تراجم معاصرين

نعي لعمنا الحاج “أبو علي الزير” وشيء من أخباره

كان من لطفه هو من يتصل بي بين الفينة والأخرى ونتجاذب أطراف الحديث ويطول بنا المقام دون ملل أو سآمة .. وقد كنت أخّرت نعيه رحمه الله لعلي أروي لكم شيئا من أطراف تلك الأحاديث الشيقة بيني وبينه بيد أن الوقت حتى الآن لم يسعفني لأعصر ذهني وذاكرتي لكتابة ذلك ولعلي أفعله وأنشره لاحقا إن شاء الله .

ولكن حسبي الآن أن أذكر أن عمي أبا علي الزير كان من وجهاء مدينة إدلب وأثريائها ومن الساعين بين الإصلاح بين الناس وحدث ولا حرج عن شهامته وحكمته وحسن خلقه وتدينه وكرمه حيث كان يقيم الولائم ومأدبات الطعام في المناسبات ومرة كنت ـ على ما أذكر ـ في مسجد أبي ذر في ليلة القدر فقال الإمام: أنتم مدعوون لطعام السحور في المسجد الذي يقدمه لكم أبو علي الزير ـ رحمه الله ـ

هذا فضلا عن شجاعته التي لا أدل عليها من كونه هو كان من يقود المظاهرات السلمية في المدينة ضد النظام الأسدي، وهذا رأيته بأم عيني وكان يوجّه المتظاهرين إلى التزام السلمية في مظاهراتهم ويقوم بتنظيمها وعدم استفزاز النظام .. وقد نجح في ذلك إلى حد كبير .. وكان أصلا موقفه الدعم للثورة بحد ذاته مميزا وذلك لكبر سنه حيث كان الذي يُروَّج أن هذه ثورة شباب طائشة وكان أمثاله من كبار السن غالبا ما يتريثون في دعم الثورة خشية العواقب الوخيمة لا حبا في النظام.

وهو أصلا ممن كان يقوم بالإشراف على المظاهرات كما قلنا خشية تفلتها وخروجها إلى ما لا يحمد عقباه ولذلك كان هو من يذهب بنفسه إلى المسؤولين والضباط الكبار في النظام السوري ويقود هو وبعض الوجهاء المفاوضات باسم الثوار وأهالي المدينة ويقدم مطالبهم ومطالب الشعب السوري عامة لهم حتى أنه ذهب إلى دمشق مع وفد من الأهالي لمقابلة الرئيس الأسد نفسه كما حدثني بذلك.

ولكن النظام كالعادة كان متعنتا يراوغ دائما وينكر الثورة وينكر الظلم الذي يرتكبه ثم يعد بوعود خلبية مقام التهدئة، ولما رأى عمي هذه المراوغة من النظام الذي كان يطالبه ـ أي يطالب النظامُ العمَ أبا علي ـ بتهدئة الثوار، اعتذر وقال للنظام: أنا لا أستطيع تهدئتهم مقابل لا شيء منكم .. وأنتم لا تستطيعون أن تغطوا الشمس بغربال!!! كما حدثني رحمه الله.

كما ان عمي قاد حملة المساعدات الذي قدمتها مدينة إدلب إلى مدينة حمص المنكوبة عام 2012 وذهب بنفسه إليهم بها على الرغم من خطورة الطريق والموقف ووحشية النظام.

ثم سجن النظامُ ابنَه أنس بتهمة التظاهر ثم أفرجوا عنه سريعا بجاه أبيه خشية من أن تثير هذه الحادثة الناس أكثر، ثم إن الوضع تأزم ودخل جيش النظام إلى إدلب في 2014 على ما أذكر وصار يلاحق الثوار ويسجنهم ويقتلهم ويصادر بيوتهم أو يخربها ويحرقها وكان بيت العم أبي علي من ضمن تلك البيوت التي حرقها النظام، ولكن كان عمي قد خرج من بيته مع أسرته سالمين بحمد الله .

ثم شكّل ابنُه أنس فصيلا من فصائل الجيش الحر وقاتل النظام حتى استشهد في ظرف غامض رحمه الله، ثم انتقل عمي إلى الإقامة في #تركيا، وكان يحافظ صلاة الجماعة في المساجد حتى أنه في تركيا صار ملازما للمسجد حيث يخرج منه قبيل الظهر ويعود في المساء غالبا على ما أخبرني، حتى إنه يترك هاتفه في البيت ويذهب إلى المسجد ولذلك حينما كنت أتصل به لا أتمكن من الكلام معه غالبا، وكان يزور #إدلب في الأعياد غالبا وقد زارها في عيد الأضحى الأخير ثم أصيب هناك بفيروس كورونا فتوفي على أثر ذلك رحمه الله.

وكان رحمه الله خبيرا بأنساب أهالي مدينة إدلب فضلا عن معرفته بتاريخ هذه المدينة وأمثالها الشعبية وحوادثها ومعرفة حتى أزقتها كل على حدة، يحدثك الساعات الطوال عن ذلك دون أن تمل حديثه لما يتخلله من فكاهة ودعابة فلا تدري هل سعدتَ من معرفتك منه بهذه الأحداث الشيقة أم من دعابته ودماثة خلقه … ؟!!

وقد سألته مرة عن نسب عائلتنا وآلنا ” آل الزير” ليحدثني عن نسبي أنا وأجدادي ـ حيث كنت لا أعرف منه إلا القليل ـ فأرجعني إلى حوالي مئتي سنة إلى الخلف عندما هاجر جدي الأكبر إلى مدينة إدلب.. فأفاض في الحديث عن ذلك جدا .. وانتهت المكالمة ولم ينته حديثه في ذلك وقد كنت قد كتبت بعض ما ذكر لي عن نسبي وعن أجدادي ـ وليتني سجلت تلك المكالمة ـ وكنت أنوي أن أتم معه الكلام حول ذلك ولكن للأسف ها هو في ديار الحق الآن رحمه الله .

وكان يزورني في بيتي في إدلب وأنا زرته أيضا في بيته .. ودعوته إلى حفل زفافي في دمشق فحضر رحمه الله.

وأنا في الواقع نادم كيف أني لم أستكثر من الحديث معه رحمه الله فهو أشبه بموسوعة شعبية تراثية فضلا عن خبرته الطويلة مع الحياة … فقد قالوا: أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة .. ولكن قل مع العم أبي علي وأمثاله: هو أعلم منك بسنين.

وكان الناس يستشيرونه في أمورهم ومشاكلهم بل كان هو من يبادر أحيانا لطرح مشورته ونصائحه إذا رأى أن المقام يحتاج ذلك ، وأذكر هنا ما حدثني بالأمس أخي مصطفى كيف أن عمّنا الحاج أبا علي أشار عليه حين اشترى دكانا ولكن على طريقة العرف الجاري في إدلب وهو “الفروغية” ، وهو ما يعبر عنه في الفقه بالخلو، أي أن تدفع مبلغا لمستأجر الدكان ـ أو الدار ـ ليفرغه أو يخليه لك مقام أن تضع يدك عليه وتتصرف فيه كالمالك، دون الرجوع إلى المالك الأصلي كما في القانون، فأشار عليه عمي بأن هذا لا يجوز ـ وهو كذلك عند جمهور الفقهاء خلافا للمالكية كما بسطته في رسالتي للدكتوراه ـ وأنه قانون جائر وأنه ينبغي أن ترجع إلى المالك الأصلي حتى تستسمحه من باب الحلال والحرام، فتدفع له ما يرضيه بالإضافة إلى دفع مبلغ الفروغية، فأخذ بنصيحته التي كانت نصيحة ذهبية إذ إن الأمر تغير بعد ذلك في مدينة إدلب بعد دخول الثوار إليها في 2016 حيث رأت اللجنة الشرعية إعادة العقارات المستأجرة إلى أصحابها وملّاكها وإبطال نظام الفروغية الجائر كما سبق، فسلم دكان أخي له لأنه اشتراه من المالك والمستأجر معا كما سبق.

فرحم الله عمنا أبا علي الحاج عبد الحميد بن علي الزير ورفع مقامه وجعله في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا … وإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وربما نعود إلى الحديث عنه ثانية كما وعدت وهو في الواقع يذكرني بالحاج أبي يوسف ارحابي رحمه الله فهو أيضا من وجهاء مدينة إدلب وأكارمهم وأفاضلهم وكان أيضا موسوعة تراثية نادرة… والحقيقة أن هؤلاء قلة قليلة في هذا الزمان البائس.. وحري بالمرء أن يغتنم وجودهم ويستفيد منهم إن ظفر باللقاء بأمثالهم .

السابق
والنظر إليه (أي إلى الجسد أو العورة من خلال مرآة ونحوها) قد أباحه الفقهاء من الشافعية والحنفية والحنابلة وإن اعتمدوا تحريم النظر إلى العورة الحقيقية (منقول.. مع التعقيب عليه)
التالي
[الحقيقة 4: الّذين ذكروا تراجُعَ أبي يعلى عن التنزيه] (منقول)