أمثلة على مسائل فقهية خالف السلفية فيها السلف بحجة أن قول السلف مخالف للنصوص
المثال العاشر: الحج قبل الميقات المكاني؛ فقد أجاز كثير من الصحابة والتابعين وأتباعهم وهو رواية عن مالك([1])، وهو مذهب الشافعي([2]): الإحرام قبل الميقات المكاني، بل حكى البغوي الإجماع على ذلك([3])، بل ذهب بعضهم إلى أن الأفضل أن يُحرِم الرجل من بلده وقد فعله كثير من الصحابة والتابعين، قال ابن عبد البر: أحرم ابن عمر وابن عباس من الشام، وأحرم عمران بن حصين من البصرة، وأحرم عبدالله بن مسعود من القادسية، وكان الأسود وعلقمة وعبد الرحمن بن يزيد وأبو إسحاق يحرمون من بيوتهم”([4]). بل فسر سيدنا علي بن أبي طالب قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: ١٩٦] فقال: أن يحرم بهما من دويرة أهله»([5])؛ وهو أحد قولي الشافعي بل إنه أنكر على من كره الاحرام قبل الميقات([6]). وعلى الرغم من ذلك فقد ذهب الألباني([7]) إلى أن إحرام الرجل من دويرة أهله: بدعة ومخالفة لحديث المواقيت([8])، واستدل الألباني بما ذكره الشاطبي عن مالك من إنكار ذلك([9])، فترك الألبانيُّ ما جاء بالسند الصحيح عن علي من جواز ذلك، وأخذ بما روي عن مالك من غير سند أصلا؛ بل المروي عن مالك جوازه وفي رواية كراهته([10]). فتأمل!
وأخذ الألباني بفهمه لحديث المواقيت وترك فهم السلف له، جاء في التمهيد: قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والحسن بن حي المواقيت رخصة وتوسعة، يتمتع المرء بحله حتى يبلغها ولا يتجاوزها والإحرام قبلها فيه فضل لمن فعله وقوي عليه ومن أحرم من منزله فهو حسن لا بأس به([11]). فلا أخذ الألباني بمذاهب الصحابة والتابعين ولا بفهمهم للنصوص، ويا ليته اكتفى بذلك، بل ادعى أن ذلك بدعة وخلاف السنة. فأين هذا هو الاتباع للسلف؟!
وحاصل هذه الأمثلة، أن أئمة السلفية اتهموا فيها السلف بمخالفة النصوص، وهذا يتنافى مع دعوتهم إلى اتباعهم.
([1]) مواهب الجليل (4/28)
([2]) المجموع 7/205.
([3]) شرح السنة (7/41)، للإمام الحسين بن مسعود البغوي، بتحقيق شعيب الأرناؤوط، المكتب الإسلامي في بيروت، ط2/ 1983م.
([4]) التمهيد لابن عبد البر (15/145)
([5]) قال ابن الملقن في البدر المنير (6/103): وهذا أثر صحيح، رواه الحاكم في كتاب التفسير من «مستدركه».
([6]) المجموع 7/206.
([7]) سلسلة الأحاديث الضعيفة (1/377)
([8]) وهو ما رواه البخاري (1452) ومسلم (1181) عن ابن عباس قال: “إن النبي r وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشأم الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة”
([9]) ونصه عن: سفيان بن عيينة قال: سمعت مالك ابن أنس وأتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله من أين أحرم ؟ قال: من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله ’، فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر، قال: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة، فقال وأي فتنة في هذه ؟ إنما هي أميال أزيدها ! قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله ’ ؟ ! إني سمعت الله يقول ! فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور: ٦٣]! كذا ذكره الألباني من غير سند إلى سفيان، وإنما اكتفى بعزوه إلى إلى ذم الكلام للهروي، والشاطبي في الاعتصام في (1/167) عن القاضي عياض عن سفيان به، وهذا السند منقطع، إذ بين القاضي عياض وسفيان مئات السنين، وأما الهروى ففي ذم الكلام، ط/الغرباء الأثرية، لم أجده أصلا، وفي ذم الكلام وأهله (3/115) ط/الشبل، موجود معلقا، نعم أخرج الخطيب في “الفقيه والمتفقه” (1/379)، ط/ابن الجوزي، وأبو نعيم في الحلية، انظر: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (6/326)، للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (ت: 430هـ)، دار الكتب العلمية، ط1/1988. والبيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى 1/215، تحقيق محمد ضياء الرحمن الأعظمي، أضواء السلف، ط2/1420هـ؛ بالسند المتصل: أن رجلا جاء إلى مالك فسأله عن مسألة، فقال له: قال رسول الله rكذا وكذا، فقال الرجل: أرأيت ؟ فقال مالك (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم). وهذا اللفظ ليس فيه شاهد على المسألة التي معنا، فعُلم من ذلك أن عزو ما في الشاطبي إلى الخطيب وأبي نعيم والبيهقي، كما فعل علي الحلبي في كتابه “علم اصول البدعص72″، دار الراية للنشر والتوزيع، ط1/1992م. لا يخلو من تدليس كما هو ظاهر، على أن أسانيد الخطيب وغيره لهذه الأثر لا تخلو من مقال كما ذكره محقق كتاب الفقيه والمتفقه ومحقق المدخل وغيرهما.
([10]) مواهب الجليل (4/28).
([11]) التمهيد لابن عبد البر (15/144)