تكفير التفكير…
فيديو مسموم ضد الحضارة الاسلامية والعقل المسلم..
يروجه أهل الضلالة بيننا..
ووصلني فيديو متعوب عليه، مزين بالصور، يسرد أسماء سبعة من أساطين العلماء في تاريخ الحضارة الانسانية والاسلامية معا، كذا لأننا نعد الحضارة والثقافة إرثا إنسانيا عاما، كما هي إرث خاص في الوقت نفسه..
يذكر الفيديو المسموم أسماء:
العالم المسلم الكيمائي جابر بن حيان.
والعالم المسلم الفيلسوف المتعدد المواهب : الفارابي
والعالم المسلم الفيلسوف والطبيب المتعدد المواهب: ابن سينا
والعالم المسلم الفيلسوف : الكندي
والعالم الشمولي المعرفة والتجربة :
ابن رشد الحفيد
وعالم البصريات المسلم : ابن الهيثم
ثم العالم الطبيب: ابو بكر الرازي
رحمه الله تعالى. ورحمهم جميعا..
يختم الفيديو المسموم حديثه المقتضب جدا عن كل واحد من هؤلاء بقوله: اتهم بالكفر والزندقة وما إلى ذلك في عملية تشويهية لمسيرة الحضارة الاسلامية!! ولموقف أبنائها بعضهم من بعض، وإلحاقا للعقل المسلم، بالعقل الكهنوتي مبدع محاكم التفتيش، ومحاكم التفتيش قتلت من مفكري النصارى كما قتلت من المسلمين واليهود، أو الحاقا للعقل المسلم بالعقل ” …..” مبدع القانون ٤٩: ١٩٨٠
إن الذي اريد ان أؤكد عليه، في مواجهة هذا الفيديو المسموم أن العلماء والمفكرين الذين قتلوا من أجل أفكارهم في تاريخ حضاري امتد ١٤٠٠ سنة، عدد قليل جدا، بل لا يكاد يذكر. بالنسبة لضحايا محاكم التفتيش التي حكمت العقل الغربي والحضارة الغربية لقرون.
الحقيقة الأولى التي أرد بها على هذا الفيديو المسموم، ان الاتهامات بالكفر والزندقة كانت تصدر على هؤلاء من أفراد أمثالهم، وليس من مؤسسة معتمدة، لا سياسيا ولا دينيا. وأن معظم هؤلاء كانوا جزء مهما من قصور الخلفاء والولاة، وفي موضع مرموق من بنية الدولة والمجتمع. وخلفيات الاتهام بالكفر في ذلك العصر وفي كل عصر تنحصر في نوع من العصبية والحسد وضيق العطن. حتى قال الامام الغزالي في مقدمة كتابه فيصل التفرقة: “واستحقر من لا يحسد، ولا يُقذف، واستصغر من من بالكفر والضلال لا يعرف”
وإذا قرأت هذه الاتهامات المتناثرة والمتساقطة بضوء آخر، وكل هؤلاء كانوا يشكلون جزأ من بنية الدولة والثقافة آنذاك، رأيت في الجرأة على مثلهم نوعا من حرية الرأي التي بات يجرمها أصحاب قوانين هيبة الدولة وهيبة الرجل العام!! نعم قالوا وقيل فيهم، وهذه هي سيرورة الحياة والفكر. كتب الامام الغزالي تهافت الفلاسفة، ورد عليه ابن رشد الحفيد تهافت التهافت، والأحادي الفكر والموقف هو الذي يقول إن الحقيقة المطلقة كانت مع أحد الرجلين، أو في أحد الكتابين.
ثم لو نظرنا في تراجم هؤلاء العلماء المذكورين في الفيديو، لو جدناهم جميعا، عاشوا في بحبوحة وعافية وهناء وفي مواقعهم الحضارية، والتي غالبت ما تحولت الى مواقع سياسية، وكانوا موضع تنافس الخلفاء والسلاطين والولاة. وبعضهم ضيق عليه في آخر أيامه لأسباب سياسية فقط، تتعلق بنظم الادارة، وليس بآفاق العلم والفكر.
ولم يشردوا في الأرض، ولم يقضوا أعمارهم في قاع الزنازين، الذي يريبنا أن أحد أدعياء التحديث اراد أن” يعلمن” بلده فافتتح فيها لرجال الفكر سجون!!
يذكر الفيديو المسموم على سبيل الدس، ان الطبيب المسلم صاحب الحاوي والمنصوري في الطب: قُتل على الكفر والزندقة . وقد دس هذه الدسيسة في آخر شخصيات الفيديو لكي تمر . وهذا إفك وافتراء. فكتب التراجم المعتمدة تؤكد ان معلم الطب العالمي على مدى ٤٠٠ عام مات في بيته مريضا بعد أن نزل على عينيه الماء الأزرق. “الكتركت”
لا حظت على الفيديو المسموم انه يحاول ان يؤكد على الأصول غير العربية لعلماء الحضارة الاسلامية في نزوع شعوبي واضح، فيتملح بذكر طوس وفاراب وبخارى، ونحن والله لا بضيرنا ذلك، ولكن الرجل الأثيم يكعّ، عندما يصير الى ذكر الفيلسوف “الكندي” بأصوله العربية القحة!!
بالجملة:
عدد قليل جدا في تاريخ الحضارة الاسلامية ١٤٠٠ عام قتل على الرأي الديني أو العلمي ولو تفحصنا الأسباب الحقيقة وراء مقتل العدد الأكبر في هذا القليل. سنجدها سياسية محضة، وليست شرعية. ولا فكرية.وقد تجد في كتب التاريخ ان بشار بن برد مثلا قتل على الزندقة، لمجاهرته بالفجور والدعوة اليه، ولكن الحقيقة، الذي قتل بشار قصيدته التي يمدح فيها ابا مسلم الخراساني يوم حاول الانقلاب على أبي جعفر المنصور. والتي كان مطلعها: أبا جعفر ما طيب عيش بدائم..
في حضارة استمرت وامتدت ألفا واربع مائة عام يقع الحدث الشاذ ليؤيد القاعدة. وليس ليكون القاعدة.
احذروا التزييف.
احذروا الترويج للزيف أيضا
لندن/ ١٨ رمضان/ ١٤٤٣ – ١٩/ ٤/ ٢٠٢٢
زهير سالم : مدير مركز الشرق العربي
=======
تعقيب لأحد الفضلاء:
لديّ ملاحظات إثرائية:
.
- الاتهام والوصف بالزندقة والكفر في تاريخ الحضارة الإسلامية، بعضه كان كيدا وباطلا وبعضه كان له موجبه الشرعيّ المعتبر. فقد يشطّ في ذلك بعضهم فيفتتن ويظلم في نسبة أحدهم أو مقالاته إلى الكفر والزندقة وهذا من مزالق وانحراف حملة الشريعة وعلوم بالكتاب والسنة نسأل الله العافية.
لكن هذا لا يجعلنا ننفي حقيقة وجود مسائل الأسماء والأحكام كالكفر والزندقة. وإلا فما هو حكم من يقول بأن الأنبياء هم حكماء وأن هذه الرسالات التي جاؤوا بها من تأليفهم، ونسبتهم إلى الكذب الحكيم الذي به يحققون صلاح البشرية!. أو من قال ببعض المقالات والعقائد الباطنية وزيّنها وفتن الناس بها. أو أولئك الذين أعملوا السيف والقتل في الأمة باسم الدّين والإله كزنادقة الخوارج.
. - أما مسألة القتل بتهمة الزندقة والكفر فهي في الشريعة من شأن السياسة والحكم، والراجح فيها أنها من أبواب التعزير لا الحدود التي ترجع إلى اجتهاد الحاكم ومن مسؤوليّته. والنص الجامع لها قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَ ٰۤؤُا۟ ٱلَّذِینَ یُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَیَسۡعَوۡنَ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن یُقَتَّلُوۤا۟ أَوۡ یُصَلَّبُوۤا۟ أَوۡ تُقَطَّعَ أَیۡدِیهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَـٰفٍ أَوۡ یُنفَوۡا۟ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَ ٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡیࣱ فِی ٱلدُّنۡیَاۖ وَلَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِیمٌ}
[سُورَةُ المَائـِدَةِ: ٣٣]
فترجع المسألة لنظر وتقدير الحاكم.
ثم إن في الحكام السّاسة من يسيء ويستغل ويبطش ويطغى فيسارع في خصومه ربما دون تبيّن أو بظلم وعسف وطغيان كما لا يسارع في غيرهم. وربما حمى من قد يستحق إنزال أشد العقوبات عليه شرعا لقرابة أو مناصرة أو نحوه.
ولذلك الحاكم هو ممن تسعّر بهم النار. وجاء الوعيد على ذلك بمن لم يحكم بما أنزل الله بين الكفر والظلم والفسق.
. - لا بدّ والحال هذه من عدم الخلط بين توصيف أحد المذكورين بالزندقة والكفر – بحق أو بباطل – وبين أحكام القتل. فالأولى مهمة حرّاس الدين (العلماء)، والثانية مهمّة حرّاس البلاد والثغور والأمن (الحكام).
.
والله تعالى أعلم