[9] هل صحيح أن لله يدين؟*
https://www.facebook.com/groups/385445711569457/posts/437312749716086/
خلاصة ما سبق هو أن ابن تيمية ومن معه اضطربت أقوالهم في إثبات الجارحة ولوزامها، فمرة ينفون ذلك أو يكادون، ومرات يثبتونها أو يكادون، والأصح عندهم التوقف في ذلك فلا ينفون ولا يثبوت الجوارح لله.
والسبب في اضطرابهم أنهم لا يستطيعون أن يثبتوا الصفات الخبرية كاليدين والوجه ونحو ذلك مع نفي كونها أعضاء أو جوارح مطلقا، لأنه هذا هو عين التفويض الذي يعتبره ابن تيمية شر أقوال أهل البدع والإلحاد.
وفي الوقت نفسه لا يستطيعون أن يصرحوا بأن اليدين والوجه ونحوهما جوارح وأعضاء، لأن هذا تجسيم صريح لله، وهو ما يفر منه ابن تيمية وأتباعه، فضلا عن أن هذا التصريح لم يُنقل عن السلف بل الثابت عن السلف والخلف هو تنزيه الله عن الأعضاء والجوارح، وهذا ـ أي تنزيه الله عن الأعضاء والجوارح ـ ما نص عليه أيضا عثمان الدارمي وابن تيمية في بعض المواضع وابن القيم فيما نقله عنه الموصلي في مختصر الصواعق كما سبق[1]، وإن كان هذا النفي طريا غير قاطع لأنه جاء في سياق المناظرة على ما سبق توضيحه.
وهكذا نرى أن ابن تيمية ومدرسته ليس عندهم جواب قاطع حول أنه هل لله يدين على معنى أنهما جارحتان أم ليستا بجارحتين [2]؟
ولقد قلت سابقا إن ابن تيمية وأتباعه يلجؤون في مثل هذه الحالة إلى دعوى الإجمال، ولكنني هنا لم أجد نصا لابن تيمية ادعى فيه أن الجارحة لفظ مجمل لا يُنفى عن الله ولا يُثبت حتى يُستفصل من القائل، بل إن ابن تيمية في بعض المواضع نفى أو كاد عن الله الجوارح كما سبق[3].
نعم، وجدت أحد السلفية ادعى أن الجارحة لفظ مجمل وهو الشيخ عبد الرحمن البراك في شرح العقيدة الواسطية(1 / 89) حيث قال: “له يدان – تعالى- يفعل بهما يخلق بهما يأخذ بها ما شاء كيف شاء ولكن لا نكيفها ولا نتخيلها أبدًا نؤمن بهما بأن لله يدين حقيقة يفعل بهما …. ولا نقول: إنه له يدان وليستا جارحتين فإن هذه العبارة يطلقها بعضهم وهي عبارة مبتدعة موهمة، تُوهم وقد تتضَّمن نفي حقيقة اليدين فلفظة جارحة تحتاج إلى تفسير من أين له يدان حقيقة”[4].اهـ
كذا قال البراك، والمتأمل في قوله: ” ولا نقول: إنه له يدان وليستا جارحتين فإن هذه العبارة يطلقها بعضهم وهي عبارة مبتدعة موهمة “، يعلم أن البراك أدرك أن نفي الجراحة هو التفويض بعينه، وبما أن التفويض باطل عنده، فقد بطل نفي الجارحتين عن الله عند البراك؛ ثم بعد ذلك لجأ البراك إلى دعوى الإجمال في الجارحة، لكي يتخلص من السؤال السابق وهو هل اليد لله جارجة أم ليست بجارحة، بيد أن البراك قدّم لنا حججا مضحكة في عدم نفيه للجارحتين، وبيان ذلك من وجوه:
الأول: قول البراك عن قولنا ” له يدان وليستا جارحتين ” بأن هذه العبارة “عبارة مبتدعة موهمة “، مما تضحك منه الثكلى إذ القول بأن لله يدين هو أيضا عبارة مبتدعة، إذ ليس في الكتاب ولا في السنة هذا العبارة بعينها، وإنما الذي ورد في الكتاب والسنة هو إضافة اليدين لله، والإضافة لا تتعين أن تكون إضافة صفة لموصوف، بل تكون الإضافة أيضا للتشريف والتكريم ونحو ذلك كما سيأتي مفصلا؛ وأول من قال لله يد هو الإمام أبو حنيفة رحمه الله ( توفي سنة150هـ) في كتابه الفقه الأكبر، هذا إن ثبتت نسبة الكتاب له أصلا، وأبو حنيفة نفسه الذي قال لله يد، قال أيضا: هي صفة بلا كيف ونفى عن الله صراحة أن يكون جسما أو عرضا أو جوهرا[5]، وأين هذا من عقيدة ابن تيمية الذي يعتبر نفيَ ذلك تجهما وإلحادا وعبادة للعدم…!!!!
وكذا كل من أثبت اليدين لله بعد أبي حنيفة من السلف والخلف كلهم صرحوا ـ سوى المجسمة ـ بأنهما ليستا جارحتين كالطبري(توفي 310هـ)[6] ثم الأشعري (324هـ)[7] ثم الإسماعيلي(371هـ)[8] ثم الخطابي(388هـ)[9] ثم الباقلاني(402هـ)[10] ثم السجزي(444هـ)[11] ثم ابن بطال(449هـ)[12] ثم البيهقي (458هـ)[13] ثم الخطيب البغدادي (463هـ)[14] ثم القرطبي(671هـ)[15] ثم ابن حجر(852هـ)[16] وغيرهم كثير كلهم قالوا : لله يد ليست جارحة.
ونحن هنا سردنا أسماء العلماء الذين أثبتوا لله اليدين وأبوا تأويلهما، ولكن مع ذلك صرحوا بأنهما ليستا جارحتين، وهؤلاء العلماء هم أنفسهم الذين يحتج بهم ابن تيمية على متأخري الأشاعرة الذين تأولوا اليدين، ليثبت ما يدعيه من أن متأخري الأشاعرة المؤولة خالفوا متقدميهم المثبتة؛ وليوهم الناس أنه موافق لمتقدمي الأشاعرة في الإثبات كما هو موافق للسلف!!!
والواقع أن كلا الادعائين غير صحيحين، إذ الأشاعرة متقدموهم ومتأخروهم لهم قولان في الصفات الخبرية المتشابهة، التفويض والتأويل، نعم قد يميل بعض الأشاعرة للتأويل أكثر وآخرون للتفويض أكثر وهذا موجود في متقدميهم ومتأخريهم، ولهذا الكلام شرح ليس هذا موضعه، ولكن يكفي من النصوص السابقة عن الأئمة وهم من المتقدمين والمتأخرين ـ وغالبهم أشاعرة ـ أن تعلم أنهم أثبتوا اليدين لله مع التنزيه؛ وستجد بالمقابل غيرهم يتأولون اليدين وهم أيضا من المتقدمين والمتأخرين، بل إن السلف أنفسهم منهم من تأول بعض آيات الصفات كما هو موضح في موضعه.
وكذلك فإن ابن تيمية مخالف لكل من أثبت اليدين لله من متقدمي الأشاعرة ومتأخريهم تماما كما هو مخالف للسلف، فإن كل هؤلاء مصرحون بنفي أن تكون اليد جارحة، وهذا هو عين التفويض الذي ينكره ابن تيمية أشد الإنكار، فكيف يدعي ابن تيمية أنه موافق لمذهب السلف ومتقدمي الأشاعرة والحالة هذه؟!!!!!
وعودا على كلام البراك وقوله إن نفي الجارحة عن الله: بدعة؛ لنقول: هذا لا يستقيم قط لما سبق بيانه، بل أمامكم أحد أمرين:
إما أن تقولوا: إن نفي الجارحة عن الله بدعة، وبالتالي وجب أن تقولوا أيضا : إن إثبات اليد لله هو أيضا بدعة، إذ كلا الأمرين وهما نفي الجارحة وإثبات اليد لم تَرِدا صراحة في الكتاب والسنة، إذ ليس في الكتاب ولا السنة نص صريح مثل “إن لله يدين”، تماما كما أنه لم يرد نص صريح في الكتاب والسنة أن يديه ليستا بجارحتين، غاية ما ورد هو إضافة اليدين لله، والإضافة ليس دائما من إضافة الصفة إلى الموصوف كما قلنا.
وإما أن تقولوا: نفي الجارحة ليس بدعة بل هو واجب لتزيه الله عن مشابهته للحوادث وتنزيهه عن مماثلته لخلقه، وهذا هو التفويض الذي أنكرتموه من قبل.
ولكن أما أن تقولوا إن إثبات اليدين واجب، ونفي الجارحة بدعة، فهذا قول مضطرب باطل، وهوى وتحكم، لما سبق بيانه.
ثانيا: قول البراك “توهم”، فهذا أيضا أمر مثير للسخرية، إذ…….انتظره
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*انظر السابق: https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/416275378486490/
[1] انظر: https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/415098231937538/
[2] ولقد طرحت هذا السؤال على العديد من السلفية وناظرتهم في ذلك، فلم أجدهم عندهم سوى التهرب والمراوغة واللعب بالألفاظ، وخذْ هذه المناظرة مثالا على ذلك:
[3] انظر: https://www.facebook.com/groups/385445711569457/permalink/415098231937538/
[4] ونحوه ما قاله علي الشبل في كتابه التنبيه على المخالفات العقدية في الفتح – (1 / 16): قال الحافظ في الفتح 3/541: “ومعاذ الله أن يكون لله جارحة. . “. فعقب بقوله: ت: نفي الجارحة عن الله من النفي المجمل الذي لم يرد به دليل شرعي…..
[5] فقد قال في الفقه الأكبر، فإنه قال “وهو شىءٌ لا كالأشياءِ، ومعنى الشىءِ إثباتُهُ بلا جسمٍ ولا جوهرٍ ولا عَرَضٍ، ولا حدَّ لهُ، ولا ضدَّ لهُ، ولا ندَّ له، ولا مِثلَ لهُ. ولهُ يدٌ ووجهٌ ونفسٌ كما ذكرَهُ اللهُ تعالى في القرآنِ،
فما ذكرَهُ اللهُ تعالى في القرءانِ، منْ ذكرِ الوجهِ واليدِ والنفسِ فهو لهُ صفةٌ بلا كيفٍ، ولا يقالُ إنّ يدَهُ قدرتُهُ أو نعمتُهُ، لأنَّ فيهِ إبطال الصفةِ، وهوَ قولُ أهلِ القَدَرِ والاعتزالِ”
[6] حيث قال الطبري في التبصير: وله يدان ويمينٌ وأصابع، وليست جارحةً، ولكن يدان مبسوطتان بالنعم على الخلق، لا مقبوضتان عن الخير
[7] حيث قال الأشعري في الإبانة: فإن قالوا : لأن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة
قيل لهم : ولم قضيتم أن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة ؟ …. فلم أنكرتم أن تكون اليدان اللتان أخبر الله تعالى عنهما يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ولا كالأيدي.اهـ
[8] جاء في اعتقاد أهل الحديث للإسماعيلي (ص: 2: 13- ولا يعتقد فيه الأعضاء، والجوارح ، ولا الطول والعرض ، والغلظ ، والدقة ، ونحو هذا مما يكون مثله في الخلق ، فإنه ليس كمثله شيء تبارك وجه ربنا ذو الجلال والإكرام .
[9] فقد قال البيهقي في الأسماء والصفات (2/ 161) : وقال أبو سليمان الخطابي رحمه الله : ليس فيما يضاف إلى الله عز وجل من صفة اليدين شمال لأن الشمال محل النقص والضعف ، وقد روي كلتا يديه يمين ، وليس معنى اليد عندنا الجارحة ، إنما هو صفة جاء بها التوقيف ، فنحن نطلقها على ما جاءت ولا نكيفها. وننتهي إلى حيث انتهى بنا الكتاب والأخبار المأثورة الصحيحة وهو مذهب أهل السنة والجماعة .اهـ
فقد نقل قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (5/ 59) عن الخطابي قوله في كتابه ” الغنية عن الكلام وأهله”:. فإذا قلنا يد وسمع وبصر وما أشبهها فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه ؛ ولسنا نقول : إن معنى اليد القوة أو النعمة ولا معنى السمع والبصر العلم ؛ ولا نقول إنها جوارح ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل ” هذا كله كلام الخطابي .اهـ
[10] قال الباقلاني في الإنصاف: “وقوله. ” ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ” وأنهما ليستا بجارحتين”.
[11] جاء في رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 230): وكلامه سبحانه بلا أداة ولا آلة ولا جارحة، وكلام المحدث لا يوجد إلا عن أداة وآلة وجارحة في المعتاد.اهـ
[12] جاء في شرح صحيح البخارى لابن بطال (3/ 412): والله تعالى لا يوصف بالجوارح فيكون له يمين وشمال.اهـ
وجاء أيضا في شرح صحيح البخارى لابن بطال (10/ 411): وفيه إثبات اليمين لله صفة من صفات ذاته ليست بجارحة خلافًا لما تعتقده الجسمية فى ذلك لاستحالة جواز وصفه بالجوارح والأبعاض، واستحالة كونه جسمًا، وقد تقدم القول فى حل شبههم فى ذلك.
[13] فقد نفى البيهقي مرارا في كتابه الأسماء والصفات الجوارح عن الله، فمن ذلك قوله في الأسماء والصفات (2/ 118): باب ما جاء في إثبات اليدين صفتين لا من حيث الجارحة لورود الخبر الصادق به.اهـ
وقال أيضا في الأسماء والصفات (2/ 127): فأما قوله عز وجل : {يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي}.
فلا يجوز أن يحمل على الجارحة ، لأن الباري جل جلاله واحد ، لا يجوز عليه التبعيض.
ولا على القوة والملك والنعمة والصلة ، لأن الاشتراك يقع حينئذ بين وليه آدم وعدوه إبليس.اهـ
وقال في الأسماء والصفات (2/ 159): واليد لله تعالى صفة بلا جارحة.
وقال أيضا في الأسماء والصفات (2/ 169):
وليس معنى اليد في الصفات ، بمعنى الجارحة حتى يتوهم بثبوتها الأصابع ، بل هو توقيف شرعي.اهـ
[14] جاء في تذكرة الحفاظ للذهبي (3/ 225): نا الحافظ أبو بكر الخطيب قال: أما الكلام في الصفات فإن ما روي منها في السنن الصحاح مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها،… السمع والبصر العلم ولا نقول: إنها جوارح ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل ونقول: إنما وجب إثباتها؛ لأن التوقيف ورد بها, ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] .
[15] حيث قال في تفسيره: فلا يجوز أن يُحمل على الجارحة؛ لأن الباري جلّ وتعالى واحد لا يجوز عليه التبعيض، ولا على القوّة والمِلك والنعمة والصّلة، لأن الاشتراك يقع حينئذٍ بين وليه آدم وعدوّه إبليس، ويبطل ما ذكر من تفضيله عليه؛ لبطلان معنى التخصيص، فلم يبق إلا أن تُحمَل على صفتين تعلّقتا بخلق آدم تشريفاً له دون خلق إبليس تَعلُّق القدرة بالمقدور، لا من طريق المباشرة ولا من حيث المماسَّة.اهـ
[16] قال الحافظ في الفتح 3/541: “ومعاذ الله أن يكون لله جارحة. . “.