تحقيق حال الحلاج فيما نسب إليه من الحلول والاتحاد
هذا مقال محقق وموضوعي حول هذه المسألة أخذته مما كتبه صديقنا الأخ الفاضل د.مدين الهواري في رسالته للدكتوراة وهي بعنوان “نظرية المعرفة بين المعتزلة والصوفية حتى القرن الخامس الهجري” حيث قال فيها:
إذا كانت غلبة حال الفناء قد أدت بالبسطامي إلى القول بالاتحاد، فإنها قد أدت بشخصية أخرى شهيرة وهي الحلاج (1) إلى القول بالحلول، أي حلول الألوهية بالبشرية، أو البشرية بالألوهية (2) ، وهو ما يفهم من بعض أقوله في تعبيره عن حالة فنائه حيث يقول شعراً:
عجبت منك ومني … أفنيتني بك عني
أدنيتني منك حتى … ظننت أنك أني (3) .
(1) الحلاج: هو الحسين بن منصور الواسطي البيضاوي، شخصية صوفية شهيرة، صحب الجنيد والنوري، وقد اختلف الناس فيه ما بين مكفّر له ومعتقد لولايته. وقد ذهب بعض الصوفية كما ذكر المناوي إلى ولايته، ومنهم القشيري في مواضع كثيرة من رسالته وإن لم يترجم له في رجال الرسالة، وترجم له السّلَمي وذكر من صحح له حاله وأثنى عليه وحكى أقواله، ورده الجمهور. وقد قتل مصلوباً لاتهامات وجهت إليه بعد أن أفتى العلماء بإباحة دمه في عهد الخليفة المقتدر بالله سنة309هـ. انظر: المناوي، الكواكب الدرية 1/544. السلمي، طبقات الصوفيةص236، ابن خلكان، وفيات الأعيان 2/140، ابن الجوزي، تلبيس إبليس211-214، أخبار الحلاج ص 68 ،103 تح. سعيد عبد الفتاح، المكتبة الأزهرية. السمعاني، الأنساب 2/292، دار الفكر ط1، 1998م.
(2) انظر: أبو الوفا الغنيمي التفتازاني، مدخل إلى التصوف الإسلامي ص123. وليس الحلاج هو الشخصية الوحيدة التي قالت بالحلول- وإن كان هو أشهرها- فإن هناك بعض من ادعى التصوف قد نُسب إليه ذلك، وهذا ما يتبين من مناقشة السراج الطوسي لهم ورده على من قال بذلك في كتابه اللمع، مسألة الغلط في الأصول ص541.
(3) المناوي، الكواكب الدرية 2/26.
ومن أقواله في فنائه وحلوله: “يا أيها الظانّ لا تحسب أني أنا الآن، أو يكون أو كان، كأني هذا الجلد العارف، أو هذا حالي، لا بأس إن كنت أنا، ولكن لا أنا” (1) . ويقول: أنا أنت بلا شك فسبحانك سبحاني. وتوحيدك توحيدي وعصيانك عصياني” ويقول: “
يا جملة الكلِّ لست غيري … … فما اعتذاري إذاً إلي” (2) .
وقال أيضاً:
رأيت ربي بعين قلبي … … … فقلت: من أنت؟ قال: أنت
فليس للأين منك أين … … وليس أين بحيث أنت (3)
ولذلك قال مصرحاً عن فنائه عن ذاته وعن حلول محبوبه فيه:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا … … نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته … وإذا أبصرته أبصرتنا (4) .
وقال أيضاً في حلول محبوبه فيه:
أنت بين الشغاف والقلب تجري … مثل جري الدموع من أجفاني
وتحلُّ الضمير جوف فؤادي … كحلول الأرواح في الأبدان (5) .
وفي هذا الأبيات يصرح الحلاج بلفظ الحلول، وخصوصاً في هذه الأبيات التالية حيث يعبِّر عن ذلك بحلول اللاهوت بالناسوت فيقول:
سبحان من أظهر ناسوته … … سِرَّ سَنَا لاهوته الثاقب
… … ثم بدا في خلقه ظاهراً … في صورة الآكل أو الشارب
حتى لقد عاينه خلقه … … كلحظة الحاجب بالحاجب (6) .
وهو يعلن الحلول مع الامتزاج بين البشرية والألوهية في قوله:
مزجت روحك في روحي … … كما تُمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسك شيء مسني … فإذا أنت أنا في كل حال (7) .
(1) الحلاج، الطواسين ص138.تح.لويس ماسنيون، إعداد:رضوان السِّح وعبد الرزاق الأصفر، دار الينابيع. 2003م.
(2) أخبار الحلاج ص56، 60.
(3) الحلاج، الطواسين ص146.
(4) ابن خلكان، وفيات الأعيان 1/184.
(5) السلمي، الطبقات ص103.
(6) ابن الجوزي، تلبيس إبليس، ذكر تلبيسه على الصوفية ص212. ابن كثير، البداية والنهاية11/134، الذهبي، سير أعلام النبلاء 14/325.
(7) ابن كثير، البداية والنهاية 11/133، البغدادي،تاريخ بغداد 8/511، الذهبي، تاريخ الإسلام 23/47.
وفي هذه الأحوال التي يعبر فيها الحلاج عن فنائه وحلوله ينطق بعبارته الحلولية المشهورة:” أنا الحق” (1) .
فتظهر هذه الأقوال السابقة كلُّها أن الحلاج يقول بالحلول والامتزاج مع الإله في حالة الفناء التي يعيشها، وأنه لم يعد له وجود، بل وجوده ووجود الألوهية صار واحداً، ولا تفريق بينهما. ولكن البحث يظهر بأن هنالك أقوالاً أخرى للحلاج حول القول بالحلول والامتزاج تخالف تماماً هذه الأقوال، فهو يعلن بشكل واضحٍ وصريحٍ نفيَ الحلول والامتزاج، فيقول محذراً للمتوهمين بأن الألوهية يمكن أن تمتزج بالبشرية:”من ظنَّ أن الألوهية تمتزج بالبشرية، أو البشرية تمتزج بالألوهية فقد كفر، فإن الله تعالى تفرد بذاته وصفاته، فلا يشبههم بوجه من الوجوه، ولا يشبهونه بشيء من الأشياء، وكيف يتصور الشبه بين القديم والمحدث” (2) .
كما يصرح بنفي الحلول وأنه يتعارض مع التوحيد فيقول:”معرفته توحيده، وتوحيده تمييزه من خلقه، ما يتصور في الأوهام فهو بخلافه، كيف يحلُّ به ما منه بدا، أو يعود إليه ما هو أنشأه” (3) .
(1) الحلاج، الطواسين، طاسين الأزل والالتباس ص158.ونصه: “وقلت أنا: إن لم تعرفوه فاعرفوا أثره، وأنا ذلك الأثر، وأنا الحق؛ لأني مازلت أبداً بالحق حقاً”. وفي أخبار الحلاج ص97: وقال أحمد بن فاتك: سمعت الحلاج يقول: أنا الحق والحق للحق حق، لابس ذاته فما ثمَّ فرق. وانظر: الذهبي، سير أعلام النبلاء 14/330.
(2) أخبار الحلاج ص72.ويقول أيضاً:”مع أن ناسوتيتي مستهلكة في لاهوتيتك غير ممازجة إياها، ولاهوتيتك مستولية على ناسوتيتي غير مماثلة لها”. أخبار الحلاج ص123ضمن ملاحق ونصوص العز بن عبد السلام والحلاج.
(3) أخبار الحلاج ص66.
ولذلك نجده يملي عقيدته على تلاميذه فيقول:”إن الله تبارك وتعالى وله الحمد ذاتٌ واحدة، قائمٌ بنفسه متفرد عن غيره بقدمه، مُتوحدٌ عمن سواه بربوبيته، ولا يُمازجه شيء، ولا يخالطه غيره، ولا يحويه مكان، ولا يدركه زمان، ولا تقدره فكرة، ولا تصوره خطرة، ولا تدركه نظرة، ولا تعتريه فترة” (1) .
ويبين الحلاج أنَّ ما يحصل للأولياء من الكشف والتجلي في أحوال الفناء لا يخرجهم عن هذه العقيدة الصحيحة أبداً،”وإنما ظهر وتجلى لأوليائه بوجهين، تجلى لمخلوقاته فصاروا لا يرون شيئاً حتى يروا الله معه، لا على سبيل الاشتراك والممازجة، بل ظهر لهم في الأشياء كلها كما ظهر الصانع في مصنوعاته” (2) . وهذا ما جعله يقول:” ما انفصلت البشرية عنه، ولا اتصلت به” (3) . أي إن البشرية غير متصلة بالله تعالى، وإن كانت لا تنفصل عنه من حيث تجلي الله تعالى عليها؛ لأنه لا تقوم إلا بالله فهو صانعها.
(1) أخبار الحلاج ص64.
(2) أخبار الحلاج، ص60.
(3) السلمي، طبقات الصوفية، ص31. أخبار الحلاج، ص52.
وهناك نصوص أخرى كثيرة للحلاج تظهر أنه يفرق بين القديم والمحدث، وينزه الله تعالى عما لا يليق به من صفات المخلوقات فمنها: قوله:” ألزم الكل الحدث؛ لأن القِدم له…إنه تعالى لا يظله فوق، ولا يقله تحت، ولا يقابله حدُّ، ولا يزاحمه عِند، ولا يأخذه خلف، ولا يحده أمام…تنزَّه عن أحوال خلقه، ليس له من أحوال خلقه مزاج، ولا في فعله علاج، باينهم بقِدمه كما باينوه بحدوثهم” (1) . ويقول:”ولم يُصب مشاكلة الحق إلا من آمن بالذات والصفات، وكفر باللَّات والآلات، ولازم التوحيد والتنزيه، وأثبت الصفة ونفى التعطيل والتشبيه” (2) .
فهذه الأقوال والنصوص المنقولة عن الحلاج التي تظهر لنا بأنها متعارضة قد أخرجت عدة تفسيرات مختلفة، فمنها: القول بتناقض الحلاج، ومنها أنه كان يتحاشى بهذه الأقوال سخط الفقهاء ونقمتهم عليه، ومنها أن للحلاج مذهباً فلسفياً خاصاً به.
(1) أخبار الحلاج ص66، وانظر أيضاً ص85، 86.
(2) أخبار الحلاج ص53. وانظر قوله في المعرفة والتوحيد: “المعرفة وراء الوراء، ووراء المدى، ووراء الهمة، ووراء الأسرار، ووراء الأخبار، ووراء الإدراك، هذه كلها شيء لم يكن فكان، والذي لم يكن ثم كان لا يحصل إلا في مكان، والذي لم يزل كان قبل الجهات والعلات والآلات، كيف تتضمنه الجهات وكيف تلحقه النهايات”. الحلاج، الطواسين،(بستان المعرفة) ص172. أخبار الحلاج ص42. وقوله: “والحق حق، والخلق خلق، ولا باس” الحلاج، الطواسين، بستان المعرفة ص174. وقد سئل الحلاج عن التوحيد فقال: “تمييز الحدث عن القدم ثم الإعراض عن الحدث والإقبال على القدم، وهذا حشو التوحيد، وأما محضه فالفناء بالقدم عن الحدث، وأما حقيقة التوحيد فليس إليه سبيل إلا لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – “. أخبار الحلاج ص98.
ومنها القول بأن الحلول الذي قصده هو حلول مجازي غير حقيقي، وهو لا يعدو أن يكون مجرد شعور نفسي، يتم في حال الفناء، بحيث تُستهلك بشرية الحلاج فلا يعود يشعر بها، ولا يرى إلا الله تعالى واحداً أحداً، فينطق بتلك الشطحات التي تُعبِّر عن هذه الحال من الاستغراق والفناء عن كل شيء، حتى عن نفسه وإرادته وفنائه، وهذا هو ما تمليه علينا النصوص الحلاجية السابقة (1) .
ولذلك نجده يقول عن سبب قوله:(أنا الحق):” يا قوم لما أخذني مني، وسلبني عني، تلاشت أوصاف حَدَثي لما ظهر سلطان قِدَمه، فكان الحَدَثُ كأن لم يكن، وبقي القِدم كأن لم يزل، ثم فنِيت إنِّيتي في إنِّيته، وذهبت هويتي في هويته، وتلاشت ناسوتيتي في لاهوتيته، ثم نظرت منه إليه فلم أَرَ إلا هو، وسمعت منه عنه فلم أسمع إلا هو، ونطقت له به فعلمت أن ليس هو إلا هو، فقلت: أنا هو. ولئن قلت: أنا الحق، فما عدلت عن الحق؛ لأني أنا الحق في محبته، وهو الحق في مملكته، ولئن كان سكري نمَّ على سرِّي، فقد عربد وجدي على وجودي، وجعل حدِّي محو حدودي” (2) .
(1) أبو الوفا الغنيمي التفتازاني، مدخل إلى التصوف الإسلامي ص 123.
(2) أخبار الحلاج ص126، ضمن ملاحق ونصوص، العز بن عبد السلام والحلاج، والظاهر أنها حكاية حال على لسان الحلاج. ومن أقواله أيضاً التي تدل على فنائه واستهلاكه فكأنه لا وجود له فيشطح، قوله: ” لكن ليس يستتر عني لحظة فأستريح حتى استهلكت ناسوتيتي في لاهوتيته، وتلاشى جسمي في أنوار ذاته، فلا عين لي، ولا أثر، ولا وجه، ولا خبر”. نسب هذا النص الدكتور التفتازاني إلى أخبار الحلاج ولم أجده فيه. انظر: مدخل إلى التصوف الإسلامي ص 123. ولكن وجدت قوله: “يا أهل الإسلام أغيثوني فليس يتركني ونفسي فآنس بها، وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها، وهذا دلال لا أطيقه”. أخبار الحلاج ص76.
وعلى ذلك فمن الممكن أن تُحمل عبارات الحلاج الناطقة بالحلول بأنها ليست على حقيقتها، وإنما هي بسبب حال الاستغراق في الفناء الذي لا إرادة فيه لصاحبه بما يقول وينطق من شطحات، ومن ذلك قوله:”وإن نطق بالتوحيد نطق به غلبة وقهراً” (1) . فيكون معذوراً بذلك كما عُذر البسطامي في شطحاته.
ويشهد لما ذكرت أنه كان آخر ما تكلم به الحلاج وهو يقتل قوله: “حسبُ الواجد إفرادُ الواحد”، حتى رقّ له كلُّ من سمعه من المشايخ (2) .
(1) أخبار الحلاج ص83.
(2) السمعاني، الأنساب 2/294، أخبار الحلاج ص63، 68. السلمي،حقائق التفسير 2/226.
ولذلك يَعذُر الإمام الغزالي الحلاج في شطحاته من خلال موقفه من شطحات الصوفية وبيان تفسير حدوثها (1) فيقول:”وهذه الحالة إذا غلبت سميت بالإضافة إلى صاحب الحال فناء، بل فناء الفناء؛ لأنه فني عن نفسه وفني عن فنائه، فإنه ليس يشعر بنفسه في تلك الحال ولا بعدم شعوره بنفسه، ولو شعر بعدم شعوره بنفسه، لكان قد شعر بنفسه، وتسمى هذه الحال بالإضافة إلى المستغرق فيها بلسان المجاز اتحاداً، وبلسان الحقيقة توحيداً، ووراء هذه الحقائق أيضاً أسرار لا يجوز الخوص فيها” (2) .
(1) كما بينت موقف الغزالي من الشطح والاتحاد سابقاً في مسألة (الفناء والحلول)ص399، وانظر قوله في تفسير هذه الحالة: ” العارفون بعد العروج إلى سماء الحقيقة اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق. لكن منهم من كان له هذه الحالة عرفاناً علمياً، ومنهم من صار له ذلك ذوقاً وحالاً وانتفت عنهم الكثرة بالكلية واستغرقوا بالفردانية المحضة واستهوت فيها عقولهم فصاروا كالمبهوتين فيه ولم يبق فيهم متسع لذكر غير الله ولا لذكر أنفسهم أيضاً فلم يبق عندهم إلا الله فسكروا سكراً وقع دونه سلطان عقولهم فقال بعضهم: أنا الحق ، وقال آخر: سبحاني ما أعظم شأني ، وقال الآخر: ما في الجبة إلا الله. وكلام العشاق في حال السكر يُطوى ولا يحكى فلما خف عنهم سكرهم ردوا إلى سلطان العقل الذي هو ميزان الله في أرضه عرفوا أن ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد بل يشبه الاتحاد مثل قول العاشق في حال فرط العشق: أنا من أهوى ومن أهوى أنا*نحن روحان حللنا بدنا”. الغزالي، مشكاة الأنوار ص276. ضمن مجموعة رسائل الإمام الغزالي السابقة.
(2) الغزالي، مشكاة الأنوار ص 277 . وانظر للغزالي أيضاً حول الشطح ورفضه له أو تأويله: إحياء علوم الدين1/36، 2/291، 3 /407، المقصد الأسنى ص153، 154 ،155. فقد أفاض الغزالي في بيان ذلك.
فقول الحلاج:” أنا من أهوى، ومن أهوى أنا”، أو قوله:” أنا الحق” مؤوَّلٌ على غير حقيقته؛ فإنه لا يعني به أنه هو الله تحقيقاً، بل كأنه هو؛ من حيث استغراقه به، فيعبر عن هذه الحالة بما ذكر على سبيل التجوُّز (1) ، وكذلك الحال بالنسبة للأقوال الأخرى في هذا المعنى.
وهكذا فإن الصوفية الذين تصدر منهم أقوال تفيد الاتحاد أو الحلول، فهم لا يؤاخذون بها، وإنما تُعد شطحات زلَّت بها ألسنتهم لغلبة أحوالهم ووارداتهم من غير إرادتهم لها، ولكنَّ ذلك ماداموا يؤكدون على تنزيه الله تعالى ووحدانيته وقدمه ومخالفته للحوادث في حال صحوهم.”
(1) الغزالي، المقصد الأسنى153. وفي تعبير الغزالي عن حالة الفناء هذه(بكأنه هو) ما يحلُّ مشكلة الاتحاد والحلول المنسوبة إلى الصوفية، على الأقل إلى كبارهم وشخصياتهم المشهورة، أما نسبتها إلى غيرهم ممن ادعوا التصوف فقد رد علهم الصوفية أنفسهم كما فعل الطوسي والغزالي وغيرهم.