بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن من رحمة الله تعالى بهذه الأمة أن سخّر لها علماء عظامًا، وجعلهم أئمة يُقتدى بهم وأعلامًا، فاعتصموا بمذهب أهل السنة اعتصامًا، وقاموا على ثغر الجهاد بالبيان والبرهان إيضاحًا وإفهامًا، وإلزامًا لمن عاند الحق وإفحامًا، فألقموا الحجة للمتفلسفة وأذيالهم إلقامًا، وأقدموا بقواطع البراهين على أهل الاعتزال بعدما حادوا عن سنن الاعتدال فألجموهم إلجامًا، وأبطلوا تمويهات المجسمة الذين أثبتوا لله تعالى تحيزًا في الجهة وحدًّا وانقسامًا.
وتحمّل هؤلاء السادة الأفاضل ممن عاداهم في كل زمان متاعب وآلامًا، وصبروا على كل غاوٍ يثلبهم، ويحمل عليهم، وأهل الحق إذا مروا باللغو مَرُّوا كرامًا، وإذا خاطبهم الجاهلون منهم قالوا سلامًا، فأصبحوا على أعدائهم ظاهرين، ولمن ناوأهم من أصحاب الأهواء بالحجة قاهرين، حتى انتظم شمل أهل السنة بهم انتظامًا.
ثم أما بعد، فهذا بحث في رأي القاضي أبي يعلى الفراء الحنبلي في مسألة الحد والجهة وما تعلق بهما، أقسمه كما سترى أيها القارئ الكريم إلى مطالب:
[المطلب الأول: بيان الدعوى التي هي موجب الحكم بالتجسيم على القاضي أبي يعلى]
سألني عددٌ من الإخوة عمّا قرّره بعض علماء الحنابلة من استقرار أمر القاضي أبي يعلى على إثبات الحدّ والجهة بعد نفيهما، تلك الدعوى التي أوردها فضيلة الشيخ سعيد فودة في بعض كتبه ومحاضراته، حيث ذكر أنّ القاضي أبا يعلى الحنبلي تراجع في أواخر كتابه «إبطال التأويلات» عن نفي «الحد والجهة» وقال بإثباتهما لله تعالى، فقوله الثاني هو إثبات الجهة والحد، وهي نفس الدعوى التي ادّعاها ابن تيمية الحنبلي في مواضع كثيرة، وادعاها غيره من علماء الحنابلة أيضًا كما سيأتي.
وللشيخ سعيد تسجيل مرئي قبل تسع سنوات، مدته ساعتان وربع، نقل فيه نقولًا تفصيلية عن إبطال التأويلات، وبقي يسرد من كلام أبي يعلى في نفي الحد والجهة والأجزاء والجوارح وحلول الحوادث ساعةً وربع ساعة، وعلّق على نصوص القاضي وبيّن ما فيها من تنزيهات ومخالفة لأقوال المجسمة، وأكّد نفي القاضي لكل أمر من تلك الأمور بقراءة مجموعة من النصوص الصريحة، ونَقَل عددًا ليس بالقليل من نصوص القاضي في تنزيه الله تعالى عن الحدّ والجهة على وجه الخصوص، ووضّح جهة دلالتها على التنزيه، كما ذكر كتاب «المعتمد» للقاضي أبي يعلى وأنّ طريقته فيه قريبة جدًا من طريقة الأشاعرة.
أفيقال بعد كل هذا التفصيل الطويل:
لماذا لم يلفت الشيخ سعيد الأنظار إلى نصوص أبي يعلى في التنزيه؟!
سبحانك هذا بهتان عظيم.
ولذا أحببتُ أن أبيّن لهؤلاء الإخوة حقيقة هذه الدعوى وأدلتها، وأنّ محل الدعوى هو تصريح أبي يعلى بإثبات الحدّ والجهة الحسية لله تعالى بعد نفيهما، وليس محلها هو عقيدة الإمام أحمد -رضي الله عنه- ولا السادة الحنابلة، ولا مفهوم الظاهر عند أبي يعلى أو طريقته العجيبة في إثبات الصفات وتفويضها، أو غيرها من الأمور التي نقدها بعض أبناء مذهبه وغيرهم.
كما أن محل الدعوى ليس هو وجود نصوص صريحة في التنزيه في كتب القاضي أبي يعلى، في المعتمد ومختصره وغيرهما، ولا حتى في كتابه «إبطال التأويلات».
فإذا تحرر محل الدعوى، وانحصر في إثبات أبي يعلى للحد والجهة بعد نفيهما، وأنّ هذا هو موجب الحكم بالتجسيم على الرجل، دون سائر المؤاخذات المشهورة على كتابه التي قد لا تستلزم وقوعه في التجسيم، ظهر للمنصف صدق دعوى الشيخ سعيد على أبي يعلى وانتهى الأمر عند ذلك.
[المطلب الثاني: تعلّق ابن تيمية بنص أبي يعلى في إثبات الحدّ والجهة]
صنّف الشيخ سعيد فودة كتاب «الكاشف الصغير عن عقائد ابن تيمية» قبل أكثر من عشرين عامًا، وكان غرضه الكشف والبيان عن عقائد ابن تيمية من نصوصه وأقواله، ولما كان ابن تيمية يستظهر ببعض أقوال المتقدّمين ويحررها وينقدها أحيانًا، ويبذل جهده في استثمارها لإثبات مطلوبه، كان من اللازم التعريج على هذه الأقوال وسبرها، وبيان مدى دلالتها على مطلوبه ومراده.
وممن نقل عنهم ابنُ تيمية القاضي أبو يعلى الفراء، وكان نقله عنه متعلقًا بمسألة خطيرة من خواص مذهب المجسمة، وهي إثبات الحد لذات الله تبارك وتعالى وإثبات كونه في جهة، حيث قرّر ابن تيمية أنّ أبا يعلى كان ينفي الحد والجهة عن الله تعالى، ثم رجع إلى إثباتهما في كتابه «إبطال التأويلات»، فأراد ابن تيمية أن يعلن عن موقف أبي يعلى الأخير في إثبات الحد لله تعالى، ليشدّ من أزر عقيدته ويستكثر من الأنصار المشاركين له في المذهب.
قال الشيخ سعيد في الكاشف الصغير (ص221):
«..ولكننا سنبين أن درجة تجسيم أبي يعلى أقل بدرجات من تجسيم ابن تيمية.
قال ابن تيمية في التأسيس [2/171]: (وكان القاضي أبو يعلى ينكر الحد ثم رجع إلى الإقرار به، وكذلك لفظ الجهة) اهـ.
أقول: فبهذا الرجوع إلى إثبات الحد لله تعالى، يكون القاضي قد رجع في حكم ابن تيمية إلى عقيدة السلف، فتأمل.
ثم يحق لنا التعجب من هذا المنهج الذي يتبعه القاضي أبو يعلى ويسمح له مرة بإثبات الحد ومرة بنفيه، وفي كل مرة يدعي بكل جرأة أن هذا هو عقيدة السلف!
قال ابن تيمية موضحاً مذهب القاضي أبي يعلى: (قال في كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات، في كلامه على حديث العباس بن عبد المطلب والاستواء على العرش:
فإذا ثبت أنه على العرش، فالعرش في جهة، وهو على عرشه، وقد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه، والصواب جواز القول بذلك، لأن أحمد قد أثبت هذه الصفة التي هي الاستواء على العرش، وأثبت أنه في السماء، وكل مَنْ أثبت هذا أثبت الجهة، وهم أصحاب ابن كرام وابن منده الأصبهاني المحدث) اهـ». اهـ من الكاشف الصغير.
فيظهر من هذا النقل عن «الكاشف الصغير» أنّ ابن تيمية نصّ على تراجع أبي يعلى -ابن مذهبه- عن نفي الحد والجهة، وأنّ موضع هذا التراجع هو كتاب «إبطال التأويلات»، فهذه الدعوى هي دعوى حنبلية خالصة، أبرزَها ابنُ تيمية وشرحها ووضحها قبل قرون، كما قررها غيره من الحنابلة.
وبيّن الشيخ سعيد أن أبا يعلى أقل تجسيمًا من ابن تيمية بدرجات، وتكلّم على ذلك بالتفصيل في الكاشف.
كما يظهر أنّ بحث قول أبي يعلى جاء تبعًا لاعتماد ابن تيمية له وتأكيده عليه، قال في «الكاشف الصغير» (ص242):
«وقد يقول قائل: فنحن لا نريد الكلام على معتقد القاضي أبي يعلى، بل المراد هو بيان عقيدة ابن تيمية، فما علاقة ما مضى بعقيدة ابن تيمية؟
نقول له: لا تستعجل، فإننا قد ذكرنا مذهب القاضي أبي يعلى تمهيداً فقط لبيان مذهب ابن تيمية، وذلك لما بينهما من نقاط التقاء.
ولكي تتأكد أيها القارئ من صحة كلامنا هذا، فتعال نكمل معاً قراءة تعليق ابن تيمية على كلام القاضي أبي يعلى المار ذكره، والذي علقنا نحن عليه فيما مضى…».اهـ من الكاشف.
ولما طُبعت الطبعة الأولى من كتاب «إبطال التأويلات»، خصص الشيخ سعيد درسًا لقراءة مواضع كثيرة من تنزيه أبي يعلى في هذا الكتاب، ونقل نصوصًا كثيرة لأبي يعلى في تنزيه الله تعالى عن الحد والجهة والجوارح والأبعاض ونحو ذلك، ثم نقل ما قرره ابن تيمية من تراجع أبي يعلى عن نفي الحد والجهة، وأنّ ابن تيمية نصّ على أن هذا هو القول الأخير لأبي يعلى، واعتبره قولًا ثانيًا للقاضي، وصّرح بأن القاضي ذكر القولين جميعًا في نفس الكتاب.
وحتى ذلك الحين لم يكن كتاب «إبطال التأويلات» قد طبع كاملًا، فلم يمكن الاطلاع على النص الذي نقله عنه ابن تيمية، ونقله غيره من الحنابلة، كما قال العلامة الكوثري في تعليقه على «السيف الصقيل» (ص87) حيث قال:
«ولم يقع ذكر الجهة في حق الله سبحانه في كتاب الله ولا في سنة رسوله ﷺ ولا في لفظ صحابي أو تابعي، ولا في كلام أحد ممن تكلم في ذات الله وصفاته من الفرق سوى أقحاح المجسمة، وأتحدى من يدعي خلاف ذلك أن يسند هذا اللفظ إلى أحد منهم بسند صحيح، فلن يجد إلى ذلك سبيلًا، فضلا عن أن يتمكن من إسناده إلى الجمهور بأسانيد صحيحة.
وأول من وقع ذلك في كلامه ممن يدعي الانتماء إلى أحد الأئمة المتبوعين -فيما أعلم- هو أبو يعلى الحنبلي المتوفى سنة (458هـ)، حيث قال عند إثباته الحد له تعالى في كتابه «إبطال التأويلات لأحاديث الصفات»: “أن جهة التحت تحاذي العرش بما قد ثبت من الدليل، والعرش محدود، فجاز أن يوصف ما حاذاه من الذات أنه حد وجهة له، وليس كذلك فيما عداه؛ لأنه لا يحاذي ما هو محدود، بل هو مار في اليمنة واليسرة والفوق والأمام والخلف إلى غير غاية…”».اهـ كلام الكوثري.
ولما توفرت مخطوطات الكتاب، وحُقّق وطبع كاملًا، تبيّن أنّ النص الذي نقله ابن تيمية بطوله، موجود في أواخر «إبطال التأويلات»، وقد أورده الشيخ سعيد كاملًا في هامش الطبعة الجديدة «للكاشف».
[المطلب الثالث: كتاب «إبطال التأويلات» متأخر عن «المعتمد» وغيره من كتب التنزيه]
ومما ينبغي التنبّه إليه أنّ كتاب «إبطال التأويلات» متأخر عن كتاب «المعتمد»، والأدلة على ذلك كثيرة، لكنّ ذِكْرَ أبي يعلى لكتابه «المعتمد» وإحالته عليه في «إبطال التأويلات»، يحسم مسألة المتقدّم والمتأخر، قال مثلًا في التعليق على الحديث رقم (290) في أول مَن يحاسب (ص630):
«اعلم أنّ هذا الخبر قد دلّ على فوائد:
منها فضيلة لأبي بكر، وأنّه أوّل مَن يحاسب، وأنه يشفع، وهذه طبقة الأنبياء.
وفيه دلالة على أنّ أهل الذنوب لا يخلّدون، خلاف المعتزلة، والكلام في ذلك مستوفى في (كتاب المعتمد)».اهـ
وهذه الإحالة على كتاب المعتمد، والتصريح باسمه، دليل حاسم على أنّ المعتمد متقدّم.
أمّا القرائن الأخرى على تقدّم المعتمد على «إبطال التأويلات» فكثيرة، فإن فتنة «إبطال التأويلات» حصلت عام (429هـ) على أقل تقدير، وكتاب «المعتمد» قبل عام (428هـ)؛ لورود ذكره في كتاب «العدة في الأصول» الذي يحمل نفس التاريخ.
على أن محقق «مختصر المعتمد» في دراسته عن أبي يعلى، رجّح أنّ «المعتمد» من أوائل تصانيف القاضي، واستدل على ذلك بأدلة عديدة، منها أنّ القاضي رجع عن عدد من المسائل التي دوّنها في المعتمد كما نص على ذلك الحنابلة، وقد ذكر ابن تيمية عددًا من هذه الكتب التي خالفت ما في المعتمد، مما يدل على تقدّم المعتمد على هذه الكتب.
كما أنّ تأثّر «المعتمد» إلى درجة كبيرة بكتب الباقلاني وكثرة نقله عنه، نقلًا يكاد أن يكون بالنص، أمارة على أن أبا يعلى لم يكن قد استقل نظره استقلالًا يُلاحَظ في مصنفاته الأخرى، بل كان متابعًا للباقلاني والأشاعرة في كثير من القضايا.
بل نجد ابن تيمية الحنبلي ينص على أنّ نفي الحدّ هو قول أبي يعلى الأول، وهو الذي سطّره في كتاب «المعتمد» وفي «غيره» من الكتب، أي أنّ ما دوّنه أبو يعلى في المعتمد وفي الرد على المجسمة ومختصر المعتمد وغيرها هو قوله الأول، قال في بيان تلبيس الجهمية (2/629):
«فهذا الكلام من الإمام أبي عبد الله أحمد -رحمه الله- يبين أنه نفى أن العباد يحدّون الله تعالى أو صفاته بحد، أو يُقدِّرون ذلك بقدر، أو أن يبلغوا إلى أن يصفوا ذلك، وذلك لا ينافي ما تقدم من إثبات أنه في نفسه له حد، يعلمه هو لا يعلمه غيره، أو أنه هو يصف نفسه، وهكذا كلام سائر أئمة السلف، يثبتون الحقائق وينفون علم العباد بكنهها، كما ذكرنا من كلامهم في غير هذا الموضع ما يبين ذلك.
وأصحاب الإمام أحمد منهم من ظن أن هذين الكلامين يتناقضان، فحكي عنه في إثبات الحد لله تعالى روايتين، وهذه طريقة «الروايتين والوجهين».
ومنهم من نفى الحد عن ذاته تعالى، ونفى علم العباد به، كما ظنه موجَب ما نقله حنبل، وتأول ما نقله المروذي والأثرم وأبو داود وغيرهم من إثبات الحد له على أن المراد إثبات حد للعرش.
ومنهم من قرر الأمر كما يدل عليه الكلامان، أو تأول نفي الحد بمعنى آخر.
والنفي هو طريقة القاضي أبي يعلى أولًا في المعتمد وغيره، فإنه كان ينفي الحد والجهة، وهو قوله الأول».اهـ
إذاً فقوله: «في المعتمد وغيره»، يدلّ على أن الكتب التي قرّر فيها أبو يعلى تنزيه الله تعالى عن الحدّ والجهة، متقدّمة على «إبطال التأويلات» الذي صرّح في آخره بتراجعه عن نفي هذه الأمور، وهذا يعني أنّ كلّ ما يُنقل عن كتب القاضي في نفي الحد والجهة هو قوله الأول، سواء كان النَّقل عن «المعتمد» أو «الرد على المجسمة» أو «الروايتين والوجهين»، ولا يصحّ اعتباره مذهبًا أخيرًا للرجل.
ونلاحظ أن ابن تيمية ذكر «الروايتين والوجهين» لأبي يعلى، ولم يعتبر ما فيه قولًا أخيرًا للقاضي.
والقاضي أبو يعلى رجّح في أول كلامه في «الروايتين والوجهين» قول أبي الحسن التميمي في نفي المماسة والمباينة، على قول شيخه ابن حامد في إثبات المماسة والقعود، فقال (ص53):
«وما ذكره أبو الحسن التميمي أصح، وهو أشبه بكلام أحمد؛ لأن كل من نقل عن أحمد نقل الاستواء مطلقًا من غير ذكر مماسة، ولأن هذا مذهبه في الصفات وأنها تمر كما جاءت، والذي ورد في القرآن والأخبار ذكر الاستواء مطلقًا، فيجب أن يحمل على ذلك الإطلاق، ولأن المماسة والمباينة تستحيل عليه لأنها من صفات الحدث، فلم يجز إثباتها عليه».اهـ
وبعد أن تكلّم عن مسألة المماسة ورجّح قول أبي الحسن التميمي على قول شيخه ابن حامد، تطرق إلى مسألة الحد، ونقل عن الإمام أحمد روايتين دالتين على نفي الحد، وهما رواية حنبل ويعقوب، ونقل روايتين ظاهرهما -عنده- إثبات الحد، وهما رواية الأثرم والمروذي، ثم بيّن ما استقر عنده فيما روي عن الإمام أحمد، فقال (ص55):
«فذاكرت بعض أصحابنا في هذه المسألة، فتقرر الكلام بيننا أن هذا الاختلاف في إثبات الحد ونفيه يرجع إلى صفة الاستواء على العرش:
-فما نقله حنبل ويعقوب أنه على العرش: يخرَّج على قول أبي الحسن، وأن ذلك الاستواء لا بمعنى المماسة ولا المباينة، فهو في الحقيقة غير معقول.
-وما نقله الأثرم والمروذي: يخرَّج على قول شيخنا، وأن ذلك الاستواء بمعنى المماسة على ما تعرفه العرب.
فيكون الاختلاف في إثبات الحد راجعًا إلى هذا».اهـ
فأبو يعلى يقرر أن الإمام أحمد تناقض قوله في هذه المسألة، فمرة رأى أن الاستواء لا بمعنى المماسة ولا المباينة، ومرة رأى أنّ الاستواء بمعنى المماسة على ما تعرفه العرب! وهذا معنى قول ابن تيمية السابق: «وأصحاب الإمام أحمد منهم من ظن أن هذين الكلامين يتناقضان، فحكى عنه في إثبات الحد لله تعالى روايتين، وهذه طريقة: (الروايتين والوجهين)».اهـ
ثم قال أبو يعلى:
«وحكي عن أبي الحسن الجزري أنه كان يقول: هو على العرش بحد يعلمه هو ولا نعلمه نحن.
فيجعل راجعًا إلى ذاته لا إلى الاستواء، وكان يحتج في ذلك بقوله: (وَتَرَى ٱلْمَلَٰٓئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ)، فاقتضى أنّ العرش محدود، وهو على العرش.
وهذا قول بعيد».اهـ
وهذا استبعادٌ من أبي يعلى لكون الله تعالى محدودًا في ذاته.
وتصريح ابن تيمية بما في «الروايتين والوجهين»، وذهابه إلى أن إثبات الحدّ قول متقدم للقاضي، يعنى أنّ ما استبعده القاضي هو قوله الأول لا الأخير.
ولا يخفى أنّ قول ابن تيمية وغيره من المجسمة بأنّ حدّ الله تعالى لا يعلمه غيره، لا يعني أنّهم ينفون الحد عن الله تعالى أو يتوقفون في إثباته، بل هم يثبتون أن الله في نفسه محدود، لكنهم ينفون علم العباد بكنه هذا الحد، فيقول ابن تيمية مثلًا فيما سبق:
«وذلك لا ينافي ما تقدم من إثبات أنه في نفسه له حد، يعلمه هو لا يعلمه غيره، أو أنه هو يصف نفسه، وهكذا كلام سائر أئمة السلف، يثبتون الحقائق وينفون علم العباد بكنهها».اهـ
وبما أنّ إبطال التأويلات يتضمن في أوّله مواضع عديدة في نفي الحدّ والجهة، كما يتضمن في آخره إعلانًا صريحًا في إثباتهما، نجد ابن تيمية يبيّن أنّ أبا يعلى ذكر القولين جميعًا في «إبطال التأويلات»، فقال (3/14-19):
«والقاضي في هذا الكتاب [المعتمد] ينفي الجهة عن الله، كما قد صرح بذلك في غير موضع، كما ينفي أيضًا هو وأتباعه كأبي الحسن بن الزاغوني وغيره التحيزَ والجسم والتركيب والتأليف والتبعيض ونحو ذلك، ثم رجع عن نفي الجهة والحد، وقال بإثبات ذلك.
كما ذكر قوليه جميعًا فقال في كتاب «إبطال التأويلات لأخبار الصفات» لما تكلم على حديث الأوعال:
(فإذا ثبت أنه تعالى على العرش، فالعرش في جهة، وهو على عرشه، وقد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه، والصواب جواز القول بذلك)».اهـ
وهذا كلام خبير عارف بكتب القاضي، مطلع على آرائه منتم لمذهبه، لا يتردد في أن لأبي يعلى قولين في الحد والجهة، وأن القول الأول ما ذكره في المعتمد وغيره وفي مواضع من إبطال التأويلات، وهو نفي الحد والجهة، ثم رجع عنه إلى إثباتهما. كما يقرر ابن تيمية أنّ هذين القولين ذكرهما أبو يعلى في نفس الكتاب وهو «إبطال التأويلات»، فقال:
«كما ذكر قوليه جميعًا فقال في كتاب «إبطال التأويلات لأخبار الصفات» لما تكلم على حديث الأوعال…».اهـ
أقول: وهذا يعني أنّ ابن تيمية اطلع على نصوص أبي يعلى في التنزيه، لكنّه اعتبر كلام أبي يعلى في أواخر إبطال التأويلات دليلاً صريحاً وحجة صحيحة على تراجعه عمّا سطّره في نفس الكتاب وفي كتبه الأخرى، ولو كان لأبي يعلى كلام في نفي الحد والجهة متأخر عن إبطال التأويلات، لما تردد ابن تيمية بذكره والتصريح به بل ونقده، كما فعل في عدد من المسائل الأخرى، وهو القائل عن أبي يعلى:
«وإن كان في كلام القاضي مواضع اضطرب فيها كلامه، وتناقض فيها، وذكر في موضع كلامًا بنى عليه من وافقه فيه من أبنية فاسدة».اهـ (مجموع الفتاوى 8/422).
[المطلب الرابع: نص كلام أبي يعلى كاملًا من إبطال التأويلات]
سأسوق النص الذي استدل به ابن تيمية على تراجع أبي يعلى بطوله، ليظهر أنّ كلام أبي يعلى محكم صريح في التراجع عن نفي الحد والجهة، وأنّ الرجل قد استدل بالمنقول والمعقول لإثبات ذلك، وأن ابن تيمية لما احتج بهذا النص مرارًا وتكرارًا على تراجع أبي يعلى، لم يكن متلاعبًا بما في كتب القاضي، ولم يكن مفتريًا عليه أو جاهلًا بما في كلامه من التنزيهات، ولم يكن جاهلًا بما ذكره ابن أبي يعلى في طبقاته، وكذلك كل مَن رأى أنّ هذا الموضع يمثل رجوعًا من أبي يعلى عن نفي الحد والجهة.
قال القاضي أبو يعلى في «إبطال التأويلات» (ص595-599):
«فإذا أثبت أنه على العرش، والعرش في جهة، وهو على عرشه، وقد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه، والصواب جواز القول بذلك؛ لأن أحمد قد أثبت هذه الصفة التي هي الاستواء على العرش، وأثبت أنه في السماء، وكل من أثبت هذا أثبت الجهة، وهم أصحاب ابن كرام وابن منده الأصبهاني المحدث.
والدلالة عليه: أن العرش في جهة بلا خلاف، وقد ثبت بنص القرآن أنه مستو عليه، فاقتضى أنه في جهة.
ولأن كل عاقل من مسلم أو كافر إذا دعا، فإنما يرفع يديه ووجهه إلى نحو السماء، وفي هذا كفاية.
ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقول: ليس هو في جهة ولا خارجًا منها، وقائل هذا بمثابة من قال بإثبات موجود مع وجود غيره، ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولا بعده.
ولأن العوام لا يفرقون بين قول القائل: طلبته فلم أجده في موضع ما، وبين قوله: طلبته فإذا هو معدوم.
وقد احتج ابن منده على إثبات الجهة، بأنه لما نطق القرآن بأن الله تعالى على العرش، وأنه في السماء، وجاءت السنة بمثل ذلك، وبأن الجنة مسكنه، وأنه في ذلك، وهذه الأشياء أمكنة في أنفسها، فدل على أنه في مكان.
فإذا ثبت أنّه على العرش، وأنه في جهة، فهل الاستواء من صفات الذات؟
قياس قول أصحابنا أنه من صفات الذات، وأنه موصوف بها في القِدَم، وإن لم يكن هناك عرش موجود…إلخ
الثاني: لأنهم قد قالوا: خالق ورازق موصوف به فيما لم يزل، ولا مخلوق ولا مرزوق، لتحقق الفعل من جهته. وقد تقول العرب: «سيف قطوع وخبز مشبع وماء مروٍ» وإن لم يوجد منه القطع لتحقق الفعل منه.
واستدل بعض أصحابنا بأنه موصوف في الأزل بالربوبية ولا مربوب، وبالألوهية ولا مألوه، وعلى قياس هذا النزول إلى السماء والمجيء في ظلل من الغمام ووضع القدم في النار.
فإن قيل: فقد قال أحمد في رواية حنبل: «هو على العرش كيف شاء وكما شاء»، وصفات الذات لا تدخل تحت المشيئة؟
قيل: المشيئة راجعة إلى خلق العرش لا إلى الاستواء عليه.
وإذا ثبت استواؤه، وأنه في جهة، وأن ذلك من صفات الذات، فهل يجوز إطلاق الحد عليه؟
-قد أطلق أحمد القول بذلك في رواية المَرُّوذي، وقد ذُكر له قول ابن المبارك: «نعرف الله على العرش بحد»، فقال أحمد: «بلغني ذلك» وأعجبه.
-وقال الأثرم: قلت لأحمد: يحكى عن ابن المبارك: نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه بحد، فقال أحمد: هكذا هو عندنا.
-ورأيت بخط أبي إسحاق: أنا أبو بكر أحمد بن نصر الرفاء، سمعت أبا بكر بن أبي داود، سمعت أبي يقول: جاء رجل إلى أحمد بن حنبل، فقال له: لله تبارك وتعالى حد؟ قال: نعم، لا يعلمه إلا هو، قال الله تبارك وتعالى: ((وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ)) [الزمر 75] يقول: محدقين.
فقد أطلق أحمد القول بإثبات الحد لله.
-وقد نفاه في رواية حنبل، فقال: «نحن نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء وكما شاء، بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد».
فقد نفى الحد عنه على الصفة المذكورة، وهو الحد الذي يعلمه خلقه.
والموضع الذي أطلقه محمول على معنيين:
*أحدهما: على معنى أنه تعالى في جهة مخصوصة، وليس هو تعالى ذاهبًا في الجهات الست، بل هو خارج العالم متميز عن خلقه، منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات.
وهذا معنى قول أحمد: «له حد لا يعلمه إلا هو».
*والثاني: أنه على صفة يَبِينُ بها عن غيره ويتميز، ولهذا سمي البواب حدادًا؛ لأنه يمنع غيره من الدخول، فهو تعالى فرد واحد ممتنع عن الاشتراك له في أخص صفاته.
وقد منعنا من إطلاق القول بالحد في غير موضع من كتابنا، ويجب أن يجوز على الوجه الذي ذكرنا.
ويجب أن يحمل اختلاف كلام أحمد في إثبات الحد على اختلاف حالين:
-فالموضع الذي قال «إنه على العرش بحد» معناه: أن ما حاذى العرش من ذاته فهو حد له وجهة له.
-والموضع الذي قال: «هو على العرش بغير حد» معناه ما عدا الجهة المحاذية للعرش، وهي الفوق والخلف والأمام واليمنة واليسرة.
وكان الفرق بين جهة التحت المحاذية للعرش وبين غيرها مما ذكرنا:
أن جهة التحت تحاذي العرش بما قد ثبت من الدليل، والعرش محدود، فجاز أن يوصف ما حاذاه من الذات أنه حد وجهة.
وليس كذلك فيما عداه؛ لأنه لا يحاذي ما هو محدود، بل هو مار في اليمنة واليسرة والفوق والأمام والخلف إلى غير غاية، فلهذا لم يوصف واحدٌ من ذلك بالحد والجهة.
وجهة العرش تحاذي ما قابله من جهة الذات، ولم تحاذ جميع الذات؛ لأنه لا نهاية لها».اهـ كلام القاضي
وهذا النص هو الذي نقله ابن تيمية بطوله، واعتمد عليه في دعوى رجوع أبي يعلى عن تنزيه الله تعالى عن الجهة والحد، ولم يعتبره ابن تيمية مشكلًا ولا متشابهًا، بل رآه رجوعًا إلى مذهب السلف والأئمة.
ولنأت إلى كلام القاضي أبي يعلى، لنبيّن أنّ كلامه محكم صريح في إثبات الجهة والحدّ وتقييدهما بعد إطلاق نفيهما، وليس فيه إشكال أو اشتباه.
قال أبو يعلى في بداية كلامه:
«وقد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه، والصواب جواز القول بذلك».اهـ
وهذا نصّ محكم ليس في معناه إشكال أو اشتباه، يصرّح فيه بأمرين:
الأول: أنّه منع في هذا الكتاب في غير موضع إطلاق الجهة على الله تعالى.
الثاني: أنّ موقفه الأخير هو جواز إطلاق الجهة في حق الله تعالى.
ولمّا أتم استدلاله على إثبات الجهة لله تعالى، شرع في الكلام على إثبات الحدّ، وصرّح بكلام لا خفاء في دلالته على رجوعه عن نفي الحد، فقال:
«وقد منعنا من إطلاق القول بالحد في غير موضع من كتابنا، ويجب أن يجوز على الوجه الذي ذكرنا».اهـ
فها هو يعلن بعبارة صريحة محكمة على إثبات الحد بمعنى معيّن، وأنّ نفيه السابق للحد ليس على إطلاقه، فإن «الحد» ثابت لله تعالى بمعنى، ومنفي بمعنى آخر.
وهذا الإعلان الصريح من أبي يعلى ناسخ لقوله السابق في نفس الكتاب، وفي غيره من الكتب التي نفى فيها الجهة والحد، لأنّ القاضي ينصّ على إثبات ما نفاه سابقًا، ولا يخفى أنّه كان ينفي حقيقة الجهة لا لفظها، وكذلك أطلق نفي الحد وأراد نفي معناه لا لفظه، فلما قال: «وقد منعنا…والصواب جواز القول بذلك» دلّ على أنّه يثبت ما نفاه سابقًا من معنى الجهة والحد لا لفظهما. وهذا واضح جداً من استدلالاته على إثبات الحد والجهة.
وبسبب هذه العبارات المحكمة الجلية في إثبات الجهة والحد بعد نفيهما، اعتبر علماء الحنابلة أنّ هذا القول هو الثاني والأخير لأبي يعلى. ولو نازع منازع في دلالة هذا النص على إثبات الحد والجهة بعد نفيهما لما جاز الالتفات إليه؛ لأنّ هذه العبارات قطعية الدلالة على الإثبات بعد النفي، ولو شككنا في دلالتها على ذلك لارتفع الأمان عن فهم المعاني من الألفاظ، وأصبحت العبارات دالة على الشيء ونقيضه في الوقت نفسه.
ولذا، فإن العلاقة بين هذه العبارات الصريحة المحكمة وبين ما سبق، علاقة ناسخ بمنسوخ، واختيار ثان بعد اختيار الأول، كما فهم ذلك الحنابلة وغيرهم، وليست علاقة محكم بمتشابه كما يتوهمه البعض، فما هو وجه الإشكال والتشابه في مثل هذه العبارات المحكمة؟! وما هو المحتاج إلى بيان من كلام أبي يعلى الواضح المبيّن؟!
ثم إنّ أبا يعلى لما صرّح بإثبات الجهة بعد نفيها، شرع في الاستدلال على إثبات حقيقة الجهة الحسية لله تعالى بأدلة متعددة، مما يبطل أي تعسّف في تحريف كلامه والتلاعب بمراده، ويدل على أنّ كلامه ليس مشكلًا ولا متشابهًا، لأنّ الشروع في الاستدلال على معنى محدّد وإبطال ما سواه، يدل على إرادة المستدل لذلك المعنى دلالة قطعية.
وقد ذكر القاضي مجموعة من الأدلة على إثباته الجهة على النحو الآتي:
الدليل الأول: قال أبو يعلى:
«وقد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه، والصواب جواز القول بذلك؛ لأن أحمد قد أثبت هذه الصفة التي هي الاستواء على العرش، وأثبت أنه في السماء، وكل من أثبت هذا أثبت الجهة، وهم أصحاب ابن كرام وابن منده الأصبهاني المحدث».اهـ
فهو يعلّل تراجعه عن نفي الجهة بأنّ الإمام أحمد أثبت استواء الله على العرش وأنه في السماء، وهذا يستلزم عنده كون الله تعالى في جهة!
أقول: وهذا التعليل يدلّ دلالة محكمة على إثباته الجهة الحسية، ويبطل كل محاولة للتوقف في قوله بالجهة أو اعتبار كلامه مشكلًا متشابهًا، لأنّه جعل جهة الله تعالى تابعة لجهة العرش، ومعلوم أنّ العرش متحيّز في جهةٍ حسية من العالم، ولمّا ثبت أنّ الله تعالى استوى على العرش، ثبت تحيزه في الجهة الثابتة للعرش!
وإثباته التلازم بين استواء الله على العرش وبين كون الله في جهة حسية، دالٌ على أنّه يثبت استواء حسيًا لله تعالى، وقد أكّد هذا المعنى بقوله: «والدلالة عليه: أن العرش في جهة بلا خلاف، وقد ثبت بنص القرآن أنه مستو عليه، فاقتضى أنه في جهة».
أي أنّ جهة الله تعالى تُعلم وتتحدّد وتتعيّن تبعًا للعلم بأن العرش في جهة قطعاً!
الدليل الثاني: استدل أيضًا على إثبات الجهة برفع الأيدي إلى السماء، ومعلوم أنّ الأيدي ترفع إلى جهة حسية، وأن الجهة اسم لمنتهى مأخذ الإشارة ومقصد المتحرك، وذلك يستلزم الحد والنهاية.
قال أبو يعلى: «ولأن كل عاقل من مسلم أو كافر إذا دعا، فإنما يرفع يديه ووجهه إلى نحو السماء، وفي هذا كفاية».اهـ
وهذا واضح جداً لا يحتاج منا إلى بيان ففيه الكفاية – على حد قوله- على إثباته الجهة الحسية.
الدليل الثالث: أما الدليل الثالث لأبي يعلى في إثبات الجهة، فهو تسويته بين قول القائل: «ليس بموجود في جهة ولا خارجها»، أو بتعبير آخر: «لا داخل العالم ولا خارجه»، وبين قوله: «ليس موجودًا قبل الآخر ولا بعده». اهـ
فإذا كان قول القائل: «كل موجودين لا يكون وجود أحدهما قبل الآخر ولا بعده» متناقضًا، كان قول المنزهة: «ليس بموجود في جهة ولا خارجها» متناقضًا عنده أيضًا.
قال أبو يعلى: «ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقول: (ليس هو في جهة ولا خارجًا منها)، وهذا بمثابة من قال بإثبات موجود مع وجود غيره، (ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولا بعده)».اهـ
وهذه إحدى مغالطات المجسمة القديمة، وهي مبنية على إثبات الحد والحيز لله تعالى؛ لأنّ الخروج عن الجهة أو الدخول فيها يستلزم إضافة متحّيزٍ إلى متحيّز محدودٍ آخر، أما المنزَّه عن التحيز والحد فلا يجوّز أن يوصف تعالى بالخروج من الجهة أو الدخول فيها، إذ الخروج والدخول عبارة عن نسب إضافية بين المتحيزات المحدودة، ولا تثبت لأمر إلا بإضافته إلى أمر موجود آخر من جهة اشتراكها في وصف واحد هو التحيز والحد التابعان لجسمية كلّ منهما، وشرطُ صحة إطلاقهما تحقق التحيز والحدّ للطرفين وتحقق نسبة بينهما، فما ليس بمتحيز ولا محدود لا يثبت له وصف الدخول والخروج أصلًا.
وهذا يعني أن الدخول والخروج ليسا نقيضين، بل هما أمران إضافيان مشروطان بالتحيز والمحدودية، ولذلك فقولنا: «ليس في جهة ولا خارجًا منها» ليس تناقضًا.
الدليل الرابع: استدل أبو يعلى على وجود الله تعالى في الجهة، بتسوية العوام بين معنى (المعدوم) ومعنى (ما ليس في موضع)، قال:
«ولأن العوام لا يفرقون بين قول القائل: طلبته فلم أجده في موضع ما، وبين قوله: طلبته فإذا هو معدوم».اهـ
أقول: إن استدلاله بقول العوام يستلزم موافقته لهم، وهذا الاستدلال قائم على أنّ الموضع شرط لوجود أي موجود، فمن نفى وجود الله في موضع أو جهة فقد نفى وجود الله، وجعل الله تعالى عدمًا!
وهذا بعينه مذهب المجسمة!
ويظهر من هذا الدليل وما قبله أن القاضي يستعمل هنا أدلة عقلية لإثبات معنى معقول، أي أن الأمر عنده ليس تفويضًا محضًا بإثبات اللفظ مع عدم معقولية المعنى، بل هو مذهب فيه أسس عقلية يفهم النصوص بناء عليها.
ثم قال أبو يعلى:
«وقد احتج ابن منده على إثبات الجهة، بأنه لما نطق القرآن بأن الله تعالى على العرش، وأنه في السماء، وجاءت السنة بذلك، وبأن الجنة مسكنه، وأنه في ذلك، وهذه الأشياء أمكنة في أنفسها، فدل على أنه في مكان».اهـ
أقول: إنّ استشهاده بحجة ابن منده دليل على الموافقة، وابن منده احتج على إثبات الجهة الحسية لله تعالى، وحدّد مكان الله تعالى بالتبع لمكان العرش والسماء والجنة، وهذا يعني أنّ أبا يعلى يثبت لله تعالى جهة حسية كجهة العرش والجنة ونحوها.
وبما أن الاستواء يستلزم وجود الله تعالى في جهة عند أبي يعلى، وأن ما ليس في جهة أو موضع فهو معدوم، كان من اللازم أن يثبتَ الاستواء صفةً من صفات الذات لله تعالى وليس فعلاً من أفعاله، فقال:
«قياس قول أصحابنا أنه من صفات الذات، وأنه موصوف بها في القِدَم».اهـ
وهذا استنباط عجيب، فكيف له أن يقول عن الحنابلة إن الاستواء صفة ذات ثابتة لله تعالى أزلًا عندهم، والعرش في مذهبهم ليس موجودًا أزلا!
ولما كان الوجود في جهة مشروطًا بثبوت الحد، شرع أبو يعلى في الكلام على الحد لله تعالى، فقال:
«وإذا ثبت استواؤه، وأنه في جهة، وأن ذلك من صفات الذات، فهل يجوز إطلاق الحد عليه؟».اهـ
ثم ذكر أن الإمام أحمد أطلق الحد في رواية المروذي والأثرم، ونفاه في رواية حنبل، وجمع القاضي بين هذه الروايات بأن الموضع الذي أثبت فيه الإمام أحمد الحدَّ فقد أثبته بمعنى أنه تعالى في جهة مخصوصة، وأنه على صفة يَبِينُ بها عن غيره ويتميز وهي جهة التحت التي يحاذي بها العرش، والموضع الذي نفى فيه الحدّ فقد نفاه بمعنى الحدّ الذي يعلمه خلقه والجهات الخمس الأخرى، ثم زاد المسألة تفصيلًا فقال:
«ويجب أن يحمل اختلاف كلام أحمد في إثبات الحد على اختلاف حالين:
-فالموضع الذي قال «إنه على العرش بحد» معناه: أن ما حاذى العرش من ذاته فهو حد له وجهة له.
-والموضع الذي قال: «هو على العرش بغير حد» معناه ما عدا الجهة المحاذية للعرش، وهي الفوق والخلف والأمام واليمنة واليسرة.
وكان الفرق بين جهة التحت المحاذية للعرش وبين غيرها مما ذكرنا:
أن جهة التحت تحاذي العرش بما قد ثبت من الدليل، والعرش محدود، فجاز أن يوصف ما حاذاه من الذات أنه حد وجهة.
وليس كذلك فيما عداه؛ لأنه لا يحاذي ما هو محدود، بل هو مار في اليمنة واليسرة والفوق والأمام والخلف إلى غير غاية، فلهذا لم يوصف واحدٌ من ذلك بالحد والجهة.
وجهة العرش تحاذي ما قابله من جهة الذات، ولم تحاذ جميع الذات؛ لأنه لا نهاية لها».اهـ
أقول: هكذا آل أمر أبي يعلى فيما يعتقده في ذات الله تعالى، فيرى أنّ ذات الله تعالى محدودة من التحت لأنها تقابل محدودًا وهو العرش، لكنّ ذات الله تعالى ممتدة في اليمنة واليسرة والفوق والأمام والخلف إلى غير غاية وحدّ، ولذلك اضطر لتقييد ما أطلقه سابقًا من نفي الحد، بأنّه نفيٌ للحد الذي يعلمه خلقه، ونفيٌ للحد من الجهات الخمس دون جهة التحت، وأوجب إثبات الحد لذات الله تعالى من جهة الأسفل التي تحاذي العرش، وأعلن بعبارات جلية محكمة عن تقييده للحدّ الذي أطلق نفيه في أوائل الكتاب، فقال:
«وقد منعنا من إطلاق القول بالحد في غير موضع من كتابنا، ويجب أن يجوز على الوجه الذي ذكرنا».اهـ
فذات الله تعالى متحيزة في جهة ممتدة في الأبعاد، وهذا هو التجسيم عند أهل الاصطلاح، حيث اتفق أهل السنة وغيرهم من الفلاسفة والمعتزلة وسائر الفرق الكلامية، على أنّ كل ممتد في الأبعاد والجهات فهو جسم.
وقوله إن ذات الله تعالى محدودة من جهة التحت التي تحاذي العرش، قريب من القول المنقول عن الكرامية، قال الإمام عبد القاهر البغدادي في «أصول الدين» (ص73):
«والخلاف الثاني: مع الكرّامية الذين زعموا أن له حدًا واحدًا من جهة السفل ومنها يلاقي العرش».اهـ
وقد نقل أبو يعلى -في النص الطويل السابق- من رواية ابن أبي داود أنّ الإمام أحمد حينما سأله رجل: «لله تبارك وتعالى حد؟» قال: «نعم، لا يعلمه إلا هو، قال الله تبارك وتعالى: ((وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ)) [الزمر 75]».
ثم فسّر القاضي الحد المثبت بالحد المقابل لجهة العرش و بالحد الذي يعلمه الله تعالى دون خلقه، وفسر الحد المنفي بالذي بالحد الذي يعلمه خلقه، أو الحد على وجه الإحاطة بحيث يحيط بالله تعالى من سائر الجهات لا من جهة العرش فقط، بخلاف ما نعلمه في الشاهد فإنه محدود على وجه الإحاطة من سائر الجهات.
وقد أعاد القاضي نقل هذه الرواية بعينها، مع تأكيد إطلاق الحد لله تعالى، ونَفْيِه على وجه الإحاطة من سائر الجهات كما هو شأن ما كان محدودًا في الشاهد، قال في «إبطال التأويلات» (ص685):
«…عن أبي بكر بن أبي داود سمعتُ أبي يقول:
جاء رجل إلى أحمد بن حنبل، فقال له: «لله تعالى حد؟» قال: «لا يعلمه إلا هو، قال تعالى: ((وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ)) [الزمر 75]».
وظاهر هذا جواز إطلاق الحد عليه، لا على وجه الإحاطة، لكن على وجه يعلمه، كما جاز إطلاق ذات على وجه يعلمها، وكذلك جاز إطلاق شيء، وإن كنّا نعلم أنّ الشيء في الشاهد ما كان محدودًا».اهـ كلام أبي يعلى
أقول: يقرّر أبو يعلى في هذا الموضع ما قرّره سابقًا عند كلامه على نفس هذه الرواية، فنفى الحد بمعنى وأطلقه بمعنى.
فقوله: «وظاهر هذا جواز إطلاق الحد عليه» تأكيدٌ لما فهمه أبو يعلى سابقًا من كلام الإمام أحمد، وهو أنّ لله حدًا، فيصح إطلاق الحد عليه تعالى.
لكن هل هذا الحدّ محيط بالله تعالى من جميع الجهات، أم من جهة دون سائر الجهات؟
يرى أبو يعلى أنّ هذا الحد لا على جهة «الإحاطة»، فإن المحدود في الشاهد هو الذي نعلم حدوده من جميع الجهات، قال:
«لا على وجه الإحاطة، لكن على وجه يعلمه».
فحدّ الله تعالى -عنده- لا يحيط بالله تعالى من الفوق والخلف والأمام واليمنة واليسرة، كما بيّن في شرحه لهذه الرواية في الموضع السابق.
وقوله: «لكن على وجه يعلمه» يوضّحه كلامه في الموضع السابق عندما نقل هذه الرواية فقال:
«على معنى أنه تعالى في جهة مخصوصة، وليس هو تعالى ذاهبًا في الجهات الست، بل هو خارج العالم متميز عن خلقه، منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات، وهذا معنى قول أحمد: (له حد لا يعلمه إلا هو)».اهـ
فمعنى قوله: «لا يعلمه إلا هو» أو «على وجه يعلمه» أن الله تعالى: «منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات» كما قال.
وإذا لم يكن الله تعالى داخلًا في كل الجهات، فهل هو محدود من بعض الجهات دون بعض؟
يجيب أبو يعلى بقوله:
«والموضع الذي قال: (هو على العرش بغير حد) معناه ما عدا الجهة المحاذية للعرش، وهي الفوق والخلف والأمام واليمنة واليسرة».اهـ
وبهذا يتبيّن الفرق بين ما كان محدودًا في الشاهد وبين محدودية الله تعالى، فإنّ الله تعالى محدود لا على وجه الإحاطة، أما ما نعلمه في الشاهد فهو محدود من كل الجهات على وجه الإحاطة، لا من جهة التحت فقط، ولذلك قال أبو يعلى:
«وإن كنّا نعلم أنّ الشيء في الشاهد ما كان محدودًا».اهـ
فنحن نرى أنّ أبا يعلى أثبت الحد بناء على قياس عقلي، والقياس لا يكون إلا معقول المعنى، إذ القياس العقلي لا يكون مبنيًا على مجرد الألفاظ، وهذا يقطع بإرادته إثبات معنى الحد لا لفظه.
وممن أثبت لله تعالى حدًا لكن لا يعلمه غيره، أبو سعيد الدارمي صاحب كتاب «الرد على المريسي»، وصرح بكلام قريب جدًا من كلام أبي يعلى السابق، واستدل بنفس الطريقة التي سلكها أبو يعلى، فقال في «باب الحد والعرش» (1/223):
« وادعى المعارض أيضًا أنه ليس لله حد ولا غاية ولا نهاية…
..والله تعالى له حد، لا يعلمه أحد غيره، ولا يجوز لأحد أن يتوهم لحده غاية في نفسه، ولكن يؤمن بالحد، ويكل علم ذلك إلى الله. ولمكانه أيضًا حدٌ وهو على عرشه فوق سماواته، فهذان حدان اثنان».اهـ
وقال (1/225):
«فمن ادعى أنه ليس لله حد فقد رد القرآن، وادعى أنه لا شيء؛ لأن الله حد مكانه في مواضع كثيرة من كتابه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}، {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ}، { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}، { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}، فهذا كله وما أشبهه شواهد ودلائل على الحد».اهـ
وهذا كلام قريب جدًا من كلام أبي يعلى، فكلاهما أثبت لله تعالى حدًا، وأنّ هذا الحد لا يعلمه أحدٌ غيره، وأنّ الله تعالى محدود من جهة العرش لأنه -سبحانه- حدّ مكانه بالعرش.
وكذلك صرّح ابن تيمية بإثبات الحد لله تعالى بنفس الطريقة التي سلكها الدارمي وأبو يعلى، فقال في بيان تلبيسه (1/287):
«وأما وصفه بالحد والنهاية الذي تقول أنت إنه معنى الجسم، فهم فيه كسائر أهل الإثبات على ثلاثة أقوال: منهم من يثبت ذلك كما هو المنقول عن السلف والأئمة، ومنهم من نفى ذلك، ومنهم من لا يتعرض له بنفي ولا إثبات».اهـ
وقال في درء التعارض (2/35):
«فهذا مثاله مما نقل عن الأئمة، كما قد بسط في غير هذا الموضع، وبينوا أن ما أثبتوه له من الحد لا يعلمه غيره، كما قال مالك وربيعة وغيرهما: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، فبين أن كيفية استوائه مجهولة للعباد، فلم ينفوا ثبوت ذلك في نفس الأمر، ولكن نفوا علم الخلق به، وكذلك مثل هذا في كلام عبد العزير بن عبد الله بن الماجشون وغير واحد من السلف، والأئمة ينفون علم الخلق بقدره وكيفيته».اهـ
فأنت ترى اتفاق أبي سعيد الدارمي وأبي يعلى وابن تيمية على إثبات الحد والنهاية لذات الله تعالى، وأن لله تعالى حدًا في نفسه ولكن العباد لا يعرفون حقيقته ولا يعلمون قدره وكيفيته، بل لا يعلمه إلا الله، فهو ثابت لذات الله لكنّ العباد لا يحيطون علمًا بهذا الأمر الثابت، وأنّ استواء الله على العرش دليل على ثبوت هذا الحد.
وإذا قارنّا كلام هؤلاء بكلام المنزهة من الأئمة، كابن حبان والطحاوي والخطابي ونحوهم، وجدنا كلام أهل التنزيه قاطعًا في نفي الحدود والنهايات عن الله تعالى، وعبارة الإمام الطحاوي مشهورة في نفي الحد، حيث قال في «بيان أهل السنة والجماعة»:
«وتعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات».اهـ
وهذا نفيٌ لمطلق الحد والنهاية عن الله تعالى، وتنزيه لله تعالى عن الحدود في نفسه لا في علم العباد فقط، حيث نفى الإمام الطحاوي الحدّ عن الله تعالى بلا تقييد، بل نفى الحدود والغايات نفيًا مطلقًا، بعبارة محكمة واضحة ليس فيها إجمال وخفاء.
وبعد هذا العرض السريع لكلام أبي يعلى، وما يتضمنه من عبارات محكمة في إثبات ما سبق له نفيه، ثم تأييد هذا الإثبات بالأقيسة المعقولة، حيث أثبت الحد بناء على قياس عقلي، والقياس لا يكون إلا معقول المعنى لا مبنيًا على مجرد الألفاظ، ثم شروعه في الاحتجاج بالأدلة النقلية لإثبات الحد لله تعالى، واستعماله نفس استدلالات المجسمة القديمة، والاستشهاد الفاسد بكلام الإمام أحمد -رضي الله عنه- ، وتقييد الروايات الواردة عن الإمام ومحاولة الجمع بينها، والرد على المعتزلة والأشعرية وإلزامهم بالتناقض، يظهر لكل ذي عينين أنّ أبا يعلى أراد أن يثبت ويقيّد ما سبق له إطلاق نفيه من حقيقة الحد ومعناه، وأنّ كلامه المتأخر ناسخ لكلامه المتقدّم، بحيث يصح القول إنّ له قولين في مسألة الجهة والحد، أولهما إطلاق نفي الحد والجهة، وآخرهما تقييد هذا النفي بالجهات الخمس، وإثبات الحد في جهة التحت. وهو صريح في إثبات أن للباري تعالى امتدادًا في الأبعاد الثلاثة، فضلًا عن أنّ لها حدًا وجهة ينتهي إليهما مما يحاذي العرش من تحت. تعالى الله علوًا كبيرا.
ولذلك نجد غير واحد من علماء الحنابلة أثبتوا للقاضي قولين، وذكروا أنّ القول الأخير من أقواله هو إثبات الجهة والحد لله تعالى، وهذا ما سيتبين في المطلب الآتي.
[المطلب الخامس: علماء الحنابلة يقررون أنّ القول الثاني لأبي يعلى هو إثبات الحدّ والجهة]
تبيّن من كلام أبي يعلى المتقدّم أنّ له قولين في الحد والجهة، وأنّ القول الثاني منهما هو إثبات الحد والجهة. كما تبيّن أنّه أورد القولين جميعًا في كتاب «إبطال التأويلات»، وسأذكر في هذا المطلب تقرير بعض علماء الحنابلة لهذا الأمر، واعتمادهم إثبات الجهة والحد قولًا أخيرًا للقاضي، مع اختلافٍ بينهم في اعتقاد الحد والجهة، فبعضهم ينزّه الله تعالى عن ذلك، وبعضهم يثبته، لكنهم اتفقوا على أن قول القاضي الأخير هو إثبات الجهة والحد، ولم ينكر عليهم أئمة الحنابلة هذه الدعوى.
صنّف شيخ الحنابلة ابن حمدان (ت 695هـ) كتابه «نهاية المبتدئين في أصول الدين» تلخيصًا للعقائد السنيّة الحنبلية، على مذهب الإمام أحمد وأصحابه ومَن وافقهم، وكان من عادته في هذا الكتاب أن يبيّن الأقوال المتعددة للقاضي أبي يعلى وغيره، سواء وافقها أم خالفها.
ومن المسائل التي قرّر فيها تعدّد قول القاضي مسألةُ الجهة، فقد نقل أولًا قول أبي يعلى في نفي الجهة فقال (ص32):
«قال القاضي أبو يعلى: وقد وصفه النبي بالنزول إلى السماء الدنيا والعلو، لا على جهة الانتقال والحركة، كما جازت رؤيته لا في جهة، وتجلى للجبل لا على وجه الحركة والانتقال.
وقال: لا يثبت نزول عن علو وزوال، بل نزول لا يعقل معناه ورؤية لا في جهة».اهـ
ثم قال: «قال القاضي: ليس بقعود ولا مماسة».اهـ
أقول: هذان النصان موجودان في «مختصر المعتمد» المطبوع، مع اختلاف يسير جدًا، والنصّ الأول صريح في نفي الجهة عن الله تعالى، حيث قال أبو يعلى: «لا في جهة».
ثم قال ابن حمدان مقرّرًا تراجع أبي يعلى عن نفي الجهة، وأنّ آخر قولي القاضي هو إثبات الجهة، فقال (ص33):
«وآخر قولي القاضي أبي يعلى: إثبات الجهة…
…اختار ابن الجوزي نفي الجهة، وحكاه عن أحمد من رواية حنبل، وإليه ميل ابن عقيل، والقاضي أولًا».اهـ
وهذا نصٌّ صريح من شيخ الحنابلة في وقته، على أنّ لأبي يعلى قولين في الجهة، وأن القول الأخير هو إثبات الجهة، وأنّ نفي الجهة هو قوله الأول.
ولا يقولن قائل: لماذا أخفى ابن حمدان نصوص التنزيه التي ساقها أبو يعلى في المعتمد ومختصره وفي الرد على المجسمة، وفي إبطال التأويلات نفسه؟!
ولماذا افترى على القاضي ونسب له القول بإثبات الجهة في آخر قوليه؟
ولماذا تمسك بكلامه المشكل في آخر إبطال التأويلات وترك وبقية كلامه المحكم!
ولماذا كتم ابن حمدان كلام ابن أبي يعلى الذي نقله عن الوالد السعيد؛
لأنّ ابن حمدان قد نقل عن أبي يعلى نصوص التنزيه من المعتمد وغيره من كتبه المتقدمة، لكنّ كلام أبي يعلى الأخير نص محكم في التراجع، واستدلالاته تنفي أي احتمال لإرادة معنى آخر، وتزيل أي إشكال واشتباه، فليس كلامه مشكلًا ولا متشابهًا، بل هو ناسخ لما سبق بحيث يصدق قول ابن حمدان:
«وآخر قولي القاضي أبي يعلى إثبات الجهة».
مع ملاحظة أنّ جلّ النصوص التي نقلها ابن أبي يعلى عن والده السعيد مأخوذة من كتبه المتقدمة، كالمعتمد أو مختصره، أو رسالة الرد على المجسمة المطابقة لهما، وهي نفس الكتب التي نقل عنها ابن حمدان واعتبر ما فيها قولًا متقدمًا لأبي يعلى.
وإذا كان ابن حمدان ممن ينزه الله تعالى عن الحد والجهة، وقرّر أنّ القاضي رجع إلى إثبات الجهة في آخر قوليه، ولم تمنعه مكانة القاضي في المذهب من التصريح بما ثبت من أقوال القاضي مع مخالفته له، ولم يحاول أن يخفي تراجع أبي يعلى أو يتمحّل في حمل كلامه على غير ما يدلّ عليه دلالة محكمة، فما هو رأي مثبتة الحد والجهة من الحنابلة في نسبة التراجع لأبي يعلى؟
لا يخفى أنّ ابن تيمية من أكثر الحنابلة انتصارًا لإثبات الحد والجهة لله تعالى، وقد سوّد في ذلك صفحات كثيرة، وإذا تتبعنا أقواله في قضية الحد والجهة عند أبي يعلى، نجده يؤكّد نفس الدعوى التي قرّرها شيخ الحنابلة ابن حمدان، بل نقل نص أبي يعلى بطوله، وذكر قضية رجوع أبي يعلى في مواضع متعددة من كتبه، وسأنقل بعض هذه المواضع، وأعلق عليها تعليقًا يسيرًا.
الموضع الأول: قال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية (2/353):
«كما قال القاضي أبو يعلى حيث قال في قوله الآخر -أثبت الجهة بعد أن كان ينفيها- : (ولأن مَن نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية..إلخ)».اهـ
يرى ابن تيمية أنّ لأبي يعلى قولين في الجهة، وأنّه رجع عن القول الأول بنفي الجهة إلى القول الثاني بإثباتها، ونقل ابنُ تيمية كلام القاضي الصريح في تراجعه، وفهم منه أنّه قول ثان له.
وبناء على استقراء ابن تيمية لكلام إمام من أئمة مذهبه، وتصريحه بأنّ قوله الأخير هو إثبات الجهة، وتطابق استقراء ابن تيمية مع استقراء ابن حمدان، يبطل التمسك باحتمال وجود كتب متأخرة للقاضي لم نطّلع عليها، لعله نفى فيها الحد والجهة!
الموضع الثاني: قال في بيان تلبيسه (2/629):
«ومنهم من نفى الحد عن ذاته تعالى، ونفى علم العباد به، كما ظنه موجَب ما نقله حنبل، وتأول ما نقله المروذي والأثرم وأبو داود وغيرهم من إثبات الحد له على أن المراد إثبات حد للعرش.
ومنهم من قرر الأمر كما يدل عليه الكلامان، أو تأول نفي الحد بمعنى آخر.
والنفي هو طريقة القاضي أبي يعلى أولًا في المعتمد وغيره، فإنه كان ينفي الحد والجهة، وهو قوله الأول».اهـ
أقول: تأمل قول ابن تيمية إن نفي القاضي للجهة هو قوله الأول: «في المعتمد وغيره»، والذي يدل على أنّ جميع الكتب التي أطلق فيها القاضي نفي الجهة (المعتمد والرد على المجسمة وغيرها من كتب القاضي) تمثل قوله الأول، وأنّ إثبات الحد والجهة يمثل قوله الأخير.
ولهذا اقتصر ابن بدران الدشتي (ت 665هـ) على نقل القول الثاني لأبي يعلى، اعتبارًا منه بأنّ هذا القول هو الذي استقر عليه رأي القاضي، فقال في جزء «إثبات الحد لله تعالى وبأنه قاعد وجالس على عرشه» (ص111-112):
«ورأيت بخط القاضي أبي يعلى:
أخبرنا أبو بكر أحمد بن نصر الرفا، قال: سمعت أبا بكر بن أبي داود يقول: سمعت أبي يقول: جاء…( ) بن حنبل فقال له: لله تبارك وتعالى حد؟ قال: نعم. لا يعلمه إلا هو، قال الله تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر:75] يقول: محدقين.
فقد أطلق أحمدُ القول بإثبات الحد لله تعالى.
وقد نفاه في رواية حنبل وهو الذي يعلمه خلقه.
والموضع الذي أطلقه محمول على معنيين:
أحدهما: على معنى أنه تعالى في جهة مخصوصة، وليس هو تعالى ذاهب في الجهات الستة، بل هو خارج العالم، مُمَيَّزٌ عن خلقه، ينفصل عنهم، غير داخل في كل الجهات، وهو معنى قول أحمد: «له حدٌ لا يعلمه إلا هو».
والثاني: أنَّهُ على صفة يَبِين بها عن غيره، ويميز، ولهذا سمي البواب حداداً لأنه يمنع غيره من الدخول، فهو تعالى فرد واحد، يمتنع عن الاشتراك معه في أخص صفاته.
هذا ما وجدت في كتاب القاضي أبي يعلى بخط يده».اهـ كلام الدشتي
وهذا النص الذي نقله ابن بدران الدشتي عن القاضي بخطه، هو نفس النص الذي اعتمده ابن تيمية للقول بتراجع القاضي عن نفي الحد، ولا يخفى أنّ الدشتي لم تفته نصوص القاضي في نفي الحد والجهة، لكنه اعتبر هذا القول الأخير الذي استقر عليه رأي أبي يعلى، ولذلك ساغ أن ينقله عن القاضي دون قوله الآخر.
الموضع الثالث: قال في بيان التلبيس (3/14-19):
«والقاضي في هذا الكتاب [المعتمد] ينفي الجهة عن الله، كما قد صرح بذلك في غير موضع، كما ينفي أيضًا هو وأتباعه كأبي الحسن بن الزاغوني وغيره التحيز والجسم والتركيب والتأليف والتبعيض ونحو ذلك، ثم رجع عن نفي الجهة والحد، وقال بإثبات ذلك.
كما ذكر قوليه جميعًا فقال في كتاب «إبطال التأويلات لأخبار الصفات» لما تكلم على حديث الأوعال:
(فإذا ثبت أنه تعالى على العرش، فالعرش في جهة، وهو على عرشه، وقد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه، والصواب جواز القول بذلك)».اهـ
أقول: ها هو ابن تيمية يذكر أنّ أبا يعلى كان ينفي الجهة والحد ونحوها، ثم رجع عن نفي الجهة والحد وقال بإثبات ذلك.
ثم بيّن ابن تيمية أنّ القاضي ذكر قوليه جميعًا في إبطال التأويلات، وساق نص أبي يعلى الدالّ على القول الثاني وهو إثبات الجهة، وهذا يعني أنّ كلام القاضي الذي نقله ابن تيمية ليس مشكلًا بل هو نصٌّ محكم في التراجع، ناسخ لما قبله.
ثم قال ابن تيمية (3/21):
«قال: (واحتج ابن منده على إثبات الجهة بأنه لما نطق القرآن بأن الله تعالى على العرش، وأنه في السماء، وجاءت السنة بمثل ذلك، وبأن الجنة مسكنه، وأنه في ذلك، وهذه الأشياء أمكنة في أنفسها، فدل على أنه في مكان).
قلت: وهذا الكلام من القاضي وابن منده ونحوهما، يقتضي أن الجهة المثبتة أمر وجودي، ولهذا حكوا عن النفاة أنه ليس في جهة ولا خارجًا منها، وأنها غيره، وفي كلامه الذي سيأتي ما يقتضي أن الجهة والحد هي من الله تعالى، وهو ما حاذى لذات العرش، فهو الموصوف بأنه جهة وحد».اهـ
وهذا بيان لما يعتقد أبو يعلى في قوله الثاني، وهو أنّ ذات الله تعالى محدودة لها غاية ونهاية، وأنّ هذا الحد من جهة العرش، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
وقول ابن منده الذي استشهد به أبو يعلى وأقره: «وبأن الجنة مسكنه، وأنه في ذلك، وهذه الأشياء أمكنة في أنفسها، فدل على أنه في مكان»، يقضي على مواضع التنزيه التي بناها على نفي المكان، فإنه فوّض بعض المتشابهات بناء على أنها ليست من قبيل إثبات المكان، قال مثلًا (ص511):
« وأما تأويل قوله: (فِي ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ) عَلى تدبيرها فلا يصح، لأنَّهُ لَمْ يزل مدبرا لَها فِي دار الدنيا، فيجب أنْ يَكُونَ لهذا التخصيص بذلك اليوم فائدة، وقولهم لذا نحمل «فِي» بمعنى «عَلى»، فإنما يجب الامتناع من إطلاق ذلك إذا كان فِيهِ إثبات الظرف والمكان، ونحن لا نصفه بالظرفية والمكان».اهـ
الموضع الرابع: قال في منهاج السنة (2/321-322):
«للناس في إطلاق لفظ «الجهة» ثلاثة أقوال: فطائفة تنفيها، وطائفة تثبتها، وطائفة تفصل.
وهذا النزاع موجود في المثبتة للصفات من أصحاب الأئمة الأربعة وأمثالهم، ونزاع أهل الحديث والسنة الخاصة في نفى ذلك وإثباته نزاع لفظي، ليس هو نزاعًا معنويًا، ولهذا كان طائفة من أصحاب الإمام أحمد كالتميميين والقاضي أبي يعلى في أول قوليه تنفيها، وطائفة أخرى أكثر منهم تثبتها، وهو آخر قولَي القاضي».اهـ
أقول: ينص ابن تيمية على أنّ إثبات الجهة هو أول قولَي القاضي، وأن نفيها هو آخر قوليه.
الموضع الخامس: قال في بيان تلبيسه (8/153):
«وقد رجع هو [القاضي] إلى إثبات الحد، كما تقدم حكاية قوله».اهـ
وهذا نصٌ من ابن تيمية الحنبلي في تراجع أبي يعلى الحنبلي عن نفي الحد.
وقد قرر ابن تيمية تراجع أبي يعلى عما كتبه في المعتمد وغيره من نفي الجهة، وأنّ قوله الأخير هو إثبات الحد والجهة لله تعالى، في كثير من المواضع، انظر مثلًا بيان تلبيس الجهمية (1/46)، (3/729-730)، (3/735)، (4/495)، ودرء التعارض (6/207-208).
ولعل هذا هو السبب في قول رئيس الحنابلة أبي محمد رزق الله التميمي:
«لقد شان المذهب شينًا قبيحًا لا يغسل إلى يوم القيامة». اهـ من دفع شبه التشبيه لابن الجوزي (ص9)
أقول: لم يكن هؤلاء جميعًا متقوّلين على القاضي مفترين عليه، ولا كانوا جهلة غير مطلعين على كلام الرجل في نفي الحد والجهة، في المعتمد أو الرد على المجسمة أو غيرها من كتب القاضي، وليس كلامهم تقديمًا للمتشابه المشكل على التنزيه المحكم، ولم يتشبثوا بذيل نصين أو ثلاثة افتراء على الرجل وتدليسًا عليه، ولم ينسبوا للقاضي إثبات الحد والجهة كقولٍ أخيرٍ مع عدم اطلاعهم على ما نقله ابنه في طبقاته، بل اطلعوا على نصوص القاضي في التنزيه، وحكموا بناء على استقراء لكتب الرجل، واطلعوا على ما نقله ابنه في طبقاته، لكنّ ذلك لم يمنعهم من القول بأنّ القاضي أثبت الجهة والحد بعد نفيهما، وإليك الكلام على ما نقله ابن أبي يعلى عن أبيه.
[المطلب السادس: ابن أبي يعلى ينقل كلام والده المتقدّم في نفي الحد والجهة]
تبيّن مما تقدّم أنّ كلام أبي يعلى في إثبات الحد والجهة بعد نفيهما كلام محكم صريح، وأنّ استدلالاته على هذا الإثبات تزيل كلّ إشكال واشتباه، وتؤكّد مراده بما لا يدع مجالًا للشك، ولذلك وجدنا غير واحد من علماء الحنابلة الكبار ينصّ على أنّ إثبات الجهة والحد هو آخر أقوال أبي يعلى، أي أنّ جميع الكتب التي نفى فيها الحدّ، كالمعتمد والرد على المجسمة وغيرها، تمثل قوله الأول.
ولا يخفى أنّ مآخذ العلماء على «إبطال التأويلات» لأبي يعلى كثيرة عديدة، أهمها ثلاثة مآخذ:
المأخذ الأول: إثباته الحد والجهة لله تعالى بعد نفيهما، وقوله إن الله تعالى محدود من الجهة المقابلة للعرش، ومارٌّ في اليمنة واليسرة والفوق والأمام والخلف إلى غير غاية، وهذا تجسيم صريح واعتقاد قبيح.
والمأخذ الثاني: سلوكه طريقة عجيبة في التفويض، تقتضي إثبات التشبيه ثم نفي لوازمه، فتراه ينقل تفسير المقام المحمود بقول القائل: «يجلسه معه على سريره»، ويؤكّد هذا بقوله: «وأنه يجلسه معه على عرشه وسريره، بمعنى يدنيه من ذاته ويقرّبه منها!».
فلم يكتف هنا بإثبات جلوس النبي «مع الله» على عرشه، بل ذكر ما يقطع بإرادة المعنى الحسي للجلوس، وهو قوله: «بمعنى يدنيه من ذاته ويقرّبه منها».
ثم يسوق أخبارًا في القرب الذاتي الحقيقي، وأنّه كان بين رسول الله ﷺ وبين الباري تعالى مقدار قوسين، وينقل أخبارًا عديدة في جلوسه ﷺ مع الله تعالى على العرش، ويطرح سؤالًا عن تفسير المقام المحمود بمقام الشفاعة، فيقول (ص527):
«فإن قِيلَ: فقد رَوَى أَنَّهُ لما نزل قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قالوا: يَا رَسُول اللَّهِ، وما المقام المحمود؟ قَالَ: «هُوَ الشفاعة».
قيل: الرواية المشهور فِي تفسير هَذَا أَنَّهُ الجلوس عَلَى العرش، رَوَاهُ ابن عمر وابن عباس وابن مسعود وعائشة، وقد تقدم أسانيد هَذِهِ الأحاديث، والمشهور فِي الرواية أولى مما شذ منها، وعلى أَنَّهُ لا يمتنع أَنْ يَكُونَ المقام المحمود: الشفاعة والقعود عَلَى العرش».اهـ
ثم يكرّ بالنقد على مَن فسّر الإقعاد على معنى رفع النبي أرفع المقاعد عند الله تعالى، فقال (ص528):
«هَذَا غلط لوجوه:
أحدها: أن الخبر أفاد رفعه عَلَى صفة وَهُوَ القعود عَلَى العرش والكرسي.
الثاني: أَنَّهُ قَالَ: «يقعده معه» ولفظة «مع» فِي اللغة للمقاربة..إلخ».اهـ
ويقول: «وكل ذلك يدل على القرب من الذات».
وإذا تحدّث عن الاستواء يقرر أن مَن زعم أن الاستواء على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي، وينقل تفسير الاستواء بالقعود والجلوس والاستقرار.
ولا يخفى من خلال ما سبق أنّ هذا القرب هو القرب الحسي، وأنّ الجلوس مع الله تعالى الذي يستلزم القرب من ذاته سبحانه هو جلوس حسي، لكنه بعد كلّ ذلك ينفي بعض لوازم هذا القول الشنيع، ويقول: «لكن لا على وجه الاتصال والمماسة!».
ويقول: «كذلك جاز أن يقرب من ذاته لا في جهة محدودة!».
وهل إثبات الجلوس والدنو من الذات والقرب لا على وجه الاتصال والمماسة، هو مما وقر في قلوب العامة؟!
أقول: لو أنّ أبا يعلى أثبت الاستواء وفوّض معناه ابتداء، دون أن يثبت أنّ الاستواء جلوسٌ وقعود، ودون أن يصرّح بقعود رسول الله ﷺ مع الله تعالى على العرش، ودون أن يستدل على قرب رسول الله ﷺ من ذات الله تعالى بجلوسه على العرش، ويفسر «مع» الواردة في تلك الأخبار بأنها تفيد المقاربة، ودون أن يثبت ثقلًا للعرش يحصل بذات الرحمن، لو أنه فوّض دون الخوض في هذه العجائب لما توجه إليه نقدٌ من الأشاعرة ولا الحنابلة.
وهذه الطريقة العجيبة من التفويض لم يقبلها مفوضة أهل السنة، ورفضها كثير من العلماء، وبسببها شنّ ابن الجوزي حملته لبيان تهافتها، ومع أنه نقل عن «المعتمد» بعض نصوص التنزيه أيضًا، إلا أنه سلط سهامه على طريقة التفويض التي سلكها أبو يعلى، فقال مثلًا في «دفع شبه التشبيه» (ص44):
«قال القاضي: «نحمله على ظاهره؛ لأننا لا نثبت قدمًا ولا فخذًا هو جارحة».
واعجبًا! لقد كملوا هيئة البدن باثبات فخذ، وساق، وقدم، ووجه، ويدين، وأصابع، وخنصر، وإبهام، وصعود ونزول، ويقولون: تحمل على ظاهرها وليست جوارح!
وهل يجوز لعاقل أن يثبت لله تعالى خلفًا وأمامًا وفخذًا!
ما ينبغي أن يحدث هؤلاء؛ لأنّا قد عرفنا الفخذ، فيقال: ليس بفخذ، والخلف ليس بخلف، ومثل هؤلاء لا يحدثون، فإنهم يكابرون العقول، وكأنهم يحدثون الأطفال».اهـ
وقد تكلم الإمام تقي الدين الحصني عن الطريقة التي سلكها أبو يعلى، ونقدها نقدًا صارمًا في كتابه «دفع شبه التشبيه» (ص27-28)، وليس هذا جهلًا منه بنصوص القاضي في التنزيه، فقد نقل عن «المعتمد» بعض كلامه في التنزيه (ص20).
والمأخذ الثالث: بناء العقائد على الموضوعات والضعاف والمناكير التي لا يصح الاستدلال بها في أبواب الطهارة والاستنجاء، فضلًا عن المسائل الفقهية الكبرى.
قال الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام (30/462):
«لم يكُن للقاضي أبي يَعْلَى خِبرَةٌ بعلل الحديث ولا برجاله، فاحتجّ بأحاديث كثيرة واهية في الأصول والفروع لعدم بصره بالأسانيد والرجال».اهـ
قال الشيخ الكوثري في تحقيقه لدفع شبه التشبيه (ص34):
«وهذا مروي من طريق حماد بن سلمة وكان ابن أبي العوجاء الزنديق ربيب حماد يدس في كتبه هذه الأحاديث، على أن هذا كان مناماً والمنام خيال. ومثل هذه الأحاديث لا ثبوت لها، ولا يحسن أن يحتج بها.
وقد أثبت بها القاضي أبو يعلى لله تعالى صفات فقال: قوله: شاب، وأمرد، وجعد، وقطط، والفراش والنعلان والتاج.
قال: ثبت ذلك تسمية لا يعقل معناها، وليس في إثباتها أكثر من تقريب المحدث من القديم، وذلك جائز، كما روي «يدني عبده إليه» يعني يقرّبه إلى ذاته.
قلت: ومن يثبت بالمنام وبما لا يصح نقله صفات؟! وقد عرفنا معنى الشاب والأمرد، ثم يقول: ما هو كما نعلم!، كمن يقول: قام فلان وما هو قائم!».اهـ
أقول: هذه أشهر الانتقادات الموجهة إلى كتاب أبي يعلى، لكنّ العجب أن يترجم له ابنه ترجمة حافلة، ويعرّج على فتنة «إبطال التأويلات»، ويذكر بعض التفاصيل التي تنزّه ساحة والده، وتظهره مظهر المصيب المنتصر على المخالفين، دون أن يَمس والدَه ولو بنوع من أنواع النقد الناعم، ودون أن يتطرق إلى شيء من الانتقادات السابقة على كتاب والده، والتي صرّح بها الحنابلة وغير الحنابلة.
ولما كان حريصًا على تبييض صحيفة والده بإغفال هذه المؤاخذات والانتقادات، كان من الطبيعي ألا ينقل عنه ما يدينه، وأن يدفع عنه ما اتهم به وانتقد عليه، فتراه ينقل عن والده نصوصًا في التنزيه من كتبه المتقدمة، كالمعتمد أو الرد على المجسمة ونحوها.
وجميع ما نقله عن والده من التنزيهات مأخوذ من المعتمد أو مختصره ونحوها من الرسائل التي تطابقها في المعنى أو حتى في اللفظ، ومن الأمثلة على ذلك قوله في «طبقات الحنابلة» (2/181):
«قَالَ الوالد السعيد:
فمن اعتقد أن اللَّه سبحانه جسم من الأجسام وأعطاه حقيقة الجسم من التأليف والانتقال: فهو كافر؛ لأنه غير عارف بالله عز وجل، لأن اللَّه سبحانه يستحيل وصفه بهذه الصفات، وَإِذَا لم يعرف اللَّه سبحانه وجب أن يكون كافرًا».اهـ
أقول: ولعل هذا أقوى نصّ يمكن أن يُعتمد عليه في الرد على دعوى ابن حمدان وابن تيمية، وغيرهما ممن أثبت تراجع أبي يعلى عن نفي الحد والجهة، وللبعض أن يرى هذا حجة قاطعة لافتراءات هؤلاء القائلين بتراجع أبي يعلى عن نفي الحد والجهة، فها هو ابنه ينقل عنه تنزيه الله تعالى عن الجسمية، فلا بد إذاً أن يكون هذا هو اعتقاده الأخير!
فيقال له: إنّ ابن حمدان وابن تيمية وغيرهما لم يخفَ عليهم كلام ابن أبي يعلى، ولا فاتهم أنّ أبا يعلى صنّف كتابًا في «الرد على المجسمة»، ولا كتموا نصوص القاضي في التنزيه، ولم يدّعوا أنّ الرجل تراجع عن كل مسائل «إبطال التأويلات»، بل إن ما ادّعوه هو أنّ كلام أبي يعلى محكم في إثبات الجهة والحد، ونصٌ في إثبات ما نفاه سابقًا، واستدلالاته قاطعة في التراجع عما أثبته، فكيف إذا نصّ بعبارات جلية قطعية الدلالة على إثبات ما سبق له نفيه؟!
فلا يصح حينئذ الاعتراض على هؤلاء وغيرهم، واتهامهم بترك عشرات النصوص المحكمة والتشبث بذيل نصّين أو ثلاثة، وكأنّ المسألة تقاس بعدد النصوص لا بدلالتها ومعرفة ناسخها ومنسوخها! فلو أنّ كافرًا أقام على الكفر طوال عمره ينشره وينصره، ثم أعلن عن إيمانه مرة واحدة لكفت في الحكم عليه بالإيمان والتراجع عن الكفر، ولو أنّ إنسانًا صرّح بعقيدة ألف ألف مرة، ثم أعلن تراجعه عنها مرة واحدة لكفى في نسبة التراجع إليه، فكيف إذا شرع في الاستدلال على تلك العقيدة بشتى أنواع الأدلة؟! ونسبها إلى السلف الصالح والأئمة؟
وعودًا على ما نقله ابن أبي يعلى عن والده السعيد، نجد نص التنزيه السابق -وغيره- موجودًا في «مختصر المعتمد» أيضًا، وقد تبيّن أنّ المعتمد متقدّم على إبطال التأويلات، بل صرّح ابن تيمية بأنّ الكتب التي نفى فيها القاضي الحدَّ والجهة تمثل رأيه الأول، وهذا الحكم يشمل كتاب «المعتمد» «ومختصره» و«الرد على المجسمة» وغيرها من الكتب التي تتضمن نفي الحد والجهة، وسأسوق النص السابق من «مختصر المعتمد» كما هو، قال في مختصر المعتمد المطبوع باسم «المعتمد» (ص271، ط المشرق):
«فيمن يعتقد أن الله تعالى جسم من الأجسام، ويعطيه حقيقة الجسم من التأليف والانتقال من مكان إلى مكان، فهو كافر، لأنه غير عارف بالله تعالى، لأن الله تعالى يستحيل وصفه بهذه الصفات، فإذا لم يعرف الله تعالى وجب أن يكون كافرًا».اهـ
أقول: مَن قارن بين ما نقله ابن أبي يعلى عن والده وبين نصّ «مختصر المعتمد»، لا يشك في تطابقهما، فلا يصح التعويل على ما نقله ابن أبي يعلى عن الكتب التي بث فيها القاضي قوله الأول، مع تجاهل ابن أبي يعلى لمواضع الإشكال في كلام والده السعيد، بل وإغفال مواطن المؤاخذة والنقد على كتاب والده!
وبهذا يتبين أن ابن أبي يعلى ينقل عن والده ما يبرئه من كلامه المتقدم، دون التطرّق إلى مواطن الإشكال والمؤاخذات، وهذا يهدم ما قد يتوهمه البعض افتراء من العلماء الذين نصّوا على تراجع أبي يعلى عن نفي الجهة، وكتماناً لنصوصه المحكمة في التنزيه، وتشبثاً بأذيال بعض النصوص في مقابلة عشرات نصوصه الأخرى في التنزيه، وتجاهلاً لما نقله ابن أبي يعلى عن والده.
وهكذا يظهر أنّ الدعوى التي قرّرها الشيخ سعيد فودة دعوى صحيحة، مبنية على كلام محكم صريح للقاضي، أيّده وأكّده القاضي نفسه باستدلالات عقلية ونقلية قطعية الدلالة على مقصوده، وقد ادّعى نفس تلك الدعوى ابن حمدان وابن تيمية وغيرهما، فدعوى الشيخ سعيد مبناها على اطلاعه على تنزيه أبي يعلى ونقله نصوصه التفصيلية في التنزيه، لا على عدم اطلاعه أو كتمانه، فكيف يقال إنه لم يطلع على تلك النصوص، أو اطلع عليها ولم يظهرها؟!
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آلله وصحبه وسلم
والحمد لله ربّ العالمين
رابط المقال على التليجرام بصيغة pdf:
https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=4478413552251088&id=100002474625600