《 فهم الأمة لحديث – “لا تشد الرحال” – بعيداً عن أكاذيب الخوارج 》
قال الإمام مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي في كتابه :
” الصلات والبشر في الصلاة على خير البشر ( 127 – 128 ):
[ وأما حديث ” لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد “
فلا دلالة فيه على النهي عن الزيارة بل هو حجة في ذلك , ومن جعله دليلا على حرمة الزيارة فقد أعظم الجراءة على الله ورسوله , وفيه برهان قاطع على غباوة قائله , وقصوره عن نيل درجة
كيفية الاستنباط والاستدلال والحديث فيه دليل على استحباب الزيارة من وجهين :
الوجه الأول :
أن موضع قبره صل الله عليه وآله وسلم أفضل بقاع الأرض , وهو صل الله عليه وآله وسلم
أفضل الخلق وأكرمهم على الله , لأنه لم يقسم بحياة أحد غيره , وأخذ الميثاق من الأنبياء بالإيمان به وبنصره كما في قوله تعالى :
” وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ” . الآية , وشرفه بفضله على سائر المرسلين , وكرمه بأن ختم به النبيين , ورفع درجته في عليين , فإذا تقرر أنه أفضل المخلوقين وأن تربته أفضل بقاع الأرض
استحب شد الرحال إليه وإلى تربته بطريق الأولى .
الوجه الثاني :
أنه يستحب شد الرحال إلى مسجد المدينة ولا يتصور من المؤمنين الخالصين انفكاك قصده عنه صلى الله عليه وآله وسلم , وكيف يتصور أن المؤمن المعظم قدر النبي صل الله عليه وآله وسلم يدخل مسجده ويشاهد حجرته ويتحقق أنه يسمع كلامه , ثم بعد ذلك يسعه أن لا يقصد الحجرة والقبر ويسلم على رسول الله صل الله عليه وآله وسلم ؟! هذا ما لا خفاء به عند أحد , وكذلك لو قصد زيارة قبره لم ينفك قصده عن المسجد .
● ومن الدليل الأحاديث الكثيرة الصحيحة في فضل زيارة الإخوان في الله فزيارة النبي صل الله عليه وآله وسلم أولى وأولى .
● ومنها : أن حرمته صلى الله عليه وآله وسلم واجبة حيا وميتا , ولا شك أن الهجرة إليه كانت في حياته من أهم الأشياء , فكذلك بعد موته .
● ومنها : الأحاديث الدالة على استحباب زيارة القبور , وهذا في حق الرجال مجمع عليه , وفي حق النساء فيه خلاف , وقد بسطناه في كتاب ” إثارة الشجون لزيارة الحجون ” ، هذا في غير قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وأما زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم فالإجماع على استحبابها للرجال والنساء .
● ومنها : أن الإجماع على جواز شد الرحال للتجارة وتحصيل المنافع الدنيوية , فهذا أولى لأنه من أعظم المصالح الأخروية .
● ومنها : إجماع الناس العملي على زيارته صلى الله عليه وآله وسلم وشد الرحال إليه بعد الحج من بعد وفاته إلى زماننا هذا .
● ومنها : الإجماع القولي , قال أبو الفضل القاضي : زيارة قبره صل الله عليه وآله وسلم سنة من سنن المسلمين مجمع عليها , وأما الآثار في الباب فكثيرة جدا . ] اهـ .
– قال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم :
[وفي هذا الحديث : فضيلة هذه المساجد الثلاثة ، وفضيلة شد الرحال إليها ، لأن معناه عند جمهور العلماء : لا فضيلة في شد الرحال إلى مسجد غيرها . وقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا : يحرم شد الرحال إلى غيرها وهو غلط ] اهـ
– شرح الإمام الحافظ شيخ الإسلام أحمد بن حجر العسقلاني للحديث .
قال الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني في شرحه لحديث : ” لا تشد الرحال ” في كتابه :
” فتح الباري شرح صحيح البخاري (3 / 66 )
والحاصل أنهم ألزموا ابن تيمية بتحريم شد الرحل إلى زيارة قبر سيدنا رسول الله صل الله عليه وسلم وأنكرنا صورة ذلك , وفي شرح ذلك من الطرفين طول , وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية ,
ومن جملة ما استدل به على دفع ما ادعاه غيره من الإجماع على مشروعية زيارة قبر النبي
صل الله عليه وسلم ما نقل عن مالك أنه كره أن يقال :
زرت قبر النبي صل الله عليه وسلم .
وقد أجاب عنه المحققون من أصحابه : بأنه كره اللفظ أدبا لا أصل الزيارة فإنها من أفضل الأعمال وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال وإن مشروعيتها محل إجماع بلا نزاع , والله الهادي إلى الصواب .
قال بعض المحققين قوله :
” إلا إلى ثلاث مساجد ” المستثنى منه محذوف , فإما أن يقدر عاما فيصير : لا تشد الرحال إلى أي مكان في أي أمر كان إلا إلى الثلاثة , أو أخص من ذلك , لاسبيل إلى الأول لإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة وصلة الرحم وطلب العلم وغيرها فتعين الثاني .
والأولى أن يقدر ما هو أكثر مناسبة وهو : لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه إلا إلى الثلاثة , فيبطل بذلك قول من منع شد الرحال إلى زيارة القبر الشريف وغيره من قبور الصالحين والله تعالى أعلم .
وقال السبكي الكبير : ليس في الأرض بقعة لها فضل لذاتها حتى تشد الرحال إليها غير البلاد الثلاثة , ومرادي بالفضل ما شهد الشرع باعتباره ورتب عليه حكما شرعيا , وأما غيرها من البلاد فلا تشد إليها لذاتها بل لزيارة أو جهاد أو علم أو نحو ذلك من المندوبات أو المباحات.
قال : وقد التبس ذلك على بعضهم فزعم أن شد الرحال إلى الزيارة لمن في غير الثلاثة داخل قي المنع – وهو خطأ – لأن الاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى منه.
فمعنى الحديث : لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد أو إلى مكان من الأمكنة لأجل ذلك المكان إلا إلى الثلاثة المذكورة , وشد الرحال إلى زيارة أو طلب علم ليس إلى المكان بل إلى من في ذلك المكان والله أعلم . ] اهـ
– شرح الإمام بدر الدين العيني للحديث .
قال الإمام العلامة بدر الدين العيني في شرحه على البخاري المسمى بعمدة القاري ( 7 / 254 ) عند الكلام على حديث ” لا تشد الرحال “
وحكى الرافعي عن القاضي ابن كج أنه قال :
إذا نذر أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم فعندي أنه يلزمه الوفاء وجها واحدا , قال ولو نذر أن يزور قبر غيره ففيه وجهان عندي , وقال القاضي عياض وأبو محمد الجويني من الشافعية :
أنه يحرم شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة لمقتضى النهي , وقال النووي وهو غلط والصحيح عند أصحابنا وهو الذي اختاره إمام الحرمين والمحققون أنه لا يحرم ولا يكره .
وقال الخطابي :
لا تشد لفظه خبر ومعناه الإيجاب فيما نذره الإنسان من الصلاة في البقاع التي يتبرك بها أي لا يلزم الوفاء بشيء من ذلك حتى يشد الرحل له ويقطع المسافة إليه غير هذه الثلاثة التي هي مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام , فأما إذا نذر الصلاة في غيرها من البقاع فإن له الخيار في أن يأتيها أو يصليها في موضعه لا يرحل إليها .
قال : والشد إلى المسجد الحرام فرض للحج والعمرة وكانت تشد الرحال إلى مسجد رسول الله صل الله عليه وسلم في حياته للهجرة وكانت واجبة على الكفاية ,
وأما إلى بيت المقدس فإنما هو فضيلة واستحباب , وأول بعضهم معنى الحديث على وجه آخر وهو أن لا يرحل في الاعتكاف إلا إلى هذه الثلاثة , فقد ذهب بعض السلف إلى أن الاعتكاف لا يصح إلا فيها دون سائر المساجد .
وقال شيخنا زين الدين :
من أحسن محامل هذا الحديث أن المراد منه حكم المساجد فقط وأنه لا يشد الرحل إلى مسجد من المساجد غير هذه الثلاثة فأما قصد غير هذه المساجد من الرحلة في طلب العلم وفي التجارة والتنزه وزيارة الصالحين والمشاهد وزيارة الإخوان ونحو ذلك فليس داخلا في النهي .وقد ورد ذلك مصرحا به في بعض طرق الحديث في مسند أحمد حدثنا هاشم حدثنا عبد الحميد حدثني شهر سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه وذكر عنده الصلاة في الطور فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لا ينبغي للمطي أن يشد رحاله إلى مسجد يبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا ” وإسناده حسن وشهر بن حوشب وثقه جماعة من الأئمة . ] اهـ
– وقال أيضا الإمام العيني ( 6 / 276 )
وشد الرحل كناية عن السفر لأنه لازم للسفر ، والاستثناء مفرغ ، فتقدير الكلام : لا تشد لرحال إلى موضع أو مكان ، فإن قيل : فعلى هذا يلزم أن لا يجوز السفر إلى ما كان غير المستثنى حتى لا يحوز السفر لزيارة الخليل إبراهيم صلوات الله تعالى وسلامه عليه ونحوه ، لأن المستثنى منه في المفرغ لابد أن يقدر أعم العام .وأجيب :
بأن المراد بأعم العام ما يناسب المستثنى نوعا ووصفا كما إذا قلت :
ما رأيت إلا زيدا كان تقديره : ما رأيت رجلا أو أحدا إلا زيدا ، لا ما رأيت شيئا أو حيونا إلا زيدا ، فها هنا تقديره لا تشد إلا إلى ثلاثة .] اهـ
– شرح الإمام الكرماني للحديث .
قال الشيخ الإمام محمد بن يوسف الكرماني في شرحه على صحيح البخاري ( 7 / 12 ) ” لا تشد الرحال “
والاستثناء مفرغ , فإن قلت :
فتقدير الكلام لا تشد الرحال إلى موضع أو مكان فيلزم أن لا يجوز السفر إلى مكان غير المستثنى منه حتى لا يجوز السفر لزيارة إبراهيم الخليل عليه السلام ونحوه لأن المستثنى منه في المفرغ لا بد أن يقدر أعم العام .
قلت : المراد بأعم العام ما يناسب المستثنى نوعا ووصفا كما إذا قلت : ما رأيت إلا زيدا كان تقديره : ما رأيت رجلا أو أحدا إلا زيدا لا ما رأيت شيئا أو حيوانا إلا زيدا , فههنا تقديره :
” لا تشد إلى مسجد إلا إلى الثلاثة ” . ] اهـ
– فهم ورأي الإمام الحافظ ابن عساكر لمسألة الزيارة وشد الرحال .
قال الإمام الحافظ أبو اليمن عبد الصمد بن عبد الوهاب المعروف بابن عساكر في كتابه ” إتحاف الزائر – مخطوط – [ وبعد … فهذا مختصر في زيارة سيدنا سيد البشر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشرف وعظم وكرم , ألفته تحفة للزائر وجعلته نحلة من المقيم يتزودها المسافر , إذ كانت زيارة تربته المقدسة المكرمة من أهم القربات , والمثول في حضرته المعظمة من أنجح المساعي وأكمل الطلبات , والقصد إلى مسجده الشريف من العباد من أوصل الصلات , فإليه تشد الرحال ولديه تحط الأوزار وتعقد الآمال .] اهـ
– فهم ورأي الشيخ منصور البهوتي لمسألة الزيارة وشد الرحال .
قال الشيخ منصور البهوتي في كتابه : ” كشاف القناع عن متن الإقناع ” ( 2 / 598 ) تنبيه : قال ابن نصر الله : لازم استحباب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم استحباب شد الرحال إليها , لأن زيارته للحاج بعد حجه لا تمكن بدون شد الرحال , فهذا كالتصريح باستحباب شد الرحل لزيارته صلى الله عليه وآله وسلم . ] اهـ