماعا مطبقا على تكفير الصنفين المذكورين، جمعها بعضهم فأوصلها إلى نحو عشرين (نقلا) لعلماء أهل السنة من كافة المذاهب.

الثالث: من أطلق على الله الجسيمة ولم يرد حقيقتها كقول بعض الكرامية عن الله (جسم) أي الثابت الوجود، ومن ههنا قاس العلماء مطلق الجسمية على قاعدة (لازم المذهب) وأن لازم المذهب ليس بمذهب إلا إن التزمه صاحبه،فالذي يلزم عن “الجسم “هو التركيب والتأليف فالأبعاد الثلاث- الطول والعرض والعمق، ولكن قد لا يلتزم القائل هذا اللازم، كما أن بعض الكرامية لم يلتزمه، ثم من ههنا نتج مصطلح (المجسم المصرح وغير المصرح) فقيد العلماء (الكفر) بمن قال عن الله جسم (مركب) أو جسم (متحيز) أو جسم كالأجسام فهذا الذي لا شك في كفره لأنه صرح بلازم التجسيم، بخلاف ما لو قال جسم لا كالأجسام

،فبعضهم كفر، وبعضهم لم يكفر لأن ليس فيه التصريح بلوازم التجسيم، وأقر إبن الهمام الحنفي بأن التكفير في حقه أولى إن أطلق اسم الجسم مع نفي التشبيه فإنه يكفر لاختياره إطلاق ما هو موهم للنقص بعد

(علمه بذلك) ولو نفى التشبيه فلم يبق منه إلا التساهل والاستخفاف.

وأيضا من قال بالجهة،حيث قالوا قد لا يلتزم لوازم الجهة التي هي الحد والحصر والتحيز كبعض (الحنابلة) ذكر هذا صاحب أقاويل الثقات الإمام -مرعي بن يوسف الكرمي- المقدسي الحنبلي والإمام- العز بن عبدالسلام- في قواعد الأحكام في مصالح الأنام.

ونحن الآن لسنا في صدد بيان الخلاف الموجود وإنما في مقام نقاش مسألة أدت إلى تكفير فئة تنتسب الى الأشاعرة.

يقول الطرف الأول وهو الطرف المكفر:

? قد قام إجماع الأمة على تكفير المجسم وقيام الإجماع يدل على أن (التجسيم) ليس من دين الله في شيئ،فإن كان الأمر كذلك فقد قام الإجماع على كفر من شك أو توقف في تكفير من دان بغير الإسلام، فلزم أن من توقف في تكفير المجسم فقد توقف في تكفير من دان بغير الإسلام، فعندئذ يكون كافرا لا محالة. ?

فما كان من الطرف الآخر إلا أن رد قائلا:? قد نسلم لكم في تكفير المجسم ولكننا أيضا نقول: تكفير المجسم انما هو حاصل باجتهاد بعض الفقهاء،فهو أمر ظني لا قطعي فلا يلزمنا من التوقف في تكفيره الكفر أصلا، والإجماع الذي تنقلونه لنا رده بعض العلماء بشبه ابطلت دعوى هذا الإجماع، كالفخر الرازي في نهاية العقول وتأسيس التقديس?.

قلت:

فإذا يجب على الطرف الأولى لصحة إدعاء الإجماع إبطال تلك الشبهات وعندئذ يمكنهم إلزام خصمهم بهذا (الإجماع)،ويأتي بعد ذلك الجزم والقطع بكفر المجسم، وعندها نقول: من توقف في كفره أي (المجسم) كان كمن توقف في كفر اليهود والنصارى المجوس وكذا كل معتقد ليس من دين الإسلام.

ولذلك سوف نبدأ نقاشنا إنطلاقا من عرض بعض شبهات الفريق الثاني وما قيل في الرد عليها.

نبدأ بالشبهة الأولى:

قول الإمام الرازي في نهاية العقول صحيفة -297 – وأما الذي ذكروه في تكفير المشبهة، فالذي قالوه أولا من أنهم جهال بالله فهو ضعيف لما مر أن الجهل بالله تعالى لا يقتضي الكفر على الإطلاق. انتهى

فقيل: قد نسلم لذلك على وجه الإجمال فليس كل جهل به (تعالى) يقتضي الكفر على الإطلاق،فمثلا نحن لا نقول فيمن جهل من الناس اتصاف الباري عز وجل بصفة اليد مثلا أو الوجه أو الاستواء أو النزول، بالكفر مطلقا، لأن هذه الصفات من قبيل السمعيات لا يدركها الإنسان بإعمال مجرد العقل، فهذا النوع من الجهل مع كونه يعد من (الجهل بالله) إلا أنه لا يوصل صاحبه إلى الكفر، و لكن المجسم لم يجهل شيئا يتعلق بذات (الله) بل هو جاهل بحقيقة الذات المقدس سبحانه، بمعنى أنه عابد لغير (الله).فظهر الفرق

ثم في الصحيفة ذاتها يقول:

قوله عابد الصنم، إنما كفر لأنه عبد غير الله والمشبه عبد غير الله فيكون كافرا، قلنا: إذا كان الإله عند أبي هشام هو المختص بحالة توجب الأحوال الأربع فالجبائي والكعبي لما أنكرا هذه الخاصية فقد كانا يعبدان غير الإله الذي كان يعبده أبو هشام فيلزم المعتزلة تكفير أحد الفريقين،وكذلك على قول شيخنا أبي الحسن لما كان الإله موصوفا بالبقاء وغير موصوف بالاحوال والقاضي يعتقد أن الله غير موصوف بالبقاء موصوف بالاحوال فيلزم أن يكون الإله الذي يعبده الأشعري غير الذي يعبده القاضي فيلزم تكفير أحدهما، فلما لم يكن كذلك فكذلك هنا. انتهى

قلت:

والعجيب كيف لهم أن يستدلوا بهذا على ترك تكفير “المجسم” مع أن الإمام الفخر

-رضي الله تعالى عنه -خالف هذا الكلام و رده ردا قاطعا لا لبس فيه ونفاه جملة وتفصيلا في مواضع منها- التفسير الكبير، عند قوله تعالى

– (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) – حيث قال: فالصفة الأولى:

أنهم لا يؤمنون بالله، واعلم أن القوم يقولون: نحن نؤمن بالله، إلا أن التحقيق أن أكثر اليهود مشبهة، والمشبه يزعم أن لا موجود إلا الجسم وما يحل فيه، فأما الموجود الذي لا يكون جسما ولا حالا فيه فهو منكر له، وما ثبت بالدلائل أن الإله موجود ليس بجسم ولا حالا في جسم، فحينئذ يكون المشبه منكرا لوجود الإله، فثبت أن اليهود منكرون لوجود الإله).

ثم رضي الله عنه- طرح سؤالا فقال:

(فإن قيل: حاصل الكلام: أن كل من نازع في صفة من صفات الله، كان منكرا لوجود الله تعالى، وحينئذ يلزم أن تقولوا: إن أكثر المتكلمين منكرون لوجود الله تعالى؛ لأن أكثرهم مختلفون في صفات الله تعالى

ألا ترى أن أهل السنة اختلفوا اختلافا شديدا في هذا الباب، فالأشعري أثبت البقاء صفة، والقاضي أنكره وعبد الله بن سعيد أثبت القدم صفة، والباقون أنكروه، والقاضي أثبت إدراك الطعوم، وإدراك الروائح، وإدراك الحرارة والبرودة، وهي التي تسمى في حق البشر بإدراك الشم والذوق واللمس، والأستاذ أبو إسحاق أنكره، وأثبت القاضي للصفات السبع أحوالا سبعة معللة بتلك الصفات، ونفاة الأحوال أنكروه).إلى آخر ما ذكره من الأمثلة ثم قال:

(فثبت بهذا حصول الاختلاف بين أصحابنا في صفات الله تعالى من هذه الوجوه الكثيرة، وأما اختلافات المعتزلة، وسائر الفرق في صفات الله تعالى، فأكثر من أن يمكن ذكره في موضع واحد.

إذا ثبت هذا فنقول: إما أن يكون الاختلاف في الصفات موجبا إنكار الذات أو لا يوجب ذلك؟ فإن أوجبه لزم في أكثر فرق المسلمين أن يقال: إنهم أنكروا الإله، وإن لم يوجب ذلك لم يلزم من ذهاب بعض اليهود، وذهاب النصارى إلى الحلول والاتحاد كونهم منكرين للإيمان بالله، وأيضا فمذهب النصارى أن أقنوم الكلمة حل في عيسى، وحشوية المسلمين يقولون: إن من قرأ كلام الله فالذي يقرؤه هو عين كلام تعالى، وكلام الله تعالى مع أنه صفة الله يدخل في لسان هذا القارئ، وفي لسان جميع القراء، وإذا كتب كلام الله في جسم فقد حل كلام الله تعالى في ذلك الجسم، فالنصارى إنما أثبتوا الحلول والاتحاد في حق عيسى، وأما هؤلاء الحمقى فأثبتوا كلمة الله في كل إنسان قرأ القرآن، وفي كل جسم كتب فيه القرآن، فإن صح في حق النصارى أنهم لا يؤمنون بالله بهذا السبب، وجب أن يصح في حق هؤلاء الحروفية والحلولية أنهم لا يؤمنون بالله، فهذا تقرير هذا السؤال.

والجواب: أن الدليل دل على أن من قال: إن الإله جسم فهو منكر للإله تعالى، وذلك لأن إله العالم موجود ليس بجسم ولا حال في الجسم، فإذا أنكر المجسم هذا الموجود فقد أنكر ذات الإله تعالى، ?فالخلاف بين المجسم والموحد ليس في الصفة، بل في الذاتفصح في المجسم أنه لا يؤمن بالله، أما المسائل التي حكيتموها فهي اختلافات في الصفة، فظهر الفرق، وأما إلزام مذهب الحلولية والحروفية، فنحن نكفرهم قطعا، فإنه تعالى كفر النصارى بسبب أنهم اعتقدوا حلول كلمة الله في عيسى، وهؤلاء اعتقدوا حلول كلمة الله في ألسنة جميع من قرأ القرآن، وفي جميع الأجسام التي كتب فيها القرآن، فإذا كان القول بالحلول في حق الذات الواحدة يوجب التكفير، فلأن يكون القول بالحلول في حق جميع الأشخاص والأجسام موجبا للقول بالتكفير كان أولى).

فانظر رحمك الله كيف قال -:

إذا ثبت هذا فنقول: إما أن يكون الاختلاف في الصفات موجبا إنكار الذات أو لا يوجب ذلك؟

فإن أوجبه؟؟؟  لزم في أكثر فرق المسلمين أن يقال: إنهم (أنكروا الإله)، وإن لم يوجب ذلك (لم يلزم من ذهاب بعض اليهود)

(وذهاب النصارى إلى الحلول والاتحاد كونهم منكرين للإيمان بالله)!!!!. فتأمل.

ثم إن اختلاف الأئمة على صفة (البقاء) إنما هو اختلاف حول قضية (فهم الصفة) بين نفيها واثبتها، ليس اختلافا في لوازمها بمعنى أن كلن من الإمام الاشعري والباقلاني متفقان على بقاء الله تعالى، وليس في نفي صفة (البقاء) نفي للازمها،فليس فيهم من يقول بفناء الله عز وجل،كما في شرح الفقه الأكبر للإمام ملا علي القاري:

واختلف في البقاء أنه من الصفات الثبوتية، أو من النعوت السلبية فبنى على الأول بعضهم وجمعها في بيت فقال:

حياة وعلم قدرة وإرادة

كلام وأبصار وسمع مع البقاء

والأظهر أنه من النعوت السلبية، فإن المراد به نفي العدم السابق والفناء اللاحق بناء على ما ثبت قدمه واستحال عدمه. انتهى

وأما خلاف أهل السنة والجماعة مع المجسمة في قضية (الجسم) فهو خلاف في لازم الجسم وليس في مجرد إطلاق اسم الجسم عليه سبحانه فظهر الفرق، وقد ذكرنا آنفا أن أهل السنة لا يكفرون باللازم.

الشبهة الثانية:

وفي صحيفة -298 – يقول: ثم نقول عابد الصنم إنما كفر لأنه عبد غير الله مع اعترافه بأنه عبد غير الله فهو إنما كفر لذلك، وأما المشبه فإن عبد غير الله تعالى مع ظنه أنه عبد الله تعالى فلا جرم لا يجب أن يكفر. انتهى

قلت: هذا نص واضح منه-رضي الله عنه- في أن المجسم يعبد غير الله، فإن كان كذلك فقد نقل الإمام الرازي رضي الله عنه إجماع الأنبياء والرسل على تكفير من عبد غير الله وإن ظن أنه الله،حيث قال في تفسيره الكبير صحيفة 223:

أجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله تعالى كفر، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلها للعالم، أو اعتقدوا فيه أن عبادته تقربهم إلى الله تعالى. انتهى

وهذا نص واضح لا يحتمل الشك في رد هذه الشبهة.

الشبهة الثالثة:

ثم في ذات الصحيفة يقول: قوله:إن الله تعالى قال: ?لقد? كفر ?لذين قالو?ا? إن ?لله هو ?ل?مسيح ?ب?ن مر?يم?? الله تعالى كفرهم بجعلهم الإله ما هو غيره.قلنا:هذا يقتضي من كل فرقة أن يكفروا اصحابهم …. إلخ.

قلت: أعاد الشبهة السابقة وقد رددنا عليها.

وفي صحيفة -299 – قال: ثم نقول لما لا يجوز أن يقال إنهم إنما كفروا لاعتقادهم في واحد من الناس كونه إلها مع أن ذلك الإنسان ليس له صفة مميزة في صورته وشكله عن سائر الناس؟؟ وأما المجسمة فإنهم لا يعتقدون ذلك بل يقولون إنه تعالى جسم لا كسائر الأجسام فظهر الفرق .. انتهى

قلت: ويكفينا في رد هذه الشبهة الإجماع الذي أورده الإمام الرازي المذكور آنفا، ولكنا نقول: قوله: (إنما كفروا لاعتقادهم في واحد من الناس كونه إلها مع أن ذلك الإنسان ليس له صفة مميزة في صورته وشكله عن سائر الناس) يقضي بأن علة تكفير النصارى إنما هي بجعلهم الخالق من جنس المخلوق، فكما جاز عندهم أن يكون بشرا من جنسهم خالقا، جاز في حق غيره من البشر أن يكون خالقا.

فالحجة التي قامت عليهم إنما هي: أن العقل لا يقبل أن ” عيسى عليه السلام” الذي ليس له صفة مميزة في صورته وشكله عن سائر ابناء جنسه يكون خالقا لجنسه.

وبناء على هذه القاعدة فلا يلزمنا اذا تكفير عباد الشمس لأن الشمس بالنسبة لهم ليست من جنس المخلوقات، فلا تقام عليهم الحجة وفقا لما ذكره، ومن هذا المقام نعرض كلام الإمام الرازي في رده على محمد بن إسحاق بن خزيمة، حيث قال:

فلم لا يجوز أن يقال: إله العالم هو الشمس أو القمر أو الفلك أو العرش أو الكرسي، ويكون ذلك الجسم مخالفا لماهية سائر الأجسام، فكان هو قديما أزليا واجب الوجود، وسائر الأجسام محدثة مخلوقة، ولو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يسقطوا هذا الإلزام عن المجسمة لا يقدرون عليه؟ فإن قالوا: هذا باطل؛ لأن القرآن دل على أن الشمس والقمر والأفلاك كلها محدثة مخلوقة، فيقال: هذا من باب الحماقة المفرطة؛ لأن صحة القرآن وصحة نبوة الأنبياء مفرعة على معرفة الإله، فإثبات معرفة الإله بالقرآن وقول النبي لا يقوله عاقل يفهم ما يتكلم به. انتهى

الشبهة الرابعة:

ثم قال في الصحيفة ذاتها:

قوله المجسم مشبه والمشبه كافر

فإن عنيتم بالمشبه من يقول بكون الله شبيها بخلقه من بعض الوجوه فهذا لا يقتضي الكفر لأن المسلمين اتفقوا على أنه تعالى موجود وشيئ وعالم وقادر والحيوانات أيضا كذلك وذلك لا يوجب الكفر، وإن عنيتم بالمشبه من يكون قائلا بكون الله تعالى شبيها بخلقه من كل الوجوه، فلا شك في كفره ولكن المجسمة لا يقولون بذلك، ولا يلزم من قولهم بالتجسيم قولهم بذلك ألا ترى أن الشمس والقمر والنمل والبق أجسام ولا يلزم من اعترافنا بإشتراكها بالجسمية كوننا مشبهين للشمس والقمر بالنمل والبق. انتهى

قلت: وههنا تنبيه فقوله:

(المجسم مشبه والمشبه كافر)

فإنا نقول: الكفر هنا إنما هو تكذيبه

-ليس كمثله شيء – فإن لم يكن للآية الكريمة معنى النفي الكلي لجميع وجوه التشبيه فعندئذ لا يلزم من التشبيه التكذيب كما أشار بقوله: (فإن عنيتم بالمشبه من يقول بكون الله شبيها بخلقه من بعض الوجوه فهذا لا يقتضي الكفر)

وقوله (ألا ترى أن الشمس والقمر والنمل والبق أجسام ولا يلزم من اعترافنا بإشتراكها بالجسمية كوننا مشبهين للشمس والقمر بالنمل والبق)

ولكن الإمام الرازي رضي الله عنه في التفسير الكبير يقول:

قال تعالى: ?ليس كمثله شيء وهو السميع البصير? وهذه الآية فيها مسائل:

المسألة الأولى: احتج علماء التوحيد قديما وحديثا بهذه الآية في نفي كونه تعالى جسما مركبا من الأعضاء والأجزاء وحاصلا في المكان والجهة، وقالوا: لو كان جسما لكان مثلا لسائر الأجسام، فيلزم حصول الأمثال والأشباه له، وذلك باطل بصريح قوله تعالى: ?ليس كمثله شيء? ويمكن إيراد هذه الحجة على وجه آخر، فيقال: إما أن يكون المراد ?ليس كمثله شيء? في ماهيات الذات، أو أن يكون المراد ليس كمثله في الصفات شيء، والثاني باطل؛ لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين، كما أن الله تعالى يوصف بذلك، وكذلك يوصفون بكونهم معلومين مذكورين، مع أن الله تعالى يوصف بذلك، فثبت أن المراد بالمماثلة المساواة في حقيقة الذات، فيكون المعنى أن شيئا من الذوات لا يساوي الله تعالى في الذاتية، فلو كان الله تعالى جسما، لكان كونه جسما ذاتا لا صفة، فإذا كان سائر الأجسام مساوية له في الجسمية، أعني في كونها متحيزة طويلة عريضة عميقة، فحينئذ تكون سائر الأجسام مماثلة لذات الله تعالى في كونه ذاتا، والنص ينفي ذلك، فوجب أن لا يكون جسما. انتهى.

فإن ثبت من خلال الآية، تنزيه الله من كل الوجوه،كان المشبه له من بعض الوجوه مكذبا للآية.

الشبهة الخامسة: في كتاب تأسيس التقديس

قال:?الفصل الثالث في أن من يثبت كونه تعالى جسما متحيزا مختصا بجهة معينة هل يحكم بكفره أم لا للعلماء فيه قولان.

قال:

القول الثاني:أنا لا نكفرهم لأن معرفة التنزية لو كانت شرطا لصحة الإيمان لوجب على الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يحكم بإيمان أحد إلا بعد أن يتفحص: أن ذلك الإنسان هل عرف الله بصفات التنزيه، أو لا؟ وحيث حكم بإيمان الخلق من غير هذا التمحيص، علمنا أن ذلك ليس شرطا?.انتهى

قلت: وههنا تنبيه آخر، فقوله:

(لأن معرفة التنزية لو كانت شرطا لصحة الإيمان .. إلخ). عجيب بل هو منكر من القول، فشرع الله بين في هذه المسألة وهو أن التنزيه و التوحيد، متلازمان، لا يمكن أن تكون موحدا إلا إذا كنت منزها، فالتوحيد لا يقوم إلا على أساس التنزيه، تنزيه الله في:

– ذاته- وصفاته -وأفعاله- وقد جمع الله في القرآن الكريم بين التوحيد والتنزيه في آيات كثيرة، منها قوله تعالى:

(فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين).

بل حل التنزيه في بعض الآيات محل التوحيد نفيا للشرك بالله كما في قوله تعالى:

(سبحان الله عما يشركون).وقوله تعالى:

(أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون)

وقد ذكر بدر الدين العيني في كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري تعريف

التوحيد عند أهل الإسلام فقال: الأصل مصدر وحد يوحد، ومعنى: وحدت الله: اعتقدته منفردا بذاته وصفاته لا نظير له ولا شبيه، وقيل: التوحيد إثبات ذات غير مشبهة بالذوات ولا معطلة عن الصفات.انتهى

وعلى هذا التعريف مشى جميع أهل السنة والجماعة حيث كان الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني رحمه الله يقول: جميع ما قاله المتكلمون في التوحيد قد جمعه أهل الحق في كلمتين: الأولى اعتقاد أن كل ما تصور في الأوهام فالله بخلافه، والثانية اعتقاد أن ذاته تعالى ليست مشبهة للذوات ولا معطلة عن الصفات. واثبتها له الشعراني في كتابه

(اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر).

معناه: من جعل الإله جسما متحيزا مختصا بجهة معينة كالأجسام فقد جعل له شركاء في الذات والعياذ بالله تعالى. مما يعني أن التجسيم يعد من الاشراك الذي ينافي التوحيد

وممن قال بهذا الفخر الرازي نفسه حيث قال في تفسير سورة الإخلاص فنقول إن قوله تعالى “أحد” يدل على نفي الجسمية ونفي الحيز والجهة أما دلالته على أنه تعالى ليس بجسم فذلك لأن الجسم أقله أن يكون مركبا من جوهرين وذلك ينافي الوحدة، وقوله أحد مبالغة في الواحدية فكان قوله أحد منافيا للجسمية. وقال فيما نصه: قوله تعالى:

?قل هو الله أحد?فوصفه بكونه أحدا، والأحد مبالغة في كونه واحدا. والذي يمتلئ منه العرش ويفضل عن العرش يكون مركبا من أجزاء كثيرة جدا فوق أجزاء العرش، وذلك ينافي كونه أحدا. انتهى

فانظر رحمك الله كيف جعل في التنزيه المبالغة في الواحدية لكونه أي- التنزيه – منافيا للجسمية وأن القول بالجسمية والحد والجهة ينافي الوحدة في حق الله.

وممن صرح بهذا أيضا – الفقيه المالكي -محمد بن أحمد ميارة رحمه الله حين تكلم عن أوجه الوحدانية،فقال رحمه الله في

(الدر الثمين والمورد المعين):

أوجه الوحدانية ثلاثة: وحدانية الذات، ووحدانية الصفات، ووحدانية الأفعال، فوحدانية الذات (تنفي التركيب في ذاته تعالى ووجود ذات أخرى تماثل الذات العلية) فتنفي التعدد في حقيقتها متصلا كان أو منفصلا ووحدانية الصفات تنفي التعدد في حقيقة كل واحد منها متصلا كان أو منفصلا .. إلخ

والمتتبع لكتب الإمام الرازي يجد أن الكلام المنسوب له في تأسيس التقديس كان هو المعتمد عنده، ففي كتاب نهاية العقول صحيفة -280 – قال:?والذي نختاره: ألا نكفر أحدا من أهل القبلة والدليل عليه أن نقول: المسائل التي اختلفت أهل القبلة فيها، مثل أن الله تعالى عالم بعلم أو لذاته،وأنه تعالى هل هو موجد لأفعال العباد أم لا؟، وأنه هل هو متحيز، وهل هو في مكان وجهة، وهل هو مرئي أم لا. لا يخلو إما أن تتوقف صحة الدين على معرفة الحق فيها أو لا تتوقف والأول باطل، إذ لو كانت معرفة هذه الأصول من الدين لكان من الواجب على النبي عليه السلام أن يطالبهم بهذه المسائل، ويبحث عن كيفية اعتقادهم فيها،فلما لم يطالبهم بهذه الأشياء، بل ما جرى شيئ من هذه المسائل في زمانه عليه السلام ولا في زمن الصحابة والتابعين، علمنا أنه لا تتوقف صحة الإسلام على معرفة هذه الأصول، وإذا كان كذلك لم يكن الخطأ في هذه المسائل قادحا في حقيقة الإسلام، وذلك يقتضي الامتناع من تكفير أهل القبلة?.

قلت: ولكن سرعان ما أبطل هذه القاعدة، وذلك بأن عدم مباحثته -صلى الله عليه وسلم – معهم في بعض المسائل لا يدل على عدم توقف صحة الدين على معرفتها وفرق بين ما تقام عليه الحجج العقلية وبين غيره،ففي صحيفة 290 طرح سؤالا فقال:? إن سلمنا أنه عليه السلام ما كان يباحث معهم في هذه المسائل! ولكن عدم مباحثته معهم فيها لا يدل على عدم توقف صحة الدين على معرفتها.

ألا ترى أنه لم ينقل عنه عليه السلام أنه كان يباحثهم في حدوث العالم وإثبات القدر وكونه عالما بكل المعلومات ودلالة المعجز على الصدق مع ان الإسلام لا يصح إلا بهذه الأصول إلا لما يقال: إنهم كانوا عالمين بهذه الأصول على طريق الجملة فكان عليه السلام مستغنيا عن المباحثة معهم فيها فإذا جاز ذلك في تلك المسائل فلم لا يجوز أن يكون الأمر كذلك في هذه المسائل.

قلنا: الفرق بين الأمرين أن أدلة هذه على ما يتعلق بأصحاب الجهل ظاهرة فإن من دخل بستانا ورأى به الأزهار حادثة بعد أن لم تكن ثم رأى عنقود عنب اسودت جميع حباته إلا حبة واحدة مع أن نسبة الماء والهواء وحر الشمس إلى جميع حبات ذلك العنقود واحدة، فإنه يضطر إلى العلم بأنه محدثه فاعل مختار?.

قلت: وهناك معتقدات أخرى أجمعت الأمة على تكفير معتقدها، منها اعتقاد الحلول،

فلا يقال: لو كان تنزيه الله عن اعتقاد الحلول شرطا للإيمان لوجب على الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يحكم بإيمان أحد إلا بعد أن يتفحص: أن ذلك الإنسان هل عرف الله بتنزيهه عن الحلول أم لا.؟ وهذا ينطبق على كل معتقد أجمعت الأمة على تكفيره ولم يكن في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في زمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وبقي أن نقول:

إن كان قيام البراهين العقلي على فساد معتقد أزلية العالم وحلول كلمة الله في الأجسام ومعتقد حلول الله في الأشياء كاف للقطع بحكم (التكفير)، فبأن تكون في حق المجسم أولى حيث أخذنا فساد اعتقاده (الجسم في حق الله) من فساد عبادة الشمس والكواكب!!!!! قال الرازي رحمه الله تعالى:

أنا إنما زيفنا إلهية الشمس والقمر لثلاثة أنواع من العيوب:

أولها: كونه مؤلفا من الأجزاء والأبعاض.

وثانيها: كونه محدودا متناهيا.

وثالثها: كونه موصوفا بالحركة والسكون والطلوع والغروب، فإذا كان إله المشبهة مؤلفا من الأعضاء والأجزاء كان مركبا، فإذا كان على العرش كان محدودا متناهيا، وإن كان ينزل من العرش ويرجع إليه كان موصوفا بالحركة والسكون، فهذه الصفات الثلاثة إن كانت منافية للإلهية وجب تنزيه الإله عنها بأسرها، وذلك يبطل قول المشبهة، وإن لم تكن منافية للإلهية فحينئذ لا يقدر أحد على الطعن في إلهية الشمس والقمر. انتهى.

معنى ذلك أن عابد الجسم وعابد الشمس في (الكفر) واحد، للعلة التي تجمعهما في الحكم.

قال الفخر الرازي في كتابه الخمسون في أصول الدين:

الحجة الرابعة: هو أن الحكم على الشمس والقمر بكونهما لا يصلحان للإلهية لكونهما جسما، فلو جاز كون الإله جسما لما بقي دليل على امتناع إلهية الشمس والقمر، وهذا اعتقاده عين ((الكفر والإلحاد)). انتهى

قال الغزالي: فإن القائل بأن الله سبحانه جسم وعابد الوثن و الشمس واحد. إنتهى

……..

فهذا حاصل أو أغلب ما قيل في هذا الباب

فاختر لنفسك ما ينجيك من نار الحريق

والله تعالى أعلم وأحكم. .

السابق
سلسلة ابن تيمية حَكَما على الأمة ودِينها، بسلفها وخلفها، الإمام أبو عمرو الداني نموذجا
التالي
ابن تيمية وأتباعه وموقفهم من مذهب التفويض في الصفات