((ابن خلدون ينسف مذهب الحشوية))
يقول رحمه الله في مقدمته ٥٨٧/١]
وردت في القرآن آي أخرى قليلة توهم التّشبيه مرّة في الذات وأخرى في الصّفات. فأمّا السلف فغلبوا أدلّة التنزيه لكثرتها ووضوح دلالتها، وعلموا استحالة التشبيه. وقضوا بأنّ الآيات من كلام الله فآمنوا بها ولم يتعرّضوا لمعناها ببحث ولا تأويل. وهذا معنى قول الكثير منهم: اقرءوها كما جاءت أي آمنوا بأنّها من عند الله. ولا تتعرّضوا لتأويلها ولا تفسيرها لجواز أن تكون ابتلاء، فيجب الوقف والإذعان له.
وشذّ لعصرهم مبتدعة اتّبعوا ما تشابه من الآيات وتوغّلوا في التّشبيه. ففريق أشبهوا [1] في الذّات باعتقاد اليد والقدم والوجه عملا بظواهر وردت بذلك فوقعوا في التّجسيم الصّريح ومخالفة آي التّنزيه المطلق الّتي هي أكثر موارد وأوضح دلالة لأنّ معقوليّة الجسم تقتضي النّقص والافتقار. وتغليب آيات السّلوب في التّنزيه المطلق الّتي هي أكثر موارد وأوضح دلالة أولى من التّعلّق بظواهر هذه الّتي لنا عنها غنية وجمع بين الدّليلين بتأويلها ثمّ يفرّون من شناعة ذلك بقولهم جسم لا كالأجسام. وليس ذلك بدافع عنهم لأنّه قول متناقض وجمع بين نفي وإثبات إن كانا بالمعقوليّة واحدة من الجسم، وإن خالفوا بينهما ونفوا المعقوليّة المتعارفة فقد وافقونا في التّنزيه ولم يبق إلّا جعلهم لفظ الجسم اسما من أسمائه.
ويتوقّف مثله على الأذن. وفريق منهم ذهبوا إلى التّشبيه في الصّفات كإثبات الجهة والاستواء والنّزول والصّوت والحرف وأمثال ذلك. وآل قولهم إلى التّجسيم فنزعوا مثل الأوّلين إلى قولهم صوت لا كالأصوات جهة لا كالجهات. نزول لا كالنّزول يعنون من الأجسام. واندفع ذلك بما اندفع به الأوّل، ولم يبق في هذه الظّواهر إلّا اعتقادات السّلف ومذاهبهم والإيمان بها كما هي لئلّا يكرّ النّفي على معانيها بنفيها مع أنّها صحيحة ثابتة من القرآن. ولهذا تنظر ما تراه في عقيدة الرّسالة لابن أبي زيد وكتاب المختصر له وفي كتاب الحافظ ابن عبد البرّ وغيرهم فإنّهم يحومون على هذا المعنى. ولا تغمض عينك عن القرائن الدّالّة على ذلك في غضون كلامهم.