«القبس في شرح موطأ مالك بن أنس» (ص287):
«قوله: يَنَزِلُ رَبُّنَا: هذا الحديث أمّ في الأحاديث المتشابهة، وقد ذهب كثير من العلماء، وخاصة من السلف، إلى أن يؤمن يها ولا يخوض في تأويلها؛ وقد رأى شيخ القراء (4) الوقوف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ} (5) ويتبدىء بقوله: والراسخون في العلم وهو اختيار إمام الأمة مالك بن أنس، رضي الله عنه، وهو بشهادة الله الحق، ولو ترك الغطاء لما تكلف سير (1) الليل ولا تعاطى، وقد تكلم الناس عليها فرأينا أن نخلص من ذلك التأويل ما يقوم عليه الدليل، وعلى هذا الركن عوَّلنا في تأليف كتاب المشكلين وإليه أسندناه. فأما مالك، رضي الله عنه، فقد بدّع السائِل عن أمثاله وصرف (2) عن أشكاله ووقف عند الإيمان به (3) وهو لنا أفضل قدوة (4). وأما الأوزاعي (5) (وهو إمام عظيم) فنزع بالتأويل حين قال: وقد سئل عن قول النبي، – صلى الله عليه وسلم -: (يَنْزلُ رَبَّنا فَقَالَ يَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ) (6) ففتح بابًا من المعرفة عظيمًا ونهج إلى التأويل صراطًا مستقيمًا (7).
_شريعة: إن الله سبحانه منزَّه عن الحركة والانتقال لأنه لا يحويه مكان، كما لا يشتمل عليه زمان، ولا يشغل حيّزًا كما لا يدنو إلى مسافة بشيء ولا يغيب بعلمه عن شيء، متقدس الذات عن الآفات منزّه عن التغيير والاستحالات إله في الأرض إله في السموات. وهذه عقيدة مستقرة في القلوب ثابتة بواضح الدليل. قال لي شيخ (1) العلماء: لا يمكن لأحد أن يعبر عن جلال الله تعالى وكماله إلا بهذه الألفاظ الناقصة التي يعبر بها عنا، فإذا سمعت العبارة عن الله تعالى فيجب عليك الإيمان بمعناها، ثم تعلم أنه ليس له مثل في ذلك لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (2) وهو كلام بديع، ولسعة اللغة في العبارة بالحقيقة والمجاز والحذف والزيادة والتطويل والاختصار يتمكن العالِم بالله تعالى من العبارة عنه والتنزيه به والعلم به عندنا إلى قوله: “يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا”.
قلنا: صدق ربنا وصدق نبينا والنزول في اللغة في الحقيقة حركة والحركة لا تجوز على الله سبحانه وتعالى، فلم يبق إلا العدول عن حقيقة النزول إلى مجازه وهو النزول بالمعاني، فإن النزول من علو الامتناع إلى علو القبول نزول معنوي كما أن النزول من علو الفوقية إلى سفل المكان نزول حسّيّ وفي الحديث و”أَنْزِلُ لَكَ عَنْ إِحْدَى زَوْجَتَيّ” (3) فإنها كانت تحت سلطان نكاحه، وتحت حجره ومنعه فإذا قال لها أنت طالق فقد ارتفع ذلك كله ولكون من أقسام المجاز التعجير عن الشيء بفائدته وثمرته، ويكون ذلك عبارة عن كثرة ما يفيض من الرحمة وينشر على الخلق منها ويوسعهم من عطائه على جميع المعاني من إجابة دعوة، وقضاء حاجة، ونيل مغفرة مما كان قبل ذلك ممتنعًا عليهم كامتناع ما يكون في العلو من فوقهم، وإلى هذا أشار الأوزاعي بقوله: (يَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ)، فجعله من صفات الفعل لا من صفات الذات وهذا فصل بالغ فاتخذوه دستورًا واشرعوه في سائر المشكلات سبيلًا (4)»
الكتاب: القبس في شرح موطأ مالك بن أنس
المؤلف: القاضي محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي المعافري الاشبيلي المالكي (ت ٥٤٣هـ)
المحقق: الدكتور محمد عبد الله ولد كريم
الناشر: دار الغرب الإسلامي
الطبعة: الأولى، ١٩٩٢ م