قوله: “إن الفقيه إذا لم يكن له معرفة بمصطلح ألفاظ القوم فهو كالخبز الحاف من غير إدام”
‘‘‘‘‘كما أنه كان مكبًّا على مطالعة علوم الصوفية، ويحب طريقهم، يلازم مجالس ذكرهم منذ شبابه (1)، ويقول لتلميذه الشعرانى (2): ((وكان وقتى رايقا من الكدورات النفسانية لقلة علائقى فى الدنيا، فكان ظاهرى – بحمد الله – محفوظا من الأعمال الرديئة، وكنت قليل اللهو واللعب، قليل الذهاب إلى مواضع التنزهات، وما سكنت قط يوما على بحر النيل والخليج … ))، فكان منذ شبابه حريصا على العلم والعمل، فنبغ فيهما، وحرص على سلامة جسمه فيقول (3): ((وكنت أعوم كل سنة مرة خوفا أن ينفك إدمانى من العوم، فإنه كمال فى الرجل والمرأة)). كما حرص على تحرى الحلال، فلا يأكل إلا من من خبز خانقاه سعيد السعداء، ويقول (4): ((إنما خصصتها بالأكل من خبزها لكون صاحبها كان رجلا صالحا، وذكر أنه عمرها بإشارة النبى – صلى الله عليه وسلم -))، فلا ريب أن ساهمت هذه العوامل فى نبوغه العلمى، وكسا هذا النبوغ ثناء ووقارا: أنه اتصف بـ ((التواضع وحسن العشرة والأدب والعفة والانجماع عن بنى الدنيا، مع التقلل وشرف النفس، ومزيد العقل وسعة الباطن، والاحتمال والمداراة)) (5)، فتوفرت فيه مقومات العلماء، وكان كشجرة طيبة غرسها أساتذته، وتعهدوها بالعلم والعمل، فأثمرت كل الثمرات، فأذن له غير واحد من شيوخه فى الإفتاء والإقراء، فأذن له شيخه (ابن حجر) فى إقراء شرح النخبة وغيرها، وتصدى للتدريس فى حياة غير واحد من شيوخه (6).
__________
(1) راجع: ذيل طبقات الشعرانى (ق) 13، الكواكب السائرة 1/ 198.
(2) ذيل طبقات الشعرانى (ق) 13.
(3) السابق نفسه (ق) 13.
(4) السابق نفسه (ق) 12، وانظر: الطبقات الكبرى للشعرانى ص 434.
(5) الذيل على رفع الإصر 144 – 145، الضوء اللامع 3/ 236، وانظر: نظم العقيان ص 113.
(6) الذيل على رفع الإصر ص 145، الضوء اللامع 3/ 236.
***********************
وسبقت الإشارة إلى حبه طريق الصوفية، وفى ذلك يقول الإمام الشعرانى (1): ((وأخبرنى أنه من حين كان شابا وهو يحب طريقة الصوفية، ويحضر مجالس ذكرهم، حتى كان الأقران يقولون: زكريا لا يجئ منه شىء فى طريق الفقهاء، لكونى كنت مكبًّا على مطالعة رسائل القوم، مواظبا على مجالس الذكر، بحيث كان يذهب غالب الوقت فى ذلك. وأخبرنى أنه سافر من مصر إلى سيدى محمد الغمرى بالمحلة الكبرى، وتلقن عليه الذكر، وأقام عنده أربعين يوما، وقرأ عليه كتاب قواعد الصوفية له كاملا)) (2)، كما لبس الشيخ زكريا الخرقة الصوفية (3)، وتلقن الذكر عن عدة مشايخ وأذنوا له بالتلقين والإلباس (4)، فسلك طريق القوم، وكان له ذوق فى فهم كلامهم، وكان يشرح كلامهم (5) ((على أتم حال، ويجيب عنه الأجوبة الحسنة إذا أشكل على الناس من كلامهم، وكان – رضى الله عنه – يقول: إن الفقيه إذا لم يكن له معرفة بمصطلح ألفاظ القوم فهو كالخبز الحاف من غير إدام)) (6).
__________
(1) ذيل طبقات الشعرانى (ق) 13.
(2) السابق نفسه (ق) 13، والكواكب الدرية 4/ 187 – 188 – كما سافر الشيخ زكريا إلى خانكة سرياقوس: للشيخ: عمر النبتيتى. انظر: تحفة الأحباب ص 47.
(3) مقدمة فى مشايخ شيخ الإسلام (ق) 2، الكواكب السائرة 1/ 198 – وقد حقق العلامة/ محمد بن علان الصديقى أن للبس الخرقة أصلا فى السنة، وذلك فى كتابه: الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية 1/ 308 – 310 دار الفكر بيروت 1398هـ – 1978م.
(4) انظر: فهرس مرويات شيخ الإسلام (ق) 19 – 20.(5) راجع: الكواكب السائرة 1/ 204 – 205.(6) ذيل طبقات الشعرانى (ق) 12.
******************************
ومما يدل على تعمقه فى طريق الصوفية: قول تلميذه (ابن حجر الهيتمى) (1) إن شيخه زكريا قد ((رضع من لبان معارفهم، ودخل تحت لواء إشارتهم، وتزيا معهم حتى اجتلى وتوقَّد وتفرد، وانكشفت له حقائق ومعارف … )). كما أن شرحه للرسالة القشيرية، والذى هو أشهر شروحها لقى قبولا واستحسانا لدى العلماء، ومطالعة شرحه على رسالة الولى رسلان (كلك شرك خفى) على صغر حجمها تدل على بلوغه درجة سامية فى طريق الصوفية. ويظهر شدة حبه لطريقهم وإخلاصه فى الدفاع عن التصوف والصوفية من موقفه من فتنة أثيرت سنة (875هـ) (2) ضد (ابن الفارض) (3) حينما تعصب عليه البعض، وعلى رأسهم (البقاعى) (4)
__________
(1) الفتاوى الحديثية: لابن حجر الهيتمى ص 37 نشر: دار الفكر بدون.
(2) راجع: قايتباى المحمودى: للأستاذ عبد الرحمن محمودعبد التواب ص 42 وما بعدها – نشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب 1978م.
(3) ابن الفارض (576 – 632هـ) (1181 – 1235م).هو: عمر بن على بن مرشد بن على الحموى. أبو حفص، شرف الدين، سلطان العاشقين. سلك طريق التصوف، واختُلف فى شأنه. له ديوان شعر، عليه شروح. راجع فى ترجمته: سير أعلام النبلاء 22/ 368، ابن الفارض سلطان العاشقين: للدكتور/ محمد مصطفى حلمى – المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر – بدون.
(4) البقاعى (809 – 885هـ) (1406 – 1480).هو: إبراهيم بن عمر بن حسن الرُّباط، أبو الحسن، برهان الدين. ولد بسوريا ودخل بيت المقدس، ثم القاهرة. من مشايخه: ابن حجر، والقاياتى. مهر وبرع فى الفنون، وله تصانيف كثيرة حسنة، منها: النكت على شرح العقائد النسفية، عنوان الزمان بتراجم الشيوخ والأقران. وتوفى دمشق. راجع فى ترجمته: نظم العقيان ص 24، الضوء اللامع 1/ 101 – 111، ثم انظر: قايتباى المحمودى ص 43.
**************************
وأضاف: واتهموا (ابن الفارض) فى عقيدته، ونسبوه إلى الحلول والاتحاد (1)، فى حين تعصب له آخرون وعلى رأسهم الشيخ زكريا والإمام السيوطى، وكتب كل من الفريقين ما يؤيد رأيه ويدحض رأى مخالفه، وأرسل السلطان إلى العلماء، فكتب كل منهم ما ظهر له، وامتنع الشيخ زكريا عن الكتابة خوفا من الفتنة، وبعد إلحاح كتب ونصر القوم، وبين أن للقوم مصطلحا خاصًا بهم، لا يجوز لمن لا يعرفه أن يتكلم فى حقهم بشىء آخر (2)، وأنهم قد يصلون إلى درجة تقصر العبارات عن التعبير عنها، فينطقون بكلام يشعر بالحلول والاتحاد لمن لا يعرف مصطلحهم، ((وهذا النوع قد يقع من بعض المحبين، ويسمَّى: الشطح (3)، فلا يؤاخذون به، ولا يعدّ لهم مقاما (4) ولا حالا (5))) (6)، ((ولكن ينبغى كتم تلك العبارات عمن لم يدركها، فما كل قلب يصلح للسر، ولا كل صدف ينطبق على الدر، ولكل قوم مقال، وما كل ما يعلم يقال، وحق لمن لم يدركها عدم الطعن فيها … )) (7).
__________
(1) يأتى تعريف (الحلول، والاتحاد).
(2) راجع: ذيل طبقات الشعرانى (ق) 12، قايتباى المحمود ص 44 – 45.
(3) راجع: التصوف فى الإسلام: للشيخ/ محمد الصادق عرجون ص 106 – 107،133 – 140 نشر: دار القارئ العربى – بدون.
(4) المقام عن الصوفية: ما يتصف به العبد بنزوله فيه وانتقاله إليه باكتسابه له وتطلّبه. راجع: الرسالة القشيرية مع أحكام الدلالة ونتائج الأفكار القدسية 2/ 26 – 29.
(5) الحال عند الصوفية: معنى يرد على القلب، من غير تعمد من صاحبه ولا اجتلاب ولا اكتساب. راجع: السابق نفسه 2/ 29.
(6) أحكام الدلالة على تحرير الرسالة 4/ 105.
(7) تحفة الأحباب ص 44، قايتباى المحمودى ص 45.
*********
وأضاف:وبهذا الجواب الشافى الذى ذكر نحوه فى شرح الروض (1) انتهى الاضطراب الذى ساد البلاد بسبب المتعصبين لابن الفارض والمتعصبين عليه (2)، فالشيخ زكريا كتب فى نصرة (ابن الفارض)، وكذا (ابن عربى) (3)، وصرح بولايتهما، ووافقه على ذلك بعض أقرانه (4)، وانتقده آخرون (5)، ولم يكن الشيخ زكريا بدْعا فيما ذهب إليه، بل هو رأى بعض المحققين السابقين عليه، وكذا هو رأى بعض المحققين المتأخرين عنه (6).’’’’’
كذا من مقدمة : فتح الإله الماجد بإيضاح شرح العقائدللشيخ زكريا الأنصارى المتوفى سنة 926هـ((تحقيق ودراسة)) ((رسالة ماجستير))إعداد الباحث/عرفه عبد الرحمن أحمد عبد الرحمن النادى
__________
(1) راجع: أسنى المطالب فى شرح روض الطالب: للشيخ/ زكريا الأنصارى 4/ 119 ط 1 نشر: دار الكتب العلمية – بيروت 1422هـ -2000م بتحقيق: د/ محمد محمد تامر، ثم قارن: الضوء اللامع 3/ 236، الكواكب السائرة 1/ 202 – 204.
(2) قايتباى المحمودى ص 45، وانظر: تحفة الأحباب ص 37 – 44.
(3) ابن عربى (60 – 638هـ) (1165 – 1240هـ).هو: محمد بن على بن محمد الطائى الحاتمى، محيى الدين، الشيخ الأكبر، صوفى، متكلم. من مؤلفاته: الفتوحات المكية، وغيرها. راجع فى ترجمته: الكواكب الدرية فى طبقات الصوفية 2/ 159 – 185، ابن الفارض سلطان العاشقين ص 77 – 93 – ثم انظر: تحفة الأحباب ص 39 – 45، الكواكب الدرية 2/ 161 – 164.
(4) بل وبعض مشايخه مثل: الكافياجى، وبعض معاصريه مثل: السيوطى، وبعض تلامذته مثل: الشعرانى، وابن حجر الهيتمى. راجع: الفتاوى الحديثية ص 34 – 41، قايتباى المحمودى ص 43.
(5) وعلى رأسهم: البقاعى والسخاوى وغيرهما.
(6) راجع: الكواكب الدرية 2/ 161 – 164، التصوف فى الإسلام ص 133 – 140.
https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/562270923886934