صفحات مطوية … سيرة ذاتية أزهرية
د. علي زين العابدين الحسيني
مجلة النيل والفرات، العدد (٢٨)
ما ذكرتُ علم “أصول الفقه” إلا ذكرتُ في أولّ كتبِ علمائه المعاصرين كتاب “الزبدة من علم الأصول”، وفي أول أشخاصه مؤلفه العلامة الأصولي “أحمد عبد العزيز السيد”؛ ذلك أنّ أولّ كتاب أهداني إياه أستاذي العلامة أ.د علاء الدين داهش هو كتابه “إسعاد المطالع بترتيب المراجع”، وأولّ شخصٍ سمعتُ عن سيرته العطرة ونبوغه العلميّ واعتقاد العرفان لجميله وإصفاء المودة لأهله من علماء الشريعة بصعيد “مصر” هو العلامة أحمد عبد العزيز السيد.
كانت كتب أستاذنا “أحمد السيد” زاداً أصولياً ومراجع مهمة لي في المرحلة الجامعية، وقد تعلقتُ بكتب “أصول الفقه” مطبوعها ومخطوطها بسببها، ويمكن القول إني تتلمذت على كتبه قبل معرفته معرفة خاصة، فأعجبت بسعة اطلاعه، وسلاسة عباراته، وسهولتها، ومحاولاته الجادة في المحافظة على عبارات الأصوليين مع تجديدها من خلال عرضها في قالب جديد، ثم توالت المعرفة به من خلال السؤال عنه والاطلاع على جديد منجزاته العلمية، والحقّ أن “أحمد عبد العزيز السيد” هو صنيعة أهل العلم الكبار، سرتْ بركة الفهم الدقيق لنصوص العلماء إليه عن طريقهم، وأتيح له أن يتتلمذ لجماعة من أهل التدقيق وأرباب الصنعة الفقهية، الذين وصفوا بمحققي العلوم النقلية والعقلية، فقرأ على العلامة المحقق محمد أبي النور زهير من كتابه “أصول الفقه” المشهور، الأمر الذي جعله مرتبطاً بهذا الكتاب إلى أن اختصره في كتابه “الزبدة من علم الأصول” اختصاراً محكماً، وقد أوضح في مقدمة اختصاره أهمية كتاب شيخه محمد أبي النور زهير، فكتابه كما قال: “جليل القدر، عميم النفع، عظيم الفائدة، انتفع المشتغلون بعلم الأصول به، ولا زالوا ينهلون من بحره الفياض”، كلّ هذه المميزات جعلته يقبل على اختصاره اختصاراً غير مخل مع زيادات وتحقيقات؛ تتميماً للفائدة، ويعدّ كتابه “الزبدة” من وجهة نظري من أحسن كتب المعاصرين في علم أصول الفقه لجمعه بين المنهج القديم والحديث في التأليف، ولارتباطه ارتباطاً مباشراً بكتب أئمة الأصول، فكتابه اختصار لكتاب شيخه الذي هو امتداد لكتاب “نهاية السول” للإمام الإسنوي.
فيما بعد تفرغ أستاذنا لجمع ذكرياته، فعمره مليء بالجدية والعمل المتواصل والانفتاح على الآخرين، والتعرف على ثقافتهم وقيمهم، فألف كتابه “صفحات مطوية من أحاديث الذكريات” بعد استقراره الدائم بمملكة “البحرين”، جاء كتابه تحفة أدبية، ووثيقة تاريخية بكلّ ما تحتويه الكلمة، وهو كتاب يندرج كما هو معروف ضمن ما يسمى بأدب “السير الذاتية”، وقسم كتابه إلى خمسة فصول، جاء الفصل الأول للكلام عن النشأة الأولى والدراسة في المعهد الديني والحديث عن أفراد عائلته، وأظهر هذا الفصل مدى حالة الوفاء التي شبّ عليها الرجل، فهو يتكلم في ذكرياته عن خالته وبعض أفراد عائلته ممن كانوا سبباً في تحصيله العلمي، ونبوغه في الدراسة، وفي الفصل الثاني جاء الحديث عن أسيوط وكلية الشريعة، ويعدّ الفصل الثالث فصلاً مهماً إذ يمثل مرحلة مهمة من مراحل عمره، وهي مرحلة الدراسات العليا، وفي هذا الفصل تكلم باستفاضة عن الحياة القاهرية، وكيفية تعرفه على بعض العلماء والقراءة عليهم، ثم جاءت مرحلة مهمة أيضاً من مراحل حياته، وهي عمله خارج البلاد بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، فخصص للرياض وجامعة الإمام وعلمائها فصله الرابع، ثم جاءت مرحلة الاستقرار، وفيها سافر إلى مملكة البحرين، وعمل في كلية الآداب بجامعة البحرين، ويمثل هذا الفصل الحالة الأخيرة التي استقرّ عليها أستاذنا.
هذا الكتاب يعدّ وثيقة ناطقة عن أهل الصعيد وحيواتهم، ومرحلة مهمة من تاريخ الأزهر وعلمائه في العصر الحديث، فقد عرّف أستاذنا بمجموعة من علماء الصعيد الذين تلقى عنهم العلم؛ كالعلامة محمود الأبنودي والد الشاعر المعروف عبد الرحمن الأبنودي، والعلامة محمد الصاوي، والعلامة مصطفى المكي، والأستاذ المحقق عبد الستار أحمد فراج، وأتاح لنفسه فرصة التحدث عن بعض الشخصيات في عائلته ممن كان لهم تأثير عليه أو على المستوى المجتمعي العام؛ كوالده العلامة عبد العزيز السيد، وهو فقيه مالكيّ وعالم أزهريّ جليل، وفيه أيضاً تعريف بجملة من أساتذة كلية الشريعة والقانون بأسيوط، وتظهر أهمية هذه السيرة من خلال تسليط الضوء على الحالة العلمية لطلبة “الدراسات العليا” بالأزهر الشريف، والتعرف على سير بعض متأخري فقهاء الأزهر وأصولييها؛ كالشيخ العلامة جاد الرب رمضان، والعلامة المحقق محمد أبي النور زهير، والعلامة الفقيه الحسيني يوسف الشيخ، والعلامة الجليل عبد الجليل القرنشاوي، ولم يهمل أستاذنا الحديث عن علماء الشريعة بجامعة الرياض، فترجم لبعض العلماء، مع ذكر جهودهم وكتبهم في ميداني الفقه وأصوله، ثم تضمنت السيرة التعريف بكوكبة من أساتذة اللغة العربية والدراسات العليا في كلية الآداب بجامعة البحرين، وهي آخر المراحل التي استقرّ عليها، حيث اتخذ من مملكة “البحرين” دار إقامة دائمة، وهو أمر يرشدنا إلى مدى تأثير علماء الأزهر في البلدان الأخرى، فلم يقتصر عطاؤهم المعرفيّ على “مصر” فحسب، بل تجاوزها إلى بلدان أخرى.
لعله يخيل للقارئ حينما يعلم من سيرة ومسيرة أستاذنا الفقهية والأصولية أنّه كتب هذه السيرة بلغة علمية بحتة بحكم تخصصه العلمي، فالأكاديمي عادة ما يكتب كتبه وأبحاثه بلغة المتخصصين لا الكُتّاب المبدعين، وحتماً سيتصور القارئ لسيرته أنّ هذه الكتابة الأكاديمية ستنعكس على سيرته الذاتية من حيث لا يشعر، هذا ما كنت أتخيله، لكن بعد القراءة عرفت أنّه استطاع بكل احترافية الفصل بين اللغة العلمية التخصصية وبين اللغة الأدبية التي خط بها كتابه، وليس من السهل أن يتجرد الكاتب عن عوامل البيئة والنشأة العلمية، خصوصاً إذا كانت الدراسة أزهرية، ولا ينكر أحدٌ التأثير القوي الذي يؤثره الأزهر في لغة وكتابة كلّ كاتب أو شاعر سواء كان بطريق مباشر أو غير مباشر، بحيث لا يمكن لأيّ أزهريّ مهما تفوق أن يخلع عباءته الأزهرية في كتاباته.
ولأنّ أغلب ذكرياته كانت في محيط المعاهد الأزهرية والجامعات والتدريس الأكاديمي، وغالب مَن تحدث عنهم هم علماء وأساتذة متخصصون إلا أنّه استطاع بمهارة واحترافية أن ينقل هذه الأحداث بلغة إبداعية، وأسلوب شيق، وقدرة عجيبة في المزج بين الحقائق التاريخية، والشخصيات الأكاديمية العلمية، وذكريات الطفولة، وأحوال رجال العائلة، والنكت العلمية، والفوائد المتعددة، كل هذا وغيره بأساليب مستقيمة لا التواء بها، وكتابة رجل يؤمن بالأخلاق، والرجولة، وكلّ معاني السمو وعلو الهمة، وطرق التربية والسلوك.
يطربك حديثه، وتعجبك مواقفه، ويرضيك تحليله، ويستهويك سرده.
سيلاحظ القارئ أيضاً لسيرة أستاذنا أنها حاوية لمعارف متنوعة وثقافات متعددة؛ لأنها كتبت بقلم رجل جمع في دراسته بين علوم مختلفة، فبجانب تخصصه الأكاديمي في علم “أصول الفقه” يظهر نبوغه في علوم العربية والثقافة العامة والمعارف الضرورية، كما كان لتنوع المدارس التي تلقى فيها العلم ودرّس فيها أثر واضح لا يمكن تجاهله، أضف إلى ذلك عمله الأكاديمي في جامعات عريقة ببلدان مختلفة، ووجود صداقات متعددة مع علماء ومفكري ومثقفي البلدان من مختلف الاتجاهات، والتركيز في ذكرياته على الجوانب السلوكية والتهذيبية، ومحاولة الربط بين الجانب المعرفي والجانب الروحي في كثير من الأحداث التي ذكرها، وإذا انضم إلى ذلك فن التراجم الذي يتقنه، وقدرته الفائقة في توظيف الروايات التاريخية والاستفادة منها، حينها سندرك أننا أمام سيرة ذاتية تستحق التنويه بأفضالها وما أكثرها!
لعلّ من المناسب أن أوجه دعوتي المتكررة لأساتذتي وأصدقائي وطلابي بمملكة “البحرين” أن يحاولوا دمج أستاذنا أحمد عبد العزيز السيد في الحياة الثقافية، أعلم أنه اختار لنفسه عزلة ارتضاها لحاله، فأقبل على التزود من العبادة، والتفرغ لقراءة القرآن وعلومه، لكن هذا لا يمنع من محاولة جذبه إلى الحياة الثقافية من جديد، بإقامة الورش والندوات حول ذكرياته، فهو جديد بالإفادة، وتغيير ملامح الهوية الثقافية للأفضل.